زلزال تونس الانتخابى

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

تعبير «زلزال سياسى» هو الأكثر شيوعاً فى تحليل نتائج الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة سابقة الأوان التى جرت فى تونس يوم الأحد الماضى. الفكرة هنا أن نتائجها جاءت على عكس أى توقع، ومخالفة لكل اجتهاد سبق يوم الاقتراع.. فقيس سعيد، أستاذ أكاديمى، عرفه التونسيون من خلال مداخلات إعلامية لشرح ما صعب فهمه فى الدستور على العامة، هو الرجل الذى قالت استطلاعات الرأى إنه محافظ مستقل غير حزبى لا فرصة لديه للفوز، فإذا به يأتى فى المرتبة الأولى بنسبة تقارب خُمس عدد الذين توافرت لديهم إرادة المشاركة وتحديد من يرونه الأفضل.

هذا الفوز، وإن تضمّن دهشة واستغراب البعض، خاصة الإعلام الفرنسى وذوى الميول الغربية فى المجتمع التونسى، لا يخلو من درس سياسى وعملى فى آن واحد.

لقد تغلّب الرجل على مرشحى الأحزاب، سواء القديمة أو تلك التى نشأت فى ظل نظام ما بعد العام 2011.

منهم من كان فى السلطة، ومنهم من سعى إليها ولم يحقق شرعية شعبية تُذكر.

هنا تقول النتائج الأولية إن الأحزاب لم تعد مؤثرة فى الشارع التونسى، وإن رغبة الانقلاب الشعبى عليها كبيرة للغاية. الأحزاب التونسية بدورها بحاجة إلى قراءة متعمقة لهذا الدرس، درس يتعلق بعدم قدرتها على الحشد، وعدم قدرتها على تقديم ما ينفع الناس، وعدم قدرتها على بلورة حلول ودراسات للمشكلات الضاغطة على كل مواطن تونسى، وعدم قدرتها على إقناع الناخبين بأن قياداتها تسعى بالفعل لخدمة الناس وليس للوصول للسلطة من أجل مصالح قياداتها.

انفصال القاعدة الشعبية عن الأحزاب أو انفصال الأحزاب عن القاعدة هما أمر واحد، وإن اختلف الترتيب فى القول، والنتيجة تحتاج إلى التروى وإلى إعادة التفكير فى طريقة الأداء الحزبى وفى طريقة التواصل مع الناس.

وكما هو درس لتونس والتونسيين هو أيضاً مؤشر للعديد من المجتمعات العربية حول المد غير المؤسسى فى علاقة الناس العادية بمن يسعون إلى السلطة عبر الانتخابات.

متابعة الأداء المتفرد للأكاديمى قيس سعيد، حيث عدم التحرك منفرداً بل وسط مجموعة من الطلاب، وسط الناس فى الأسواق وفى بيوتهم وفى المقاهى، والتحدث معهم بلغة صريحة وبسيطة وبدون وعود كبرى أو طموحات وصفها بأنها أكبر مما يستطيع تنفيذه إن وصل إلى الرئاسة، تكشف عن طبيعة المواطن العربى الآن، إذ هو بحاجة إلى التواصل المباشر مع من يحكمه بلا قيود أو ممنوعات، وبحاجة إلى التقارب الإنسانى مع الحاكمين. من قال إن السوشيال ميديا باتت بديلاً للتواصل الإنسانى المباشر، وإنها الوسيلة الأنجح فى جذب الناس عليهم مراجعة تلك المقولة جملة وتفصيلاً. بالقطع هناك تأثير لما يجرى فى وسائل التواصل الاجتماعى، ولكنه ليس التأثير الحاسم، أو هكذا تقول لنا حملة الأكاديمى قيس سعيد.

التأمل فى كلا المرشحين اللذين سيخوضان السباق النهائى فى الجولة الثانية، وبالرغم من الإشكاليات القانونية التى تحيط بالمرشح القروى، يؤشر إلى أن الرغبة فى تغيير النظام بالأدوات السياسية السلمية هى الغالب على المواطن التونسى، شق من هذه الرغبة مربوط بالاستياء من أداء الطبقة الحاكمة بعد 2011، سواء كانوا من الإسلاميين أو من التكنوقراط أو الليبراليين أو الحداثيين أو محترفى السياسة، وشق آخر متصل بحالة الإحباط العام الغالبة على التونسيين بفعل تدهور الأوضاع الاقتصادية وانخفاض مستوى المعيشة وغياب الرؤى المناسبة المقنعة للناس للخروج من تلك الدوامة الاقتصادية.

هنا نلاحظ أن أطروحات المرشح قيس سعيد تضمنت اقتناعه بضرورة تغيير الدستور، وبتوسيع مساحة المحاسبة الشعبية، بدءاً بانتخابات البلديات وصولاً إلى المناصب التنفيذية الأعلى، وتركيزه على توسيع المشاركة الشعبية فى أداء السلطة.

هى أفكار جديدة مقارنة مع ما طرحه باقى المشرحين الآخرين، والتى جاءت معلبة وجامدة وفاقدة للخيال.

لكن يظل أن هناك شعوراً ضمنياً بأن البلاد بحاجة إلى تغيير دستورى عميق.

وتلك بدورها مهمة أو لنقل عملية ليست سهلة، ولكنها قد تفتح الباب أمام تحول سياسى جديد ومهم فى الحياة التونسية إذا ما حصل الرجل على تفويض انتخابى فى الجولة الثانية وصار رئيساً للبلاد، وعندها فمن سوف يجاريه فى أفكاره القانونية والدستورية.

تونس بهذا السياق على أعتاب تحول جديد وعميق.

هذه الدلالات والمؤشرات ذات الدهشة والاستغراب تمتد أيضاً إلى نسبة المشاركة، والتى هبطت إلى 45 فى المائة مقارنة بالانتخابات السابقة 2014 التى زادت عن 64 فى المائة.

انخفاض مصحوب أيضاً بعزوف شبابى حسب متابعات المنظمات التى راقبت الأداء الانتخابى، وفى هذا رسالة، فغضب الشباب يدفعه إلى الانزواء بعيداً أو الانخراط فى أعمال احتجاج عنيفة، ما يتطلب سياسة جديدة تتفهّم الحالة المزاجية لقطاع الشباب وتوفر أمامهم مساحات من أمل فى الغد، وإلا سيبقى هؤلاء بعيداً عن النظام وليسوا مستعدين لحمايته حين يجد الجد.

ولعل الجولة الثانية تعطى مؤشراً أفضل فى هذا السياق، ويثبت شباب تونس إرادتهم فى صنع الغد الأفضل لوطنهم.