بين البائع والمشتري "حمَّال".. "الوطن" في سوق المواشي بالبراجيل قبل العيد

بين البائع والمشتري "حمَّال".. "الوطن" في سوق المواشي بالبراجيل قبل العيد
- عيد الأضحى
- سوق المواشي
- المواشي
- الأضحية
- أضحية العيد
- عيد الأضحى
- سوق المواشي
- المواشي
- الأضحية
- أضحية العيد
في العشر الأوائل من ذي الحجة، لا يخلو طريق رئيسي أو فرعي، في العاصمة أو في المحافظات المختلفة، من مرور ولو سيارة واحدة مُحمَّلَة بالأضاحي، تنقلها بين المحافظات والمناطق، بين المُربِّين والأسواق والمستهلكين، لكن الشوارع القريبة من أسواق المواشي والأغنام تكون على أشدها.
منذ مطلع الفجر، لا يخلو الطريق إلى سوق المواشي بـ"البراجيل"، من عربات تنقل البهائم من وإلى السوق، وعربات تحمل على ظهورها طعامهم، ليختلف المشهد نوعًا ما بين يومي الجمعة والسبت، فالجمعة ينعقد سوق المواشي والأغنام، والسبت يكون مخصصا فقط للمواشي، فتمتلأ الطرق بالعجول والأبقار البلدي.
قبل الوصول إلى أرض الماشية، لن تسمع الآذان غير صوتها، فهُنا لا صوت يعلو فوق صوت "الجاموس والأبقار"، ثم تتضح الرؤية عن أكبر تجمعات لهم، بين الأسود والأبيض والأحمر، وخليط من أي اثنين من ثلاثتهم، تلك هي السمة الغالبة لمرمى البصر، بعضهم مقيد بحبل في مَربط مملوء بطعامهم الأخضر ينتظر دوره، ومثيلهم يقف بين يد مالكه الذي أتم رعايته لعام كامل ومالك محتمل دبر ثمنه على مدار نفس العام، إما كي يبيعه مرة أخرى لموكليه، مستفيدا من فرق السعر أو كي يذبحه بالمشاركة مع أصدقائه كطقس ديني وطاعة لله ولرسوله.
عبدالعزيز بائع حبال الماشية: عندي خامات مختلفة كل واحد يشتري للضحية اللي يناسب ذوقه زي ما بنختار لبسنا
على بُعد، قد يبدو الأمر فوضويًا، لكن مع كل خطوة داخل سوق "البراجيل" يتضح النظام شيئا فشيئا، فالسوق له تقسيماته التي يعرفها الجميع، بين القسم الأول وهو قطعة أرض تخلو من البهائم سوى المارة إلى ومن السوق، وعلى الجانبين سيارات نقل مختلفة الأحجام تنتظر أن يأتي أوان الانطلاق بعد أن تحمل ما يمكنها من مواشٍ، وفي نهاية هذا القسم يفترش الأرض باعة الأحبال والفؤوس والسكاكين، وإلى بوابة الدخول حيث القسم الثاني تكون الحركة الأساسية هي للعجول والأبقار ذات العمر الصغير ولكنها جاهزة للذبح؛ لتجد نفسك بين الجاموس كبير الحجم والسن في آخر السوق، بين هذا القسم وذاك تدب الحركة بين باعة وتجار وسطاء ومشترين.
أحبال من خامات مختلفة بين البلاستيك والموكيت، وفؤوس وأدوات زراعية حادة وسلاسل حديدية، كانت معروضات أحمد عبد العزيز في مدخل سوق البراجيل، قضى 65 عاما من عمره يصنع تلك الأدوات البدائية إما بنفسه أو مشرفا على نجار في حالة احتياجه لقطع خشبية، فمذ كان عمره 10 سنوات بدأ يتعلم حرفته على يد والده، ولم يمنعه طعونه في السن من الاستمرار، "بجري واكل بإيدي أحسن ما أقول لحد هات 50 جنيه".
ويحكي عبد العزيز، الذي يأتي من كرداسة، لـ"الوطن"، أن أيام ما قبل عيد الأضحى تشهد انتعاشة في السوق، لذلك فإن الأسعار تزداد، "عندي أحبال بخامات مختلفة علشان كل واحد يشتري للأضحية اللي يناسب ذوقه.. زي ما بنختار لبسنا"، حيث يشتري الأحبال زائري السوق، إما قبل الدخول إلى السوق أو بعد الخروج في حال كان الحبل المستلم متهالك.
"قول الفاتحة معايا".. كلمات تتردد في كل جوانب السوق كنوع من "الاستبراك"، وجاءت على لسان رضا سلامة، 42 عاما، بمجرد أن لمح عجلا بلديا أسود لدى "المعلم عبده"، محاولًا شراءه كأضحية إما له أو لمن وكلوه بالشراء عنهم، مستفيدا بهامش ربح، حيث يفضل رضا شراء العجول البلدي عن المستوردة والمعروفة ببروز أكتافها على الرقبة أو بحسب ما يصفه بـ"صنمة".
مفاصلات طويلة لإتمام عملية البيع تلك، بدأها رضا بتسعير "العجل المرغوب" بـ 14 ألف جنيه، ليرد عبده عليه "اشتري بحق"، مطالبا رفع سعر البيع إلى 17 ألف جنيه، وبين رفع رضا سعر الشراء وتخفيض عبده مستوى توقعاته، تتردد كلمات تناقلها رواد أسواق المواشي عن الأجداد بين "صلي على النبي" التي تأتي على لسان البائع والمشتري لأخذ برهة بين المفاوضات، و"ده لحم سوبر" جملة أخرى يمتدح بها البائع بضاعته، لينتهي السجال بينهم عند "الله يبارك لك"، وهي كلمات تشهد نهاية كل عمليات البيع والشراء في أي سوق، يلازمها تصافح بالأيدي.
يفضل رضا سلامة شراء الذكور من المواشي حيث طعامته، لكن سعره يكون أعلى حيث وزنه الأكبر، متخذا اختياره بناء على ما استطاع ادخاره وعلى قد استطاعة موكليه، ويحكي أن السوق يشهد انخفاضا في الأسعار هذا العام ما يضر الفلاح والمربين "السوق مضروب وجاي على الفلاح بالضرر.. المفروض ينزلوا كُسب في الجمعيات زي زمان علشان الثورة الحيوانية ما تضيعش.. سعر كيلو البقري قايم يعني حي 52 حنيه والجاموسي 45 جنيه".
مستيقظا في الثالثة فجرًا قادما من "برطس"؛ ليجد مشتريا لعجولٍ، كان محمد عبد الفضيل اشتراها ليربيها في مزرعته بعد عيد الأضحى العام الماضي، يوليها رعايته طيلة عام كامل، يقدم لها الطعام المتنوع بين الدشيش والعيش والردة، ليأتي إلى سوق البراجيل منتظرًا أن يجني ثمار تعب العام: "بشتري عجول بعد العيد علشان السعر بيكون حلو بس العلفة اشتريتها غالية والردة سعرها بيتضاعف على عكس في السوق سعر البيع منخفض.. اللي كان مقدرته يربي 10 ربى السنة دي 5 علشان بيتكلف غالي علينا.. يعني العجلة اللي كان تمنها 20 ألف جنيه السنة دي تمنها 15 ألف".
مصطفى وإسلام طالبا الإعدادية يقضيان إجازتهما الصيفية في السوق مع والديهما لحراسة المواشي ورعاياتها: "بحب مهنة أبويا جدا وبحس إنها أحسن من أي دكتور"
مصطفى علي وإسلام أشرف، لا يزالان في المرحلة الإعدادية لكنهما يحرصان في إجازة الصيف وفي أيام الإجازات الرسمية في فترات الدراسة، أن يكونا حاضران في الأسواق مع والديهما منذ طلوع الفجر؛ لتصبح مهتمهما حراسة البهائم التي يتشريها والديهما، اللذان يعملان تجار مواشي بجانب الجزارة، وفي أسواق ما قبل العيد الأضحى تكون مهتهما أكثر تعقيدا وأهمية، حيث الازدحام، فيجلسان بجوار الأبقار والعجول وفي يد كل منهما عصاته، يهشان بها على بهائمهما المربوطة في "الطوالة"، وإذا اقترب شخص محاولا فك أي منهم يعلو صوت مصطفى وإسلام مستنجدا بـ"علي" و "أشرف" والدَيّ كلًا منهما على الترتيب، بحسب حديثهما لـ"الوطن".
رغم حرصهما على استكمال مسيرتهما العليمة، إلا أنهما يفضلان العمل في تجارة المواشي والجزارة كآبائهما، "بحب مهنة أبويا جدا وبحس إنها أحسن من أي دكتور أو مهندس وبتكسب حلو على الرغم من إن الناس بتشوف إن التاجر بينصب عليهم فإن ممكن الفلاح يكون هو اللي بينصب.. مسالة ضمير وأحسن من شغلانات حرام"، ويتفق الاثنان أيضا في أنهما يتحركان بين الأسواق في القاهرة والزقازيق والقليوبية والمنوفية، وبمجرد أن يجد والديهما ما يبغيانه.
وتتوفر عربة نقل فارغة من أمام السوق، يبدأ تحميل العجول، وسط بهجة وفرحة اقتراب العيد "الموسم دة بتكون الدنيا زحمة وبنفرح بالضحية"، لكن هذا الأيام لم يكن الأمر كما هو معتاد "المفروض السعر يكون أعلى والسنة دي السعر مش حلو.. السنة اللي قبل اللي فاتت الكيلو كان بـ 72 جنيه والسنة اللي فاتت 63 جنيه والسنة دي 52 جنيه".
مع دقات الثامنة صباحا يكون التعب أصاب رواد السوق بعد قضاء بضع ساعات في مفاوضات، فيدلفون إلى مطاعم السوق، إما لتناول وجبات الإفطار من الفول والطعمية أو الكبدة، قبل وصولهم إلى أحد الأركان لافتراش حُصر بلاستيكية على الأرض يتناولون "الشاي"، ويتبادلون أطراف الحديث عن أحوال السوق والأسعار.
بائع الكبدة في سوق البراجيل: "ببيع البلدي والجملي زبايني أغلبهم جزارين ميمشيش معاهم الكبدة المتلجة"
وفي الجانب الأيمن من آخر سوق البراجيل، يقف رجل سبعيني، ممسكا بسكين حاد، واضعا أمامه قطعة كبيرة من الكبد الجملي وأخرى من الجاموسي، وبجوارهما قطعة دهن، يقوم سيد موسى، بوزن مقدار ما يطلبه عملاؤه بتشكيلة قانونها الأساسي هو النسبة والتناسب، بحيث يكون للكبدة الجملي النصيب الأكبر، ثم يقطع ما وزن إلى قطع صغيرة متساوية، يستلمها منه ابنه ذو الـ 17 عاما، ليضعها في صنية كبيرة كان قد بدأ أن يطهو عليها قطع البصل والفلفل الأخضر التي تتناسب مع ما حجم ما وزنه والده، ويستمر في تقليب كل تلك المكونات معا حتى النضوج، ثم يقدمها لعملائه في أطباق من الاستانلس مع أرغفة العيش التي يحضراها معهما صباحا، أو يقدمها على هيئة ساندويتشات يصل سعر الساندويتش إلى 10 جنيهات.
يبدأ إعداد الطعام لدى موسى منذ يوم الثلاثاء والأربعاء، حيث يذهب إلى سلخانة ناهية لتجميع الكبدة الطازجة، والتي تكفي وجوده في سوق البراجيل على مدار يومي السوق، "بجيب الكبدة طازة تكفي الجمعة والسبت في سوق البراجيل وبرجع أجيب تاني لسوق المناشي في الخميس.. معظم اللي بيجوا السوق جزارين مايمشيش معاهم الكبدة المتلجة"، وذلك بحسب حديثه لـ"الوطن" حيث تابع بأن السوق يشهد إقبالاً غير عادي في موسم العيد فلا يمكنه من الجلوس للاستراحة، "مهنة ورثتها أب عن جد وولادي هيورثوها مني جنب دراستهم ووظايفهم".
وطفل "الشاي": "مابحبش أقعد فاضي ولما الشغل بيهدى بشتغل مع حمالي العجول"
لم يقصر عمله على مقهى والده بالسوق، فيتميز فهد حسن ذو الـ11 عامًا بالحركة المستمرة التي لا تنقطع، يوزع أكواب الشاي بين التجار والبائعين، ثم يعيد جمعها ويسبق ذلك إشعال الفحم، محاولاً مساعدة والده في أيام الأجازة المدرسية، ثم إذا لمس أن الإقبال على المقهى ليس كبيرًا يبادر كي يساعد الحمالين في شحن العجول على عربيات النقل، مرتديا "سديري" كي يجمع فيه "الحساب" من الزباين بحيث تكون بأمان حتى يسلمها لوالده، "مابحبش أقعد فاضي ولما الشغل بيهدى باشتغل مع الحمالين.. الناس هنا يعرفوني من زمان وبيساعدوني في تحميل العجول علشان عارفين إني صغير.. في آخر اليوم بستلم يوميتي من أبويا وأرجع أديهاله يحوشها معاه بس لازم استلمها علشان يعرف إنها فلوسي وباسمي".
بين الباعة والمشترون، يقف شخصٌ آخر، مترقب اللحظة التي يقال فيهما بينهما "الله يبارك لك" كدليل على إتمام عملية البيع، فيبدأ دور محمد عبد الله، بتحميل العجول على العربات النقل، حيث يمسك حبل العجل بيده اليسرى، يجذب العجل خلفه حتى يخرج من السوق، ثم تأتي مهمة يده اليمنى والتي تحتاج لقوة عضلية كبيرة، حيث يشد بها العجل من "الرشمة" وهي الحبل مربوط على الوجه، ثم ينشب ما يشبه الصراع بين محمد والعجل حينما يوشك الأول على الصعود إلى ظهر العربة جاذبا الثاني لأعلى، ليقوم شخص آخر، غالبا ما يكون مشتري العجل، بالوقوف خلفه يدفعه للصعود خلفه.
رفض كبير من العجل في الصعود يُسفر أحيانا عن كدمات للحمَّال، ما يستلزم صحة جيدة لمن يقوم على هذه المهنة، فبحسب رواية محمد عبد الله "العجل بيزقني وممكن يبهدلني ويخبطني.. دة كله علشان 5 جنيه، بس ساعات ربنا يكرمني وصاحب العجل يديني أكتر وكله على حسب الزبون.. السنة دي الدنيا مهزوزة شوية"، مختتما حديثه: "شغلانتي صعبة لكن دي لقمة العيش".