السيسى والدولة والمواطن: «الحكاية مش حكاية رئيس ونظام»
- السيسى
- حكاية رئيس
- الرئيس عبدالفتاح السيسى
- الاحتفال بذكرى المولد النبوى الشريف
- محمود الكردوسى
- السيسى
- حكاية رئيس
- الرئيس عبدالفتاح السيسى
- الاحتفال بذكرى المولد النبوى الشريف
- محمود الكردوسى
[لو انتوا تصورتوا إن 30/6 و3/7 (ما انا بفكركم.. بفكركم) إن أنا كنت جاى يعنى طمعان فى حاجة تبقوا ظلمتوا الفكرة، وظلمتوا القيم والمبادئ اللى احنا وقفنا من أجلها. لو انتو تصورتوا إن الموضوع كله عشان أنا أبقى موجود هنا.. ده أنا أبقى أوحش منهم. أنا ما أعرفش الكلام ده لو هقوله.. فخامة الرئيس عدلى منصور هيزعل ولا لأ!. لكن أنا هقوله. معلهش. انتو قبل الانتخابات وقبل الترشح.. كتير من الناس قالت هو ليه مش عايز يقدم؟. أنا اتحايلت على فخامة الرئيس فى الفترة دى إن يترشح هو، وأكون أنا فى مكانى زى ما انا. أنا بقول الكلام ده وانا عارف إن ممكن فخامة الرئيس يزعل منى.. بس أنا بقول له عشان تعرفوا إن الكل زاهد فيها، لأنه تحدى كبير جداً، سواء كان دنيا أو دين.. عند ربنا يوم القيامة. أقول تانى: شهور وانا أقول له من فضلك.. السنة عدت.. تترشح تانى وانا أفضل فى مكانى وهعمل كل اللى ممكن يتعمل لجل خاطر مصر ولجل خاطرك. بس هو قال لى لا يمكن. هى كده تمام، وكفاية كده. أنا بس بقول كده عشان تعرفوا إن الحكاية مش حكاية رئيس ونظام، على الأقل بالنسبة لى، لكنها قضية بناء أمة.. بناء مصر والدفاع عنها وحمايتها، والجرى بأقصى ما يمكن عشان تتحط فى المكان اللى ربنا يقدرنا عليه ويوفقنا فيه]
(من حديث الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الاحتفال بذكرى المولد النبوى الشريف 7 نوفمبر 2019)
الرئيس لم يضرب أحداً على يده، ولم يطلب من أحد أن ينتخبه: لا فى الولاية الأولى، ولا فى الثانية. ولى صديق من محبى «25 يناير» (من الذين يرونها «ثورة القرن»، وأراها شقيقة فاجرة لـ«صفقة القرن» فى الرضاعة)، يجزم بأن السيسى كان يخطط لحكم مصر منذ كان ضابطاً صغيراً فى القوات المسلحة. وفى كل مرة أخالفه الرأى كان يؤكد لى بيقين واستماتة أن هذا الرجل «داهية»، وأنه شخص «باطنى»، أى لا أحد يعرف بالضبط ماذا يدور فى ذهنه. ولأننى من المؤيدين، الداعمين للرجل، كنت أختم نقاشنا منتشياً: يشرفنى أن يكون السيسى داهية، وربما باطنياً كما تقول (لضرورات تتعلق بمنصب الرئاسة). لكنه لم يكن يسعى إلى الحكم. وحتى إذا كان قد سعى فذلك استجابة منه لنداء أكثر من 30 مليون مصرى ملأوا شوارع وميادين مصر فى 30 يونيو، رافعين صوره (أحياناً إلى جوار صور عبدالناصر أو السادات أو كليهما فى لافتة واحدة).
السيسى لم يضرب أحداً على يده لينتخبه رئيساً لكنه لم يهبط على مقعد الحكم من برج عاجى. كان شاهداً على ما جرى منذ كارثة 25 يناير (هو أحد أعضاء مجلس المشير طنطاوى العسكرى وأصغرهم سناً): من عبث المرتزقة ودعاة إسقاط الدولة، إلى تولى عصابة الإخوان مقاليد الحكم وتنصيب أول «جاسوس مدنى منتخب» رئيساً لمصر منذ 1952. وعندما أصبح وزيراً للدفاع فى حكومة الإخوان، ومع تطور الأحداث وإعلان الجماعة عن أغراضها الدنيئة، أصبح بالنسبة للمصريين فى منزلة «الرئيس». لماذا؟. لأن عقيدة وروح القوات المسلحة أبت أن يقف مكتوف اليدين -وكأن الأمر لا يعنيه- أمام كل خيانات هذه العصابة!.
قبل اندلاع ثورة «30 يونيو» بشَّر السيسى المصريين بأن من تسول له نفسه المساس بشعرة من رأس مواطن سيدفع ثمناً باهظاً. لم يكن ذلك طموحاً إلى الحكم أو كلاماً حنجورياً، بل أحد تجليات عقيدة القوات المسلحة. ثم توالت جهود الرجل خلال تلك المرحلة: حاول -فى حدود منصبه كوزير للدفاع- أن يمنع محمد مرسى وعصابته من مصادرة الدولة المصرية والتعدى على هيبتها وسيادتها. جلس مع كوادر من الإخوان وبعض السلفيين، لكنه قوبل بتعنت وغطرسة، خاصة فى لقائه العاصف الذى استمر قرابة 45 دقيقة مع «أبو لهبهم» خيرت الشاطر. دعا مرسى إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة حقناً للدماء واحتراماً لإرادة المصريين، لكن مرسى «سمع وأطاع» وأبى واستكبر، وشكك فى أعداد المحتجين. عندئذٍ لم يجد السيسى مفراً من الاستجابة لإرادة المصريين وإزاحته فى الثالث من يوليو 2013، متحملاً كل تبعات هذه المخاطرة فيما لو فشلت لا قدر الله. هل كان الرجل يخطط ويفعل كل ذلك طمعاً فى مقعد الحكم؟. إن كان هذا ظنك فيه فالمؤكد أنك جاهل وجاحد، لأن الرجل كان يؤدى واجبه الوطنى. و«الواجب» فى أدبيات العسكرية المصرية سيف على رقبة الوزير والمجند، ودائماً يسبق كل «الحقوق»: «نفذ وبعدين اتظلم».
جرت فى النهر مياه كثيرة خلال الأسابيع القليلة التى سبقت ثورة 30 يونيو. لكننى أتذكر الآن أن شرائح عريضة من المصريين كانت فى تلك الفترة تسأل سؤالاً واحداً: متى يتدخل الجيش؟.. وماذا ينتظر؟. كانت عصابة الإخوان تضيق الخناق على المواطنين، وتهدد وتسحل وتقمع وتوغل فى تعنتها، واعتقادها بأنها ستظل تحكم لخمسة قرون، وأن مصر أصبحت فى عصمتها ولن تفك أسرها قوة على وجه الأرض. وكان المصريون من جانبهم يستنجدون بالجيش.. الجيش الذى هتف مرتزقة 25 يناير من قبل بسقوط حكمه، وتطاولت عليه مؤخراً طغمة من الجهلة وتجار الثورات والأوطان ونفايات عصابة الإخوان وغيرهم من كلاب السكك.
تدخل الجيش -وفق مناورة أو سيناريو محكم- وكانت يد الله حاضرة: «فأغشيناهم فهم لا يبصرون». أزيح الإخوان واختير المستشار عدلى منصور رئيساً انتقالياً لمدة عام، لم يكن للمصريين خلاله أية مطالب سوى أن يأتى عبدالفتاح السيسى رئيساً لمصر. الفقير قبل الغنى، والجاهل قبل المثقف، والمرأة قبل الرجل: «كله يهون عشان خاطر السيسى».. كان هذا لسان حال الغالبية الكاسحة من البسطاء. أما «المتربصون» فقد كانوا يثرثرون فى مجالسهم الخاصة بكلام بيزنطى، ظاهره الخداع ودس السم فى العسل: «نريده بطلاً شعبياً، وكفاه إنجازاً إزاحة الإخوان من الحكم»، وباطنه العداء للمؤسسة العسكرية (ومن ثم رفض ترشح السيسى للرئاسة وبقاؤه وزيراً للدفاع). ولولا خوف هؤلاء المتربصين من الاتهام بالوقوف ضد إرادة الملايين التى طالبت بالسيسى رئيساً.. لولا خوفهم من أن يقال إنهم «ثورة مضادة»، وإنهم مدعون، ذوو أهواء، لا تعنيهم إرادة الملايين ولا يحترمونها فى أعماقهم أصلاً (إذ تشكل خطراً على مكتسباتهم ولقمة عيشهم).. لولا ذلك لخرجوا فى مظاهرات تطالب بعدم ترشحه. أعرف واحداً ممن كانوا يضعون قدماً فى «25 يناير» والأخرى فى «30 يونيو»، حذر أكثر من مرة فى جلساته الخاصة من تورط «حمدين صباحى» -المرشح المنافس فى ذلك الوقت- أو توريطه من قبل مؤيديه فى التهجم على السيسى أو التطاول عليه: «سيخسر كثيراً.. وستضعف فرصه أكثر مما هى ضعيفة».
على كل حال أصبح السيسى رئيساً بإجماع غير مسبوق. ويوماً بعد يوم، بدأ هؤلاء المتربصون يتساءلون وقد علت أصواتهم وأسفروا عن جوهرهم المغرض: كيف لهذا الرجل أن يحكم وليس لديه برنامج أو مشروع؟.
فى تقديرى.. كانوا يريدون «مكلمة». يريدون «أجندة حكم» يتناقشون فى بنودها وفيما بين سطورها، ثم يحولون هذه السفسطة إلى حيثيات تدعم اعتقادهم الزائف بأنهم «نخبة» أو «معسكر معارضة»، وأنهم شركاء فى الحكم. وأظنهم يعرفون أننا نعرف أن معارضتهم كانت ولا تزال وستظل مدفوعة الأجر. وحتى نقاشاتهم البيزنطية يتم «تسييلها» وتحويلها إلى مقالات رأى أو أوراق بحثية، تُرسل إلى مراكز ومؤسسات خارج مصر (أغلبها مشبوه) لتعود إليهم دولارات واستضافات وأسهماً جديدة فى بورصة العمل السياسى!.
يعرف هؤلاء المتربصون أن برنامجاً رئاسياً معلناً ومفصلاً، بأولويات والتزامات واضحة، يحتاج إلى دولة يتوافر فيها حد أدنى من الاستقرار. دولة آمنة، غير مستهدفة، لم تتعرض لعقود من التجريف والنهب. لكن السيسى تسلم «شبه دولة» (وهو اشتقاق مهذب لوصف مبارك فى سنوات حكمه الأخيرة بأنها «خرابة»). وتسلم شعباً منهكاً، جائعاً، مستقطباً، لا شىء يستند عليه إلا زهوه أو «فشخرته» بأنه أسقط نظامين وحبس رئيسين، ويريد من الرئيس الثالث أن يحميه من الإرهاب، ويعالجه من أمراضه المزمنة، ويوفر له الرغيف والتعليم والسكن وفرص العمل. باختصار: يعوضه حرمان وبؤس أكثر من أربعين عاماً دون أن يطالبه ببذل أى مجهود.. فماذا فعل السيسى؟.
قرر أن يكون واقعياً: لم يغتر بشعبيته الكاسحة ولم يضعف أمامها، ولم يلزم نفسه فى البداية بسقف التوقعات الشاهق الذى يستظل به «المواطن أبوثورتين». اختار أن تكون الأولوية لإعادة بناء الدولة واستعادة هيبتها وتعظيم قدراتها العسكرية، لأنه كان يدرك حجم المخاطر والتهديدات الإقليمية والدولية التى تحيط بها. وبما أن الدولة التى تسلمها لا تبنيها عواطف أو «صعبانيات»، فقد اكتفى بهذه الأولوية (التى لا تتجاوز سطراً واحداً) برنامجاً لحكمه، على الأقل فى ولايته الأولى. بل وألحق بها شرطاً كان يدرك من البداية أنه قاسٍ، وقد يكون على حساب شعبيته: «لوحدى ما اقدرش». أى إن «المواطن أبوثورتين» مطالب بأن يكون شريكاً فى تلك المهمة. شريكاً منتجاً بقدر ما هو مستهلك، لديه استعداد حقيقى للقبول بأى تضحية أو تكلفة تُطلَب منه.
حتى قبل أن يصبح رئيساً.. أدرك السيسى أن الأوضاع البائسة، المزرية، التى وصل إليها المواطن فى ظل نظام الرئيس مبارك، كانت نتاجاً طبيعياً لتعامل هذا النظام مع مصر باعتبارها نموذجاً مكبراً لحارة «كُل واشكر»، وتعامله مع المصريين باعتبارهم «شريكاً مستهلكاً»، يأخذ ولا يعطى. نظام مبارك (الذى يترحم عليه التنابلة منذ فترة) كان يدير بشعار: «يا نحلة لا تقرصينى ولا عايز عسل منك». والمواطن بدوره كان يتواطأ مع هذا النظام ضد نفسه، رافعاً شعار: «ما حدش بينام من غير عشا». ثلاثون عاماً تحولت الدولة المصرية فى ثلثها الأخير إلى مائدتين: مائدة حكم للرئيس وحاشيته، لا ينوب المواطن من خيراتها إلا غسيل الصحون. ومائدة رحمن تمدها عصابة الإخوان جسوراً بين قرى وكفور مصر، ولا ينوب المواطن من «دنياها وآخرتها» إلا بطانية وزجاجة زيت وكيس سكر وحصيرة فى زاوية. وفى الأخير انهار كل شىء: الدولة والنظام والرئيس والمواطن. هذا ما ورثه السيسى ويجتهد الآن فى إصلاحه، مضحياً بالخيار الأسهل: المحافظة على شعبيته الكاسحة و«ترحيل» الأزمات، وتجنب جحود بعض المصريين وعويل بطونهم وحنينهم إلى «ميغة» عصر مبارك.
ظن المصريون أن إلحاح السيسى فى مسألة «شراكة المواطن» مجرد كلام خطب، وأن الرجل الذى أحبوه ومكنوه ورفعوه على أعناقهم لن يضيق عليهم ولن يثقل كواهلهم بأدوار ومسئوليات، وسيعيدهم، أو لا بد أن يعيدهم إلى عصر «الدولة البزازة»، حين كانت تجرى تحت أقدامهم أنهار العسل واللبن، وتدس القلة النافذة يدها فى جيب الكثرة المطحونة لتسرق حقوقها، فيدس كل مواطن يده فى جيب مواطن آخر ليسرق قوت يومه، ويعيش الجميع فى تبات ونبات، ويخلفوا 100 مليون!. صحيح أن السيسى خلصهم من حكم الإخوان وأنقذ البلد من حرب أهلية (كتر ألف خيره!). لكنهم سرعان ما تجاوزوا هذا الإنجاز، وجلسوا تحت سقف توقعاتهم الشاهق ينتظرون أياماً أكثر رغداً ورفاهية من أيام مبارك. باختصار، وبلسان حالهم: «احنا عملنا اللى علينا.. فاذهب أنت وربك فقاتلا.. إنا هاهنا قاعدون».
كيف يصل الرئيس بالمواطن إلى هذا السقف الشاهق؟. كيف يترجم انحيازه لهذا المواطن إلى أرض صلبة يقف عليها. إلى دولة قوية وحديثة وآمنة يتشرف بالانتماء إليها ولداً وحفيداً؟. لم ينخدع بالملابسات التى سبقت وصوله إلى الحكم. أغلق ملف «الشعبية الكاسحة». أدار ظهره لثرثرات ونطاعة المتربصين، ولكل ما يظنون -وكل ظنهم إثم- أنه «مجد شخصى للرئيس»، وبدأ منذ يومه الأول يعمل بكل طاقته. تحرك فى كل الاتجاهات، وفى مسارات متوازية وتوقيتات متقاربة جداً: مشاريع عملاقة لخلق بيئة مطمئنة وآمنة للاستثمار. مبادرات اجتماعية للنهوض بالمستوى المعيشى للبسطاء والمعدمين. تعظيم دور الأجهزة الرقابية لمواجهة فساد معتق، يعشش فى كل مفاصل ومؤسسات الدولة منذ 40 عاماً. اهتمام غير مسبوق بالمرأة وبتوسيع قاعدة تمثيلها فى الجهازين الحكومى والإدارى، واهتمام مماثل بقطاعات الشباب وتفعيل دورهم باعتبارهم قاطرة للتنمية فى المستقبل. رحلات مكوكية خارجية، بعضها سياسى والآخر اقتصادى، وملفات إقليمية وقارية أعيد فتحها وإحياؤها، تتعلق بهيبة ومصالح الدولة المصرية. وقبل ذلك وبعده، الوقوف فى وجه موجات متلاحقة من إرهاب عصابة الإخوان وأذنابها، ومواجهة حروبهم وميليشياتهم الإلكترونية التى لا تكل ولا تمل. وفى كل ذلك وغيره.. كان يتحرك بإيقاع متسارع، بل شديد التسارع أحياناً، وبأقل تكلفة.
لم يكن المواطن العادى، مواطن الطبقة المتوسطة، يشعر خلال السنوات الأولى لحكم السيسى بأية ضغوط. كان مؤيداً وداعماً لاختيارات الرئيس ولمشروعاته الكبرى (64 ملياراً خرجت فى أقل من أسبوعين لتمويل قناة السويس الجديدة). وكان غبار الفوضى والخراب اللذين أعقبا فاجعة 25 يناير لا يزال عالقاً، وعصابة الإخوان تكثف من أعمالها الإرهابية.. وهو ما ضاعف من تماسك المصريين وقبولهم للتحدى ودعمهم للرئيس. غير أن الاختبار الحقيقى لمدى صلابة المواطن وإيمانه بالمشروع الوطنى للسيسى.. هو إطلاق برنامج الإصلاح الاقتصادى. هنا.. أفاق المصريون على رئيس مفرط فى «واقعيته»: «تريدونها دولة على مقاس احتياجاتكم؟. حسناً.. لا بد أن تدركوا أولاً أن مصر تعيش حرب استنزاف طاحنة، وأن فاتورة بنائها ستكون باهظة، ولا بد أن نتقاسمها جميعاً». هذا ما قصده الرئيس عندما رفع فى بداية حكمه شعار «لوحدى ما اقدرش».
تحمل المصريون عبء هذه الفاتورة بـ«طولة بال» يُحسدون عليها. بل هبطوا بسقف توقعاتهم إلى مستوى «دولة بلا كهرباء أفضل من كهرباء بلا دولة». نجح الرئيس إذن فى فرض «واقعيته». لكنه من جانبه لم يترك مناسبة إلا وعبَّر من خلالها عن تقديره وامتنانه للمواطن الذى تحمل هذا العبء: خوفاً على بلده أولاً، وتشبثاً برئيسه ثانياً. هذا الوعى طمأن الرئيس، وضاعف من ثقته فى أن جموع المصريين فى ظهره رغم أنينهم وعدم رضائهم ونبرة انتقادهم الحادة.
توقع المتربصون أن انتخابات الولاية الثانية للرئيس ستكون مخزية، وأقل زخماً من سابقتها. لكنها مرت بسلام. وحتى من لم يشارك -ثقة فى فوز السيسى أو لاختلافه مع سياساته وتوجهاته- كان يدرك جيداً أهمية وضرورة أن يكمل الرجل مشروعه الوطنى، بينما مات الكلام تماماً حول فكرة «البديل»، وكان لسان حال الجميع -المؤيدين والمعارضين- أن مصر لن يقدر على همها وطموحها الجارف سوى هذا الرجل.
بدأ السيسى ولايته الثانية بالتأكيد على ضرورة تخفيف العبء عن المواطن، خاصة بعد أن قطعت مصر شوطاً طويلاً فى برنامج الإصلاح، واتضحت ملامح الدولة التى يحلم بها، واستقرت أركانها. بدأ يتحدث عن ضرورة وصول ثمار هذا الإصلاح إلى مستحقيها. أطلق المزيد من المبادرات فى مجالات معيشية متعددة ومتنوعة. مارس ضغوطاً هائلة على الحكومة لملاحقة احتياجات المواطن وتلبيتها فى أسرع وقت. أصبح أكثر انفتاحاً وشفافية وصراحة فى كل المؤتمرات واللقاءات المفتوحة. يتحدث فى كل كبيرة وصغيرة، و«يذاكر» كل رقم وكل معلومة، ويرد على كل الأسئلة بشجاعة ومسئولية، وباستفاضة تتجاوز أحياناً خبرة ومعلومات المسئول التنفيذى، وزيراً كان أو مديراً صغيراً. متى ينام الرئيس؟ وكم ساعة يعمل؟. لا يهم. لماذا كان حاداً، أو مقتضباً، أو عفوياً، أو ساخراً، أو حزيناً؟. لا يهم. المهم بالنسبة لى شخصياً، ولآخرين يتفهمون مشقة إدارة دولة مثل مصر، أن الرجل يتفانى فى اجتهاده وإصراره على أن يبنى للمواطن دولة تحميه من المصير الأسود الذى يحاصره ويتربص به من الجهات الأربع، وينتظر لحظة الانقضاض عليه وتحويله إلى لاجئ: لا أكل ولا شرب ولا مدارس ولا مستشفيات ولا خلفة عيال ولا يحزنون. فقط «لاجئ»، وفى أحسن الأحوال «قفة عضم تحت أنقاض».
يحتاج وصول ثمار الإصلاح إلى المواطن وقتاً طويلاً، لأن التزامات الدولة المصرية ثقيلة والموارد شحيحة والحرب التى تخوضها ضد الإرهاب مكلفة وجبهاتها متعددة وجميعها مفتوحة وتديرها أجهزة مخابرات ووسائل إعلام ومنظمات دولية وميليشيات إلكترونية لا حصر لها. الرئيس من جهته يعرف جيداً كيف يتعامل مع كل ذلك، وقافلته تسير وتتقدم. لكن المتربصين فى الداخل والخارج يستغلون ضيق صدر بعض البسطاء وسخطهم على البلد بسبب صعوبة أحوالهم المعيشية، لتحريضهم على كراهية الرئيس وإسقاط هيبته، ومن ثم كسر هيبة الدولة والتمهيد لإسقاطها.
هناك بالتأكيد قلة غافلة تأثرت واهتزت ثقتها فى الجميع.. وفى كل شىء. هؤلاء مدوا الخط على استقامته، فأفاقوا ووصلوا فى النهاية إلى السؤال المرعب: هل سنعود إلى أيام الفوضى والخراب؟. منهم من عاد إلى صوابه: «البلد دى أحسن من غيرها». وهناك من كظم غيظه وقلة حيلته ووجد نفسه بين مطرقة وسندان: لا هو راضٍ، ولا باستطاعته المخاطرة بإعلان غضبه. أما الغالبية العظمى فقد استلهمت روح «30 يونيو» وانتفضت دفاعاً عن هيبة الدولة وهيبة الرئيس.
انتصر الرئيس إذن فى معركة «هز الثقة» بينه وبين المواطن من دون أدنى مجهود. تجاوز كل «تهويش» المتربصين ونباح الكلاب الضالة و«حفلطات» النخبة بثبات ليس غريباً عليه، وإن بدا متأثراً أحياناً بسبب التطاول على الجيش وعليه شخصياً. ولأنه من البداية رجل نظيف، عف اللسان، شديد الإيمان بالله وبوطنه وبقدرات شعبه، فإن كل ما أحاط ويحيط بمصر من مخاطر ومكائد وتحديات يضاعف من رسوخه، ويجعل المواطن -مهما كانت معاناته ومهما كان غاضباً أو «زعلاناً»- متشبثاً به. سألت سائق تاكسى كان يشكو ضيق أحواله، ويئن طوال الطريق من البيت إلى مقر الجريدة: هل أنت نادم على انتخابك للسيسى؟. فأجاب: «الراجل ما ضربش حد على إيده. احنا اللى اتحايلنا عليه. بس ما كانش العشم». قلت: «يعنى خذلك. طيب. ماذا لو أكمل ولايته الحالية واعتذر عن عدم الاستمرار فى الحكم»؟. فانتفض مذعوراً: «يا نهار اسود»!.
ظن المتربصون فى لحظة أن الأرض أصبحت ممهدة لإحداث وقيعة بين المواطن والرئيس، وازدحم المشهد السياسى بالقرود والانتهازيين والكلاب الضالة، حتى إن لصاً تافهاً تجرأ على الجيش والرئيس شخصياً، وانشغل بقذاراته نفر من ضعاف النفوس والباحثين عن «فرجة». لكنه سرعان ما هوى فى بكابورت الإخوان والينايرجية، ومات بفعل روائحهم العفنة بعد أن أخذوا غرضهم منه.
كان لا بد أن يمر المصريون باختبارٍ كهذا، بصرف النظر عن خسته وتفاهته. لكنهم خرجوا منه أكثر وعياً وخوفاً وغيرة على بلدهم وجيشهم ورئيسهم. أما الرئيس نفسه فلم تهتز فيه شعرة: الثبات، والإصرار على البناء والمواجهة، والثقة فى أن المواطن المصرى -خلافاً لغالبية شعوب الأرض- سينحاز فى النهاية إلى نهجه «الواقعى». وفى الهامش من كل ذلك: نبرة حزن خفيفة بدت فى تذكيرنا -خلال حديثه فى آخر مؤتمر شباب- بـ«وقفة 3 يوليو».
إن كان على المواطن البسيط فالرئيس مطمئن. المشكلة فى هؤلاء المتربصين (وهم بؤرة صديدية صغيرة تسبب ألماً لكنها لا تعطل مسيرة). هؤلاء جزيرة جهل وهوى بائرة ومنعزلة. هم مصدر «عكننة» الرئيس وحيرة المواطن، وهم الذين يقفون بين الاثنين، ويتوهمون أنهم أكثر دراية من السيسى -ومن أى رئيس سابق أو لاحق- بشئون الحكم. وأظن أن الرئيس لو جلس معهم فلن تكفيه ولاية رئاسية كاملة، وسيغرق فى جدل بيزنطى حول قضايا لا تسمن ولا تغنى مائة مليون مواطن من الجوع.
هل أسهبت؟. نعم.. وقاصداً، رغم أننى أميل إلى الكتابة المكثفة، فالموضوع يستحق ولا يخفت وهجه: مواطن ورئيس والدولة بينهما. هل كنت إنشائياً أو بسيطاً أكثر من اللازم؟. نعم.. وقاصداً. فالموضوع لا يتحمل التواءات وانبعاجات، وتشظى أساتذة -لا مؤاخذة- علوم سياسية. هل أجبت عن سؤال: لماذا ينبغى على المصريين أن يصبروا ويحترموا اجتهادات رجل، أخرجوه من بدلته العسكرية ليحكمهم، وأن يدافعوا عن اختياراته وقراراته، ثم يحاسبوه بالجملة؟. الإجابة خارج هذا المقال. هناك.. فى سوريا وليبيا واليمن والعراق والسودان وفلسطين ولبنان، وما قد يستجد من خراب.