في الذكرى الـ96 لميلاد "شنودة".. محطات في حياة "البابا الثائر"

كتب: منى السعيد

في الذكرى الـ96 لميلاد "شنودة".. محطات في حياة "البابا الثائر"

في الذكرى الـ96 لميلاد "شنودة".. محطات في حياة "البابا الثائر"

تأتي الذكرى الـ96 لميلاد البابا شنودة، الذي يوافق، 3 أغسطس، لتلقي الضوء على هذا الرجل الذي قضى حياته في الرهبنة والدفاع عن الحقوق.

41 عاما قضاها البابا شنودة الثالث على كرسي مارمرقس الرسول، كانت أكثر من كافية لمنح صاحب العباءة السوداء صفة "الزعيم الثائر" الذي يسعى للثأر للقضايا القبطية، والوقوف في وجه المتطرفين من خلال كتاباته التي ناصرت الأقباط، وكانت كلماته كالسياط الذي يلهب به الحكومات والدولة في أربعينيات القرن الماضي، كما كان خطيبا مفوها صاحب حضور قوي، مدافعًا عن مبادئه طوال حياته حتى عندما اعتلى البابوية عام 1971 اصطدم مع الدولة وقتها حتى تم وضعه تحت الإقامة الجبرية في دير الأنبا بيشوي، كما انتسب في فترة ما قبل الرهبنة إلى الكلية الحربية وكان عضوا في نقابة الصحفيين، حتى قرر أن حياة الرهبنة هي طريقة الجديدة، وشق حياته في صحراء وادي النطرون ماسكًا في مغارات وجبال وادي السريان، حتى نياحته فى 12 مارس 2012.

طفولة البابا شنودة

ولد البابا شنودة في قرية سلام بمحافظة أسيوط لأسرة ميسورة الحال، وأطلق عليه والده اسم نظير، ليصبح اسمه بالميلاد نظير جيد روفائيل، في الثالث من أغسطس من عام 1923، وبعدها بعدة أيام أصيبت والدته بحمى النفاس وتوفيت.

وبسبب هذا الحادث فقد نسي والده قيده في السجل المدني مما أدي لدخوله المدرسة متأخرًا عن أقرانه، ثم تولى والده وأشقائه رعايته، وقد أثر رحيل والدته فيه حيث يقول معاصروه أنه كان يميل إلى الوحدة، عاشق للقراءة في كل المجالات منها التاريخ والسياسة والأدب المصري والعالمي، ويقول البابا شنودة بلسانه عن تلك الفترة "أنه كان قارئا بنهم فكان يقرأ كل ما يقع تحت يديه بلا استثناء، وزاد هذا الشغف بعد التحاقه بالمدرسة وكان أكثر الكتب تأثيرًا فيه هو كتاب قادة الفكر للأديب طه حسين"، وفقا لكتاب سنوات البابا شنودة، الذي يُعد سردا ذاتيا لقصة حياته.

البابا.. الشاعر

بدأ ظهور علاقة "نظير جيد" بالشعر في عمر السادسة عشر، وكانت الأبيات بدون قواعد لأنه لم يدركها في هذا الوقت، وكانت أولى القصائد التي كتبها لوالدته التي لم يرها، فقال خلال إحدى عظاته التى نشرت بتاريخ 17 مارس 1999 على قناة "مي سات" المسيحية.

 فقال لها :

أحقاً كان لي أم فماتت أم أني خُلِقت بغير أمي

رماني الله في الدنيا غريبا أحلق في فضاء مُدلَهِمِّ

وأسال يا زماني أين أحظي بأخت أو بخالٍ أو بعمِ

وأسأل عن صديق لا أجده كأني لست في أهلي وقومي

وهل أقضى زمانى ثم أمضي وهذا القلب في عدم ويتم

 

البابا.. شاعر الكتلة الوفدية

التحق نظير جيد عام 1943 بجامعة فؤاد الأول بمنحة مجانية لتفوقه الدراسي، لينتسب لكلية الآداب قسم التاريخ، ليزامل نخبة أدباء مصريين مثل أنيس منصور ومراد وهبة، وكان نظير يجمع بين دراستين حيث انتسب إلى الكلية الإكليريكية للتعمق في علم اللاهوت، ليجمع بين الدراسة العلمية والدينية.

واستطاع نظير أن يكوِّن صداقة قوية مع مكرم عبيد باشا، والذي كان عضوا بالكتلة الوفدية، وكان نظير يحاضر في اجتماعات الحزب، حتى أطلق عليه أعضاء الحزب "شاعر الكتلة الوفدية".

وخلال فترة الخلاف بين مصطفى النحاس باشا ومكرم عبيد، قام نظير بإلقاء قصيدة هجاء فى مصطفى النحاس قائلًا:-

الشعب منك تبرم وللإله تظلم

وأنت في الحكم تلهو وفي الملأ تتحكم

تلهو وتظهر نبلا حتى أنبرى لك مكرم

وكان لهذه القصيدة الأثر الأكبر في تقوية العلاقة بينه وبين مكرم عبيد حتى قام باحتضانه، وتحيته أمام الجميع.

ولعل تلك الحادثة كانت أول صراع "للنظير" مع البوليس السياسي فبعد تلك القصيدة لاحقه البوليس السياسي، وذهبوا إلى منزله وتم تفتيشه بعنف، وتم تدمير أثاث المنزل بحثًا عن تلك القصيدة، ولكنهم لم يجدوا أي شيء لأن نظير نظم القصيدة وقتها ولم يكتبها، وكان من حسن الحظ إنه لم يكن بالمنزل.

ويقول البابا شنودة نفسه عن تلك الفترة إنه سرعان ما ترك السياسة لأنه شعر أنها لا تناسبه، وقد تخرج في جامعة الملك فؤاد الأول بتقدير ممتاز عام 1947 وهو نفس العام الذي تخرج فيه من الكلية الإكليريكية، وفقا للفيلم الوثائقي الذي أنتجه مركز الدراسات القبطية وعرضته قناة "مي سات" التابعة للكنيسة الأرثوذكسية في ذكرى ميلاده في 3 أغسطس 2018.

البابا شنودة .. الضابط المنضبط

بعد تخرج نظير جيد من كلية الآداب التحق بالكلية الحربية عام 1947، وعلى الرغم من اندلاع الحرب عام 1948 في فلسطين إلا أنه لم يتم استدعاؤه للحرب، واستمر بالكلية الحربية لمدة عام وكان لها أثر بالغ في حياة البابا شنودة فقد تعلم الانضباط ويقول عن تلك الفترة أنه تعلم الانضباط وكيفية المشي بشكل صحيح، والاستيقاظ الساعة السادسة صباحًا وقد كان لهذا دور كبير فى زيادة قدرته على تحمل مشقة الرهبنة والاتجاه للرهبنة.

البابا شنودة.. الزعيم الثائر

تتلمذ البابا شنودة على يد المصلح الكنسي الشهير جبيب جرجس، وكانت الكنيسة الأرثوذكسية في أواخر الأربعينات من القرن الماضي تعاني من ضعف في التعليم وقلة المعاهد الدينية، وكان البابا يوساب الثاني من البطاركة غير المحبوبين فقد سمح للأشرار وغير الصالحين في السيطرة على الكنيسة، وكان خادمه "مِلِاك" هو المسيطر على أوضاع البطريركية.

وكان "نظير" خادما مؤمنا وتلميذا للمعلم حبيب جرجس، وقد آمنوا أن الإصلاح الكنسي لن يتم إلا من خلال إصلاح التعليم الكنسي والمعاهد الدينية، حتى تم إنشاء مدارس الأحد - وهي مدارس للنشء للتعليم الصحيح المسيحي لأطفال المسيحيين - وكان "نظير" يتردد على مدارس الأحد مع مجموعة من الإكليريكيين لتعليم الأطفال والشباب أملا في زيادة الإصلاح الكنسي، ولكنهم شعروا أن هذا لا يكفي، فيجب أن يكون الإصلاح الكنسي شاملا للقيادات الكنسية وليس فقط الشباب والأطفال فقط.

مجلة مدارس الأحد.. الخطوات الأولى للصدام مع الدولة

وفى أبريل عام 1947 أسس نظير مع مجموعة من الإكليريكيين بتأسيس مجلة مدارس الأحد، وهنا بدأ البابا عمله كصحفي مقالات، كان يكتب مقالات دينية، وكان يتقلد منصب مدير التحرير المجلة، وكان شعار المجلة صورة السيد المسيح وهو يحمل سياطا، عندما طرد الباعة الذين دنسوا الهيكل، قائلا "بيتي هذا للصلاة"، في إشارة إلى اتجاه للإصلاح الكنسي، وقد استغل منصبه في الدفاع عن قضايا الأقباط.

وتولى نظير جيد رئاسة تحرير مجلة مدارس الأحد، وقد انتهج الإصلاح الكنسي فهاجم طريقة رسامة الكهنة والأساقفة دون الاهتمام لمؤهلاتهم العلمية وكفاءتهم لهذا المنصب، كما تحدث عن أهمية تعديل لائحة انتخاب البطريرك لتتفق مع التقاليد الكنسية، كما قام من خلال مقالاته بالهجوم الشديد على المجلس الملي المسيطر على شؤون الكنيسة.

وعلى الرغم من اتجاه مجلة مدارس الأحد إلى الإصلاح الكنسي إلا أنها كانت تهتم بمشاكل الأقباط، خاصة في ظل استهداف تنظيمات سرية قيل إنها كانت جماعة الإخوان المسلمين للأقباط في هذا الوقت، حيث وقعت حادثة طائفية، حيث قام التنظيم بحرق كنيسة في السويس أثناء القداس، ما تسبب في حرق المسيحيين ولم يكتفوا بهذا بل قاموا بالتمثيل بجثثهم في الشوارع.

فكتب نظير جيد مقالا بعنوان "هدية العيد" طالب فيه الحكومة باحترام مشاعر 3 ملايين مسيحي من رعاياها، مطالبًا بمحاكمة المحافظ ومعرفة مدى قيامه بواجبه كشخص مسؤول.

ووجَّه رسالة للأقباط قائلا "بولس الرسول ضرب وسجن وجلد ورجم حتى ظن أنه مات واحتمل كل الاضطهادات في فرح، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يقول لقائد المائة في استنكار :"أيجوز لكم أن تجلدوا رجلا رومانيا غير مقضى عليه؟ ولكن فى احتجاجكم كونوا عقلاء وكونوا مسيحيين، طالبوا بحقوقكم بكل الطرق الشرعية التي يكفلها القانون، وقبل كل شيء ارفعوا قلوبكم إلى الرب".

ومن المفارقات المكتوبة بالمقال قوله "لقد ذهب رئيس الوزراء إلى قداسة البابا البطريرك وعانقه، كما قرر مجلس الوزراء تعويضا قدره 5000 جنيه لترميم الكنيسة ونحن نقول إن مجاملات الحكومة لا تنسينا الحقيقة المرة، وهي الاعتداء على أقدس مقدساتنا، ولكي نعطي فكرة واضحة عن الموضوع نفترض العكس، ولو حدث أن جماعة من المسيحيين -على فرض المستحيل- حرقوا مسجدا، وجماعة من المسلمين هل كان الأمر يمر بخير وهدوء؟"

وتساءل: "هل كان يحله عناق البطريرك وشيخ الأزهر أو اعتذار يصدر من المجلس الملي ومن جميع الهيئات القبطية؟ لا أظن هذا إنها ليست مسألة شخصية بين الوزارة والبابا البطريرك، وإنما هي هدر لمشاعر ملايين من الأقباط وإساءة إلى المسيحيين في العالم أجمع ولا تحل هذه المشاكل بعناق أو اعتذار أو عبارات مجاملة أو وعود، وإنما تحتاج إلى عمل إيجابي سريع يشعر به مسيحيو مصر أنهم في وطنهم حقا".

بعدها بفترة قصيرة التحق نظير جيد بسلك الرهبنة بدير الأنبا بيشوى بوادي النطرون، وسلك حياة التوحد والرهبنة، تحت اسم الراهب أنطونيوس السرياني، ثم أصبح البابا شنودة الثالث.


مواضيع متعلقة