سامي عبد الراضي يكتب: جريمة في القطار 934

سامي عبد الراضي يكتب: جريمة في القطار 934
- قطار 934
- محمد عيد
- شهيد التذكرة
- الكمساري القاتل
- تذكرة قطار
- هيئة السكة الحديد
- قطار 934
- محمد عيد
- شهيد التذكرة
- الكمساري القاتل
- تذكرة قطار
- هيئة السكة الحديد
هنا دماء على «تذكرة قطار».. هنا دماء بريئة لشاب يبحث عن «لقمة عيش حلال».. هنا ساعة يده لم تطلها الدماء.. كانت ذراعه ممتدة بعيدة.. الساعة سحبها أحدهم من يده بعد الوفاة وسلمها لصديق عمر الشاب: «خد يا ابنى دى ساعة صاحبك.. الله يرحمه».. هنا قطار مخيف.. وعجلات حديدية تدهس كل الأشياء ولا تعرف الرحمة، كما لا يقترب منها صدأ ولا يقاومها شىء.. وهذه قضبان ممتدة تحمل آلاف الأطنان من الحديد والبشر دون شكوى.. وبين العجلات هذه والقضبان الممتدة وبالقرب من قرية دفرة فى طنطا سقط جسد الشاب محمد عيد.. والتحمت العجلات بالقضبان لتفصل رأسه.. وتنتهى حياته فى ثوان معدودة.
كارت واحد
محمد عيد.. ابن شبرا الخيمة المزدحمة بـ«ناسها وشوارعها».. وجد نفسه يتيماً.. رحل والده وهو طفل.. رأى فى عينى والدته «الطيبة الجدعة» كل معانى التحدى.. وشاهد بعينيه كيف غابت شقيقته ولحقت بالأب.. بعد مقاومة «فاشلة» مع مرض السرطان اللعين.. محمد عرف طريقه إلى «الفن».. أو قل «الإحساس».. كان يكتب على «حبات المكرونة».. ويرسم.. ويصنع ميداليات وتحفاً.. كان فى البداية يبيعها هنا فى القاهرة أو فى شوارع شبرا الخيمة.. بـ«لسان حلو» وخجل يعرض بضاعته.. منذ سنوات قرر أن يجرب حظه فى الإسكندرية.. وهناك على «كورنيشها» التقى «نصفه الثانى» من يشبهه فى الموهبة والطباع والتحرك والتصرف والكفاح.. التقى أحمد سمير.. هذا يقاربه فى العمر.. نفس السنوات.. 23 سنة.. لا أكثر ولا أقل.. صارا شقيقين.. قل ذلك.. صارا صديقين.. أو قل روحين.. أو قل «احنا كارت واحد».. كما كان يقولها الشاب الضحية محمد عيد لـ«أحمد».. احنا كارت واحد يا أحمد.
الإسكندرية تقسو
زادت الرحلات بين «محمد وأحمد سمير».. هذا طريقهما.. وهذه بضاعتهما.. وهذا سفرهما الكثير.. الأسبوع الماضى.. كانا فى الإسكندرية.. بضاعتهما تزين الأيادى.. ولكن عكس رحلات كثيرة سابقة.. غابت الزبائن.. الجميع كان يهرب من المطر.. وكأن الشوارع خالية من المارة ومن «البيع والشراء».. واستقر الشابان فى شقة صغيرة.. الانتظار كان أملاً فى تحسن الجو.. وتوقف الأمطار.. وعودة الحركة.. ولكن لم يتغير شىء.. وبدأت الأموال معهما تصل لمرحلة «الخطر».. لا بد من العودة للقاهرة.. «يا أحمد.. هنرجع.. واضح إن القعدة ملهاش لازمة.. مش هنعاند ربنا.. وأسبوع واتنين نرجع تانى.. هو اللى بيرزق يا صاحبى».. أحمد كان «جدع» ويفهم صديقه من «نظرة عين».. لم يجادل.. : «أمان يا أبوعيد.. نرجع ونزود البضاعة.. ورزقنا موجود وربنا شايله.. نروح محطة إسكندرية.. وربنا يكرمنا بأى قطر «حنين» يوصلنا مصر.. نقعد شوية انت مع أهلك فى شبرا الخيمة.. وأنا فى الشرابية.. ونرجع تانى».
الكمسارى الطيب
حمل الشابان حقيبتيهما.. والبضاعة.. ووصلا إلى محطة قطار إسكندرية عند الثامنة والنصف مساء الاثنين.. صوت فى المحطة يعلن.. القطار كذا ينطلق فى تمام التاسعة إلى القاهرة.. وهذا ينطلق لهنا.. وهكذا.. وقعت عين محمد عيد على قطار عادى.. ليس مكيفاً أو تبدو عليه علامات: «ده تذكرته غالية».. ركبا.. إنه قطار الإسكندرية - المنصورة.. ننزل طنطا.. وربنا يكرم ويستر.. احنا معانا كام يا أحمد.. هكذا سأل محمد عيد.. ورد «رفيق الرحلة والعمر».. 35 جنيه.. احمر وجه الشاب.. وقال «سيبها ع الله».. تحرك القطار.. وبدأ الخوف يطل مع قدوم كمسارى القطار.. تذكرة يا أستاذ.. هنا اقترب أحمد سمير.. وبصوت منخفض همس فى أذن الكمسارى: «حضرتك.. أنا ومحمد جايين من إسكندرية.. كنا بنبيع بضاعة.. وبقالنا كام يوم هنا والله ما فيه أى استفتاح.. وفلوسنا خلصت.. وسامحنا».. قالها الشاب.. وأنفاسه سريعة.. وصوته مرتجف.. وبجواره كان محمد.. عيناه تتحركان بقوة.. بين ما يقوله صديقه.. وبين ردود فعل الكمسارى.. فى أقل من ثوان.. ارتفعت يد الكمسارى.. و«طبطب» على كتف أحمد وقال له: «خلاص يا ابنى.. ربنا يسهل لكم..» ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه الصديقين.. ولسان حالهما يقول: «هو فيه كده.. فيه ناس لسه طيبة.. هل الظروف ممكن تجمعنا تانى ونرد جميل للراجل ده».. دققا النظر فيه.. وحفظا ملامحه.. ونظرة عينيه.. وتكونت صورته قوية فى ذهن كل منهما.. وجلسا على مقعدين.. متجاورين.. حتى وصل القطار إلى محطة طنطا قرب الحادية عشرة مساء.. حاول الشابان مقابلة الكمسارى أو إلقاء نظرة عليه.. لكنه كان بعيداً فى عربة أخرى.. يتوه بين دفتره وأوراقه وقلمه وكشاف ضوئى يحمله وبين زحام الراكبين والنازلين.. شكراً يا رجل.
رصيف طنطا
هنا فى رصيف محطة طنطا.. الحياة طبيعية.. هذا مسافر وهذا يجر حقيبته.. وثالث يقف على «فرشة» كتب ومجلات وصحف.. وهناك كمسارية ينتظرون قطاراتهم.. وناظر محطة لا يتوقف رنين تليفون مكتبه القديم.. رنين الجرس الذى لا تخطئه الآذان.. كان الجو يميل إلى «برودة» خفيفة ولكنها مع «الجوع» قد تتضاعف.. هنا ووسط هذا الزحام.. تجدد الحديث بين الصديقين.. احنا نركب أى قطر ييجى.. مش هنستنى.. طب نسأل عن «القطورات».. اللى رايحة مصر.. ذهبا إلى شباك التذاكر.. هل فيه أى قطر جاى ناحية مصر.. يقصد السائل.. محطة رمسيس أو القاهرة.. ويفهم الموظف السؤال بسرعة ورد: «بص فيه 934.. ده بيقف محافظات.. يعنى هييجى هنا بعد تلت ساعة.. مش هيقف غير فى مصر.. وأول قطر جاى بعده الساعة 5 الفجر.. وده ركاب عادى هيوصلكم 7 الصبح».. شكراه.. وتحركا.. أحمد يتحرك ببطء.. بص يا محمد.. مش هينفع نستنى للفجر.. احنا نركب القطر الجاى.. وربنا معانا.. متخافش.. أنا هاتعامل مع الكمسارى.. الجو برد علينا هنا.. وهنعمل إيه لـ5 الصبح.. هز محمد عيد رأسه بـ«الموافقة».. وسأله: «أخبار السجاير إيه».. رد أحمد.. دى آخر واحدة «نخمس» فيها مع بعض.. ضحك الاثنان.. ومرت الدقائق وانطلق صوت المذيع الداخلى وعلا صوت صافرة القطار.. والمؤشرات كلها تقول: «934 وصل».
معنديش "حبيب"
توقف القطار.. وكان وقوف الشابين أمام باب العربة رقم 4.. محمد سبق بخطواته ودخل يستطلع الأمر.. ولحقه أحمد.. يحمل «كباية شاى» واحدة.. القطار لم يتحرك بعد.. سأله محمد: «كباية شاى واحدة.. ليه ما جبتش التانية».. رد أحمد بابتسامة سريعة.. «احنا خمسنا فى السيجارة.. وبنخمس فى كباية الشاى.. تعرف دى بكام.. بـ3 جنيه والله.. كده باقى معايا 32 جنيه.. وعشان لما نوصل مصر.. انت تلاقى تروح شبرا الخيمة وأنا أروح بيتنا فى الشرابية».. كان القلق يسيطر على وجه محمد خوفاً من الكمسارى الذى سيأتى ويسأل لا محالة عن التذكرة.. ورد على صديقه «حاضر.. نخمس فى الشاى وإن كنا يا سيدى حاطين خطوط موبايلاتنا على تليفون واحد.. وكل واحد بيعتبر التليفون تليفونه.. وشوية فى جيبك.. وشوية فى جيبى.. واهوه فى جيبى».. قطع حديثهما صوت رئيس القطار.. تذكرتك.. اقترب منه أحمد سمير.. وبصوت منخفض.. احنا جايين من إسكندرية ومش معانا فلوس واحنا وا.. وا.. ظن أنه يتحدث للكمسارى الطيب الذى كان فى قطار المنصورة.. وظن أن نفس الوجه ونفس التحمل ونفس الرد سيلقاه.. ولكن وجد هذا الرجل «متجهماً».. ويقول.. بطاقتك طيب انت وهو.. ينخفض صوت أحمد خوفاً من أن يعلو صوته وصوت الكمسارى ويسمعه ركاب العربة رقم 4.. ويشعر بـ«الخجل الشديد».. ولكن صوت الكمسارى كان يعلو.. هنا تدخل محمد عيد.. وقال له: «احنا مش بياعين ولا صيع.. ظروفنا بس عاندت.. أنا فنان.. أنا ممكن أكتب اسمك على حباية المكرونة دى انت وحبيبك.. أنا مم»، وقاطعه الرجل بـ«حدة»: «أنا معنديش حبيب.. أنا هاسلمكم للشرطة».. عاود محمد.. وعيناه تلمعان وقد ظهرت فيهما «مقدمات دموع».. تبهدلنا ليه.. احنا غصب عننا.. رد الرجل ثانية.: «يا تدفع فلوس.. يا تجيب البطايق.. يا تنزلوا.. وانا هافتح لكم الباب».. لم يتدخل أحد فى الحوار.. لم ينطق راكب بأى كلمة حتى هذه اللحظات.. قاطعه أحمد: «ننظ إزاى.. هنموت.. مبنعرفش.. رد بصوت قاس.. نط بوشك ومش هتموت».
ارمى نفسك مش هتموت
لم يجد الشابان مفراً.. احنا مش وش بهدلة وشرطة يا أحمد.. نعمل إيه.. عاود الرجل كلامه من جديد.. قدامكم 3 حلول.. اختاروا.. والقطر بيهدى فى المنطقة دى.. وعادى ارمى نفسك ومش هيحصل حاجة.. وفتح الباب.. قفز أحمد.. وسمع صوت صديق عمره.. إيه هى الرجالة خلصت.. مفيش حد يقول للكمسارى حاجة.. سقط أحمد بعيداً.. ولم بضاعته التى تبعثرت.. وترك «محمد» فى القطار.. لا يعلم ماذا فعل.. المكان «عتمة».. لا يمكنه رؤية شىء.. تحرك.. على قدميه وهو يرتجف.. يبحث عن أى مكان به إضاءة.. اقترب من برج.. به موظف سكة حديد.. قلبه لا يختلف عن قلب الكمسارى.. قال له أحمد: «أنا وزميلى كنا فى القطر.. وأنا نطيت.. وعايز بس أكلمه من موبايلك دقيقة واحدة.. أشوفه فين وأروح له.. لأننا راجعين مصر».. بقسوة شديدة وبجفاء رد العامل: «مفيش عندى دقايق.. ويلا امشى من هنا».. غادر محمد المكان.. ورأى نوراً من بعيد.. سارع الخطى.. ليجدها محطة بنزين.. قال لأحد عمالها ما قاله لموظف السكة الحديد.. وكان الرجل رحيماً.. اتفضل كلمه.. واتصل أحمد 3 مرات متتالية.. والتليفون لا يرد.. دارت علامات الاستفهام فى رأسه.. إيه يا محمد.. رد يا أخى.. طمنى عليك.. نطيت ولا سلموك للشرطة ولا لسه بتعافر مع الكمسارى.. تحرك من «البنزينة».. وسار فى الشارع الرئيسى هناك لمدة دقائق.. سمع صوت سيارة شرطة.. عاد مسرعاً إلى البنزينة.. وبنفس اللهفة الأولى قال للرجل: «معلهش يا عم.. ممكن التليفون تانى».. وأعطاه الرجل دون تردد.. ومن أول رنة.. جاءه صوت.. انت مين.. قال له ده تليفون محمد صاحبى.. انت مين.. قال له انت اللى كنت معاه فى المحطة من شوية.. قال.. آه.. رد صاحب الصوت.. تعالى يا ابنى بسرعة.. صاحبك مات.. صاحبك رقبته اتقطعت.. القطر فصلها.. صرخ أحمد.. وتاه.. توقف عقله عن التفكير.. وزاغ البصر.. وصرخ.. مات إيه.. أنا لسه سايبه.. محمد مات إزاى.. إزاى.. ليه.. وبدأ يهرول فى الشارع.. ودموعه تسبقه وخوفه يسيطر أكثر.. وها هى قدماه تحملانه بالكاد.
حصل إيه لـ"محمد"
بدأ الشاب يجرى أكثر.. زادت خطواته وعلت دقات قلبه.. وهو لا يتحدث ولا يرى.. نظر إلى السيارات المسرعة.. فكر أن يلقى بنفسه أمام واحدة منها.. بحثاً عن موت يجمعه بصديق عمره.. موت يجمعهما.. كما جمعتهما السن الواحدة.. والموهبة الواحدة.. و«النومة الواحدة» والموبايل الواحد.. و«تخميسة السيجارة وكوب الشاى».. هما «كارت واحد» كما قالها محمد عيد.. فجأة ظهرت سيارة إسعاف وخلفها 3 سيارات شرطة.. دق قلبه أكثر.. وانتفض.. وتوقفت سيارة شرطة بجواره.. وسأله أمين شرطة.. بتجرى ليه انت مين.. رد أحمد.. أنا صاحبى كان معايا.. كان معايا.. وقالوا لى مات.. أمين الشرطة كان واحداً من مجموعة بها ضباط وأمناء صدرت إليهم تعليمات بالتحرك إلى شريط السكة الحديد.. هناك شاب سقط ومات تحت عجلات القطار.. بهدوء وطيبة قال له أمين الشرطة.. طب تعالى معانا.. احنا رايحين هناك.. جلس إلى جوار الأمين فى سيارة الشرطة.. ودقيقة.. وتوقف الجميع.. وصوت يقول.. من هنا.. وآخر بصوت مرتفع يقول حد معاه كشاف.. وارتفعت الكشافات من الهواتف المحمولة.. وبعد 3 دقائق.. قال أمين شرطة لضابط: «فيه يا افندم حاجة قدامنا.. هناك أهيه.. ممكن تكون للشاب اللى قالوا إنه مات».. زادت الخطوات.. ووصلوا إلى المكان وكان المشهد مرعباً وقاسياً.. هذا رأس محمد.. وهذا جسده الممتد.. وهذا جزء من بضاعته.. محمد حاول النزول من القطار كما أمره الكمسارى أو كما خيره.. قفز بالضبط بعد 70 متراً من المكان الذى قفز فيه أحمد سمير.. ولكن قفزته «خانته».. كما خانه رد فعل الكمسارى وكما كانت قسوة الرجل معه ومع صديقه.. كانت قسوة الحديد أشد.. انزلقت يد محمد وهو ممسك بالمقبض المعدنى للعربة.. ربما مع برودة الجو.. ابتل المقبض.. وطالته بعض قطرات المياه.. وانزلقت يد محمد وفى ثوان معدودة.. سقط أسفل القطار.. لم يصرخ من الآلام.. لم يسعفه الوقت على الصراخ.. ولم تصل صرخته إلى مسامع أحد.. بل فى ثوان كانت عجلات القطار قد كتبت النهاية.. وهوت دون أن تدرى على رقبته.. لتفصل رأسه عن جسده.. عند تلاقى عجلات القطار بالقضبان الممتدة.. هكذا مات محمد.. وهكذا غادرت روحه جسده.. وهكذا توقفت أنفاسه.. وهكذا كان السطر الأخير.
العربة رقم 4
بدأ أحمد سمير يحكى لبعض رجال الشرطة.. احنا إخوات.. احنا صحاب.. احنا كارت واحد.. احنا.. احنا.. أنا ومحمد ركبنا القطر من طنطا.. الكمسارى قال نطوا.. قال مش هتموتوا.. خفنا يتقبض علينا.. قلنا ننط.. وأنا نطيت.. معرفش إيه اللى حصل لمحمد.. أنا تليفونى وتليفونه على موبايل واحد.. احنا كنا واحد.. لسه شاربين شاى مع بعض.. وسيجارة مع بعض.. احنا فلوسنا واحد.. احنا.. تساقطت دموع بعض رجال الشرطة.. فى وقت كان فيه رجلا الإسعاف يرددان: «لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون».. وهما يحملان جثمان محمد.. وإلى جواره رأسه المفصول.. داخل العربة كان المشهد مختلفاً.. كان بعض الركاب يتابعون الموقف.. وشاهدوا وسمعوا الحوار الذى دار بين الشابين والكمسارى.. وانتبه أحدهم.. أن آخر شاب قفز من القطار.. مات.. وسقط تحت العجلات.. وتحول الأمر إلى شبه ضجيج.. وكانت «اللامبالاة» حاضرة.. على وجه الكمسارى وفى تصرفاته.. لا مفيش حاجة.. وبعد دقائق من بث بعضهم لتفاصيل ما دار على صفحاتهم بمواقع التواصل الاجتماعى.. انتشر الخبر.. وتأكد الجميع أن «محمد مات».. هم لا يعلمون اسمه.. من يعرف اسمه فى هذا التوقيت.. هو أحمد ومن معه.. من رجال الشرطة والإسعاف.. وبدأت عملية الإخطار تصل إلى شرطة النقل والمواصلات.. القطار 934 حصل فيه واقعة كذا.. وفيه شاب مات.. وفيه كمسارى.. عمل.. وفيه شاب لسه عايش.. وإصابته خفيفة.. القطار كان قد اقترب من القاهرة.. الساعة تصل إلى الواحدة عندما كان القطار واقفاً فى «محطة مصر» يستقبل ركاباً ويلفظ آخرين.. وهنا تحرك رجال الشرطة بقوة إلى العربة رقم 4.. تحدثوا مع بعض ركابها.. وأمسكوا بالكمسارى.. وسائق القطار.. وكل من له صلة بالواقعة.. اتفضلوا معانا.. وتم إحضار «طاقم بديل» من سائقين وكمسارية ليكمل القطار رحلته إلى الأقصر.. تحرك متأخراً من محطة مصر قرابة ساعة.
"نص كارت"
هنا جثمان محمد يرقد فى مستشفى طنطا.. وهنا معاينة من النيابة العامة بعد تكليف مباشر من المستشار حمادة الصاوى النائب العام واستجواب للمتهمين فى نيابة طنطا.. اسألوا كل الشهود.. وانزلوا معاينة.. وعايز وكلاء نيابة الأقصر.. ينتظروا القطار فى الأقصر عند وصوله لسماع أقوال شهود آخرين.. وانتدبوا الطبيب الشرعى.. فى تلك اللحظات.. كان أحمد فى «ملكوت آخر».. تائهاً.. غائباً عن الحياة.. فصل نفسه عن الأصوات التى حوله.. بعضهم قدم له بعض الأكل والشاى.. ها هو يرفع كوب شاب.. وتنزل دموعه.. وصوت محمد عيد فى أذنه.. «كباية شاى واحدة.. طيب نخمس فيها مع بعض».. وصورته لا تغيب.. يتذكر اللقاء الأول.. والرحلة الأولى.. ويتذكر موهبته.. ويتذكر يوم أن وضع «شريحة هاتفه» فى موبايل محمد.. وقال له احنا واحد.. كارت واحد فى الحياة.. مع بعض وهنكمل ونكبر.. أحمد يصحو من «سرحانه» على صوت ضابط يسأله برفق: «ممكن نسألك سؤالين عشان نعمل المحضر ونروح النيابة».. ويبدأ الرجل فى السؤال.. وتأتى ردود أحمد.. حصل كذا.. وكذا.. وفيه كمسارى طيب.. قابلنا فى الأول.. فى القطر بتاع إسكندرية المنصورة.. وعرف قصتنا.. وسامحنا.. وركبنا القطر «النضيف» ده.. والكمسارى حكيت له نفس الكلام.. وقلت له.. احنا على باب الله.. احنا واحد.. احنا معانا 32 جنيه.. قال التذكرة بـ70 جنيه.. وفيه غرامة إنك راكب من غير حجز.. يا تجيب بطاقتك.. يا أسلمك للشرطة يا تنطوا.. نطوا على وشكم.. وأنا نطيت قبل محمد.. وبعدين.. احنا واحد.. احنا سن واحد.. احنا كنا بنشرب كوباية شاى واحدة.. وسيجارة واحدة.. احنا حاطين خطوطنا فى موبايل واحد.. احنا كنا كارت واحد.. محمد قال لى كده.. احنا كارت واحد.. بس دلوقتى مبقيناش كارت واحد زى ما محمد قال لى.. احنا بقينا نص كارت.. نص مات تحت القطر.. ونص أهو لسه بيتكلم.