"شندي" عامل حفر الآبار: كل "الرهاوي" كانت تلتف حول راديو وحيد لتسمع "كبيرها" ناصر

"شندي" عامل حفر الآبار: كل "الرهاوي" كانت تلتف حول راديو وحيد لتسمع "كبيرها" ناصر
لا يزال صابر إبراهيم شندى، 64 عاماً، كبير عمال حفر آبار المياه بمنشأة القناطر، يتذكر تفاصيل الحشود فى قريته وهم يجلسون فى صمت لسماع خطابات الزعيم عبر محطات الراديو، وقتها لم يكن فى منطقته بقرية الرهاوى بمنشأة ناصر فى محافظة الجيزة، سوى راديو واحد يلتف حوله الناس لسماع خطابات زعيمهم ومنصفهم ومنقذهم من العبودية والفقر المدقع، بحسب قوله.
بينما كان «شندى» المولود فى عام 1955 يستمع وهو صغير لخطابات الزعيم عبر محطة الراديو مع أهل قريته، كان يحاول وقتها حفظ أهم ما يقوله «ناصر»، لأنه فى اليوم التالى قد يُطلب منه أن يصعد على منصة الإذاعة المدرسية بمدرسته الرهاوى الابتدائية المشتركة، ليلقى ملخصاً للخطاب الأخير للزعيم، حيث يقول: «كنا بعد التمارين الصباحية والطابور نردد فى الإذاعة نصوصاً من خطابات عبدالناصر، وكان ملهم لينا»، حديث عبدالناصر فى خطاباته المستمرة عن العروبة والعواصم العربية كان له التأثير الكبير على الدراسة والدروس التعليمية التى كان يتلقاها التلاميذ والطلاب فى مدارس مصر، فيوضح «شندى» أن العواصم العربية كان يحفظها كل التلاميذ وكأن المنهج التعليمى ينبثق من خطابات الرئيس الراحل، معلقاً: «النصوص اللى بيقولها فى الخطابات موجودة فى الكتب، لما يتكلم عن العروبة نلاقى الدرس عن العروبة، ولو اتكلم عن سوريا يبقى الكلام عن سوريا، كان حدوتة بنقوم ونصحى عليها، كل كلمة يقولها كنا ناخدها منهج، وبنحفظها».
تحولت بعض الجمل والكلمات التى رددها عبدالناصر عبر خطاباته إلى نصوص محفورة ومحفوظة لدى هؤلاء التلاميذ والطلاب فى المدارس، ليتابع «شندى»: «هناك كلمة كل الناس كانت حافظاها صم ومحفورة فى ذهننا، وهى إن حرية الكلمة هى المقدمة الأولى للديمقراطية»، مشيراً إلى أن كلمات أخرى لا تزال عالقة فى ذهنه وقالها «ناصر» عندما تناول الحديث عن الاستعمار الأجنبى وأشكاله المختلفة، مؤكداً أن كل ما كان يقوله الزعيم كان حقيقياً وكشفته الأحداث بعد وفاته، قائلاً: «لما الزعيم قال إن الاستعمار التقليدى والجديد سيحاول بشتى الطرق السيطرة على الطاقات الاقتصادية والثقافية فى البلدان المحتلة وإن نهاية الاستعمار الاستيطانى ليست هى التحرر الرئيسى، كان وقتها الزعيم يقول كلام حقيقى وأدينا شفنا أهو فعلاً احتلال اقتصادى وثقافى، ويقصد فى كلمته الاحتلال التقليدى اللى هو البريطانى والاحتلال الجديد اللى هو أمريكا»، موضحاً أن وقت خطاباته كانت الناس تتزاحم على أحد سكان القرية الذى كان يمتلك راديو مصرياً محلى الصنع.
كنا نردد نصوص خطاباته فى الإذاعة المدرسية.. وموضوعات التعبير كانت تأتى منها.. ظهر فى خطاب التنحى وكأن عمره 80 سنة
وعن خطاب التنحى الذى أعقب حرب «النكسة»، يقول «شندى»: «لما شفته فى خطاب التنحى كان مهموم وشايل همنا وكأنه عمره 80 سنة، ساعتها شفته على التليفزيون»، مضيفاً أن وقتها كان أحد رجال القرية اشترى جهاز تليفزيون مصرى الصنع من نوع «تليمصر»، وكان يعمل على بطارية السيارات، ويتقاضى «تعريفة» من كل رجل يشاهد خطاب الزعيم، متابعاً: «كنا ندخل وندفع علشان نشوفه، ووقتها كان خطاب التنحى وساعتها البلد كلها خرجت تمشى فى شوارع القرية تتظاهر وتقوله له استنى، رغم إن ما حدش حاسس بينا لا تليفزيون ولا صحافة شايفانا»، موضحاً أن حب الناس للزعيم كان كبيراً لأنه جعل الفقراء أصحاب أملاك، بعدما كانوا أشبه بالعبيد، لأنهم كانوا يعملون بالأجرة كـ«أنفار»، وأن آباءهم كانوا مستعبدين عند ملاك الأرض، لأن الإقطاعى يملك الأرض ومن يعمل فيها، ولكن «ناصر» أعطى الفقراء أرضاً وحرية، كما أنه علم أبناء الفلاحين أيضاً.
وتابع: «كانوا فى المدرسة يعملوا امتحانات تعبير ويقولك اكتب موضوع عن أهم ما قاله الزعيم فى خطابه الأخير، وكان المدرس يدى جيد وممتاز، وكان التلميذ يفرح قوى لما يجيب درجة فى موضوع تعبير الزعيم»، مضيفاً أن خطابات الزعيم كان يكتبها الأستاذ محمد حسنين هيكل، وهو ما جعلها تبدو رنانة لا تزال محفورة فى كثير ممن عايشوا هذه الخطابات أو سمعوها عبر الراديو أو شاهدوها فى التلفاز، لافتاً إلى أن أبرز الكلمات التى حفرت فى ذهنه وأهالى قريته عندما تحدث عن الفقر بقوله: «الفقراء ليهم الجنة، طب الفقراء دول ملهمش نصيب فى الدنيا؟ نصيبهم بس فى الآخرة! هما عايزين منكم نصيب صغير فى الدنيا ويدوكوا قصاده نصيب فى الجنة».
"عبدالعليم": لديه "كاريزما" وشخصيته "سحرية"
من جهته يعلق الدكتور عبدالعليم محمد، مؤلف كتاب الخطاب الساداتى، مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام، بأن «الكاريزما» التى كان يمتلكها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يصعب تفسيرها وتشبه اللغز، وأن بها جانباً شخصياً وموهبة سياسية واجتماعية، واصفاً شخصيته الخطابية بالـ«سحرية»، مشيراً إلى أن شخصيته كانت واضحة لقربه من الناس وصدقه معهم وقدرته على مطابقة الأقوال بالأفعال، كما أن القول مرتبط بالأهداف والبرامج التى ينفذها، وأن الذى ميز خطابات عبدالناصر أنه لم يكن خطاباً وطنياً وحسب بل كان يجمع بين الخطاب الوطنى والعربى والعالمى أيضاً، وأضاف: «على الصعيد الوطنى كان محدداً برنامجه الوطنى فى الجلاء والتحرير وتوزيع الأرض على الفلاحين والعدالة الاجتماعية وتأميم القناة وكذلك الشركات»، مشيراً إلى أنه على الصعيد العربى كان واضحاً فى خطاباته للعروبة وأهميتها وكان لها مناسبات الوحدة والاتحاد مع اليمن والعراق، وأن الخطاب العروبى أخذ مكانته بدعوة الأمة العربية ذات التاريخ والثقافة المشتركة للوحدة، وكان ذلك حجر الزاوية فى مقاومة الاستعمار، وأنه بالنسبة إلى الخطاب العالمى، كان يركز على مقاومة الاستعمار والاستقطاب الدولى وعدم الانحياز وكذلك مؤتمر «باندونج» ودعم حركات التحرر فى أفريقيا.
ويشير «عبدالعليم»، إلى أن بيانات حركات التحرر كانت تنطلق من القاهرة بكل اللغات المتداولة فى أفريقيا، وأنه كان هناك 52 مكتباً لجبهات التحرير فى مختلف البلدان الأفريقية، موضحاً أن توافر العناصر الثلاثة، الوطنى والعربى والعالمى، فى لغة خطاب عبدالناصر جعله خطاباً كونياً، وهو ما حققه «جمال»، إضافة إلى أفعاله المناصرة للفلاحين الفقراء الذى حررهم من الفقر المدقع الذى كانوا يعيشون فيه، فمن كان لا يملك شيئاً ويعمل بالأجرة فى أراضى الإقطاعيين ثم يصافح الرئيس ويتسلم عقود أرض زراعية، لا يمكن أن ينسى أى كلمات لهذا الزعيم لأنه يصدقه.
«حسن»: استخدم لغة الجسد.. و"التنحى" كان من أبرع الخطابات التى فيها تناغم بين لغة الجسد ونبرة الصوت
ويقول الدكتور محمد حسن، مدرب لغة الجسد، إن خطابات جمال عبدالناصر من أفضل خطابات الرؤساء تأثيراً باستخدام لغة الجسد للتعبير عن قدرتهم على السيطرة فى الأزمات والمشاكل، مشيراً إلى أن خطاب التنحى الذى أعقب «نكسة» 1967، كان من أبرع الخطابات التى كان بها تناغم بين لغة الجسد ونبرة الصوت، معلقاً: «البروفسير ألبرت مهرابيان العالم النفسى بجامعة كاليفورنيا قال إن لغة الجسد مؤثرة بنسبة 55% ونبرة الصوت 38% بينما الكلمات لها فقط 7% من التأثير على المستمعين، وعبدالناصر استخدم لغة جسده بقوة، وحتى ظهر ذلك فى خطابه عن تأميم القناة»، لافتاً إلى أن الزعيم كان يتمايل بجسده إلى اليمين واليسار وكأنه يقول إننى أحتوى الجميع، إضافة إلى مصافحته للفلاحين الذين سلمهم عقود ملكية الأراضى فى مشروعه الإصلاح الزراعى، بدا وكأنه منهم، ولم يظهر فى مصافحته أى مكابرة أو قيادة.