طفولة زعيم.. عبدالناصر كان محبا للعزلة.. لا يكف عن الأسئلة.. ولا عن تأمل الكادحين

طفولة زعيم.. عبدالناصر كان محبا للعزلة.. لا يكف عن الأسئلة.. ولا عن تأمل الكادحين
هل رأيتم أحداً من قبل يتحدث عن طفولة «ناصر»، وكيف كانت البداية وأول الفكرة؟ فكرة النضال التى كبرت، وصارت علامة ومعنى للحرية الإنسانية فى مفهومها الشاسع والأكثر راديكالية على الإطلاق، فكرة عابرة للقارات القديمة، والقارات التى وعت حديثاً وجودها وحياتها على الأرض، فهل كان عبدالناصر الصبى يدرك، ولو بالحدس، أن صورته التى سيحفظها المعذبون فى المستعمرات البعيدة عن ظهر قلب، ستحتل موقعها الأهم، غير المسبوق، فى التاريخ البشرى؟ هل كان يعرف، ولو فى الأحلام، أن صوته، الذى أضاعه فى الهتاف وسط تلاميذ المدرسة، سيكون اللحن المفضّل والرئيسى لأمة بكاملها، كلما أرادت تذكّر الكرامة؟.
كان «ناصر» صبيّاً بعيداً تماماً عن المرح، غارقاً على الدوام فى التأمّلات، كأنما يعى منذ ذلك الوقت المبكر دوره ومصيره ونهايته، لكن دعونا نعد سنوات بعيدة قليلاً إلى الوراء، لنقف عند «عبدالناصر» الأب، موظف البريد المتزوج من ابنة أحد تجار الفحم، الرجل الذى يجوب مدن الصعيد والوجه البحرى، يحط الرحال بعض الوقت، وسرعان ما يهاجر من جديد، لقد كان مصيره أن يصير فلّاحاً شقيّاً تحت سماء خالية من العدالة، لكن الوظيفة أنقذته من الشقاء، هو الآن يحصل على راتب شهرى قدره ثمانية جنيهات، ويعيش فى مدينة الإسكندرية، وكيلاً لمكتب بريد محطة سيدى بشر، متمتعاً بالامتيازات التى تمنحها البدلة الرمادية، زى الموظفين العموميين وقتها، بينما والده يقف خلف المحراث، بجلابيته الزرقاء، فى قرية بنى مر البعيدة فى محافظة أسيوط.
معلم "العربى والحساب": كان متميزاً عن أقرانه من الأطفال.. وذات مرة سأل أباه: إننا لا نرعى الغنم بينما نأكل لحومها فلماذا يأكل الرعاة الفول؟
فى كتابه «ناصر»، المركز القومى للترجمة 2018، يتتبع الصحفى السوفيتى، أناتولى أجاريشيف، جانباً من طفولة «ناصر»، منذ أن جاء الصبى إلى الوجود فى 15 يناير 1918 بمدينة الإسكندرية، حيث كان الأب يعمل ويقيم، يقول: «سرعان ما بعث عبدالناصر برسالة إلى أبناء بنى مر ينبئهم فيها بولادة ابنه، وقد قام كاتب القرية بتسجيل «جمال» فى سجل مواليد بنى مر، ولم يكن كاتب القرية قد تجاوز الحقيقة كثيراً، فجمال كان يستطيع أن يسمى بنى مر مهبط رأسه، وله كل الحق فى ذلك، ففيها ولد أبوه، وفيها عاش جده حتى آخر أيامه، كما وارى الثرى أجداده بمدافن تلك القرية، وحين بلغ «جمال» الثالثة من العمر، صدر قرار نقل أبيه «عبدالناصر» للعمل بأسيوط، وهنا استطاع الجد، الحاج حسين، وأشقاؤه، رؤية أول أبناء عبدالناصر للمرة الأولى، كان الصغير «جمال» يزور قرية بنى مر كثيراً، حيث يتمتع باللعب قريباً من النخلة التى زرعها جده، ويجرى مع الأطفال فى تلك الساحة التى كان يعمل بها الحاج حسين، وبدأ جمال فى التردد على المدرسة الابتدائية فى أسيوط، حين بلغ الرابعة من العمر، وهناك تعلم الأبجدية العربية بالصف التحضيرى».
وهذه السنوات السعيدة فى ساحات القرية البكر، لم تكن سوى مقدمة لزمن من الترحال والتجارب كان على الصبى أن يخوضها ليكتشف زمنه الحقيقى، ويضع يديه الصغيرتين فوق تعاسة البلاد: «فى عام 1923 انتقل أبوجمال للعمل فى قرية الخطاطبة الصغيرة، وكانت المدرسة الموجودة بالقرية، التى شيدت لأبناء موظفى سكة حديد الخطاطبة عبارة عن «كتّاب» لتحفيظ القرآن.
بعد عام انتقل للإقامة بالقاهرة «خليل» عم «جمال» الذى تلقى تعليمه بمساعدة أخيه «عبدالناصر»، وهنا جاء دور «خليل» لرد الجميل لأخيه الأكبر، وذات مساء من أمسيات سبتمبر الحارة عام 1925، كان «خليل» يذرع رصيف محطة القاهرة انتظاراً لوصول القطار، لقد كان ينتظر ابن أخيه وكأنما ينتظر ابنه، كان «خليل» قد قضى أفضل سنوات عمره فى السجون، لاشتراكه فى ثورة 1919، ما حال دون زواجه، ولم يكن لديه أطفال إن استثنينا ابن رفيقه الذى استشهد إبان الثورة عند المتاريس، وها هو «جمال» ينبغى أن يعيش فى كنف عمه، برفقة «محمود»، ابنه بالتبنى.
موت أمه فى الثامنة من عمره كان ضربة قاصمة.. وعندما سأله والده: "لماذا تصنع حفرة عميقة فى الأرض؟" أجاب: "أريد أن أعرف أين يذهب الناس"
كان «جمال»، الذى لم يكن قد بلغ الثامنة من العمر بعد يستقل القطار وحده من الخطاطبة حتى القاهرة، وهناك خرج «جمال» وعمه «خليل» من محطة مصر ليستقلا الحنطور قاصدين بيت العم فى قلب مصر القديمة، غير بعيد عن قلعة صلاح الدين التى أصابها الكثير من الدمار، وراح العم يحكى لابن أخيه فى اهتمام بالغ وبحكم معرفته الجيدة بالتاريخ، قصة صلاح الدين، ودوره فى تحرير الوطن من الغزاة، لكن جمال بدا أكثر اهتماماً بكون العم يتنقل من تاريخ الماضى السحيق إلى الحاضر حين قال له: سيأتى اليوم الذى تؤول فيه ثروات ملوك مصر إلى أبناء الشعب».
فى العاصمة، كان محتوماً أن يعاين الصبى الصغير الاحتلال واقعاً ملموساً وحقيقياً، لا عبر أحد تجلياته التى كان يراها فى القرى البعيدة المثقلة بالشقاء، حيث كان يجرى نهب الفلاحين نهباً منظماً، دون أن يروا، ولو مرة، آلة عسكرية واحدة تجوب الشوارع علامة على القهر والإكراه، لكن «جمال»، الذى التحق بعد يومين فقط من وصوله إلى القاهرة بمدرسة النحاسين، وبات حراً طليقاً بلا أى قيود تحكم تصرفاته طيلة ساعات النهار، ما دام يتجول برفقة «محمود»، كان قد رأى بعينيه سيارة عسكرية إنجليزية تسير بأقصى سرعتها فى الطريق الذى يعج بالناس والحركة، فيهرب الناس مذعورين إلى جانبى الطريق، وحين مرقت السيارة إلى جوارهما وقع نظرهما على طفلة صغيرة استقرت بعرض الشارع غارقة فى دمائها، واندفع الصبيان يهرولان عائدين إلى البيت يقصان على عمهما خليل ما حدث، فأصغى لهما فى صمت ثم قال متأملاً: «سوف تظل الأمور هكذا، ريثما يظهر ذلك الرجل الذى يمكن أن يطرد الإنجليز ويصحح الأوضاع».
كان «جمال» صبياً منطوياً، يقول أناتولى أجاريشيف: «لعله كان يشعر بوطأة حاله، أكثر من غيره، كونه غريباً عنهم، ويصوّر بعض كتاب السير الذاتية الغربيين «جمال» وكأنما كان طفلاً ثقيل الظل، سوداوى المزاج، مؤكدين بذلك موقفهم المعادى لزعيم حركة التحرر العربية، وعلى سبيل المثال، يحاول هؤلاء تفسير الإصلاحات التقدمية التى أجراها بالبلاد وكأنما هى إجراءات انتقامية، رداً على ما عاشه إبان سنوات طفولته العصيبة، ويبدو واضحاً عدم موضوعية تلك الأحكام، لذا نعود مرة أخرى إلى القاهرة القديمة، حيث يمكننا مشاهدة جمال عبدالناصر وحياته اليومية فى حواريها الضيقة، هنا وعى جمال للمرة الأولى حياة المدينة الكبيرة، فإلى جانب الدراسة بالمدرسة كان جمال يتلقى دروساً فى اللغة العربية والحساب على يد صديق أبيه القديم محمد جمعة، ويتذكر «جمعة»: «لم يكن لدينا فى تلك الفترة سقف نستظل تحته، وقد استضافنى عبدالناصر فى بيته الذى عشت فيه طيلة شهر بأكمله كأحد أبناء هذا البيت، وحتى وصول زوجتى التى أحبت عائلة عبدالناصر، وقد طلب منى بوصفى أحد خريجى الأزهر أن أقوم بتعليم ابنه اللغة العربية والحساب، كان «جمال» متميزاً عن أقرانه من الأطفال، أذكر أننا كنا ذات يوم فى ضيافة أحد مربى التربية والتعليم ممن عرضوا عشرين قرشاً مكافأة لمن يستطيع الإجابة عن سؤاله: «فلنفترض أننا ضللنا الطريق فى الصحراء، ونريد تحديد موقعنا من خلال البوصلة، مع العلم أننا سوف نكون مضطرين إلى دفع عشرين قرشاً لمعرفة كل واحد من الاتجاهات الأربعة، فكم قرشاً يجب أن ندفع لقاء معرفة الاتجاهات الأربعة؟ وقفز الأطفال صائحين: ثمانون قرشاً، لكن «جمال» قال: عشرون قرشاً فقط، وحين سأله المدرس عن السبب، أجاب «جمال» ببساطة: «لأننا لو عرفنا أياً من الاتجاهات الأربعة، سوف نتمكن من معرفة الثلاثة الأخرى مجاناً».
ويمضى الصحفى السوفيتى، الذى أوفدته إحدى الصحف الروسية واسعة الانتشار إلى القاهرة مراسلاً لها فى نهاية ستينات ومطلع سبعينات القرن الماضى، قائلاً: «كثيراً ما كان الكبار يجدون «جمال» محباً للعزلة والانطواء، واجماً ممسكاً عن الحديث مع الآخرين، ولطالما كان ذلك سبباً فى نسيانه لمواعيد الغداء، وإعداد الدروس، كما كان فى بعض الأحيان يطرح على الكبار أسئلة تضعهم فى أحرج المواقف، فقد سأل أباه ذات مرة: إننا لا نرعى الغنم، بينما نأكل لحومها، فلماذا إذن يأكل الرعاة الفول؟ لم يستطع «عبدالناصر» أن يقول شيئاً، سوى أن هز كتفيه قائلاً: «هكذا هى سنة الحياة يا ولدى»، غير أن مثل هذه الإجابة لم تكن لترضى فضول الصبى ذى الأعوام الثمانية، ليواصل ملاحقة أبيه بأسئلته، ولم يكن الأب ينهر ابنه، فقد كان من عادة الصعايدة أن يعاملوا أطفالهم معاملة الكبار».
كان الصبى يسافر بحكم العادة إلى أسرته بالخطاطبة، يضيف أناتولى أجاريشيف، فى الأعياد والعطلات المدرسية، وكان مولعاً بأمه، التى كانت تكتب إليه باستمرار، لمعرفتها بانطوائه على نفسه، كما كان «جمال» يحاول دائماً إرضاءها، وفجأة انقطعت عن الكتابة إليه اعتباراً من أبريل 1926، لكنه تلقى خطاباً من أبيه ينبئه أن أمه كانت مشغولة بأعمال المنزل، وأن شقيقين صغيرين له اسمهما عز العرب والليثى قد ظهرا إلى الوجود، كما كتب أبوه يقول إنها سافرت إلى الإسكندرية لزيارة ذويها، وحين وصل «جمال» إلى الخطاطبة فى العطلة الصيفية علم أن أمه توفيت بالإسكندرية، حيث كانت قد سافرت للعلاج بعد مرض عضال أصابها بعد الولادة، وقد ذكر «جمال» فيما بعد أن موت أمه كان ضربة قاصمة تركت بصماتها التى لا تمحى.
على أن «جمال» الصبى لم يكن يعرف الشقاء مثل أجداده الفلاحين، فقد توافرت له الرعاية، وحصل على حقه الكامل من التعليم المنظم، وكان يجد نفسه دائماً محاطاً بالأحباء الذين يتعاملون بحرص مع مشاعره، يتابع «أجاريشيف»: «طلب «جمال» من أبيه السماح له بالسفر إلى والدى أمه بالإسكندرية، فقد كان يعى أنها كانت تسعد على الدوام بالإقامة بينهما، ووافق «عبدالناصر» بكل سرور، فلعل الرحلة تخفف عن ابنه، كان بيت الجد فى الإسكندرية من البيوت المشيدة على نحو تنطبق عليه صفة الراقية، فقد كان يتسم بالنظافة، ويسوده النظام الذى يتكفل به فريق من الخدم، انطلق الجد بنفسه على متن عربته الخاصة لاستقبال حفيده بالمحطة، وقد كان جمال معجباً بالإقامة فى هذا البيت، واللعب مع بنات أخواله وخالاته، حين وصل قبل عام برفقة أمه إلى الإسكندرية، إلا أن الصبى شعر بالملل الشديد هذه المرة، فقد كان يشعر بنفسه حراً طليقاً فى القاهرة، أما هنا فقد كانت جدته تقتفى أثره أينما ذهب، وحين كان يتناول الطعام يرغمونه على تناول ما هو فوق طاقته، أما حين كان يعرب عن رغبته فى الخروج للتريض، كانت جدته تنطلق معه إلى وسط المدينة، تُجلسه إلى إحدى الموائد فى مقهى يبعث على الملل، وحين كان يعن له طرح تساؤلاته، لم يكن يجد من يجيبه عنها، كان يهوى التردد على الميناء لمشاهدة عملية تفريغ السفن، بينما كانت بنات أخواله وخالاته اللاتى يرفلن فى ملابسهن البيضاء المطرزة بالدانتيلا، يعتبرن المكان زحاماً وقذارة».
هكذا كان «جمال» متعلقاً بأناس آخرين من خارج الطبقة التى ينتمى إليها، كان بإمكانه أن يكمل الطريق الذى بدأه أبوه، وأن يعيش مثل أقربائه وسط الخادمات، لكن لا أحد يعلم لماذا اختار طريقاً آخر، ولعل بعض الإجابة تكمن فى التفاصيل الصغيرة لحياته المبكرة: «حاول والدا أمه الإبقاء على جمال بينهما، بل وكتبا إلى أبيه يقولان إن المدرسة بالإسكندرية ليست أسوأ من مثيلتها بالقاهرة، لكن جمال كان قد رغب فى العودة إلى الخطاطبة، بل ويكون من الأفضل أن يعود إلى القاهرة، حيث عمه «خليل» الذى تراكم لديه الكثير من الأسئلة ويريد طرحها عليه، وقبيل بدء العام الدراسى، عاد إلى أبيه بالخطاطبة، ويذكرون أن أباه لاحظه ذات مرة وكان يحفر إلى جوار البيت حفرة نهاه عن الاستمرار فى حفرها، وحين عاد وجد تلك الحفرة وقد بدت أكثر عمقاً، ما جعله يسأل الصبى عن سر ما يفعل، وأجابه «جمال»: أريد أن أعرف ما فى باطن هذه الأرض التى يذهب الناس إلى داخلها، غير أن الأمر الذى لا يرقى إليه الشك هو أن طفولة جمال انتهت عند هذا الحد».