«30 يونيو» وما بعدها: مقتطفات من مشاعر مكتوبة

ابتعدت «30 يونيو»، وابتعد الثالث من يوليو، ست سنوات.

أنظر الآن إلى هذين اليومين الفارقين من بعيد، فأراهما ضوءين فى أول النفق وليس آخره. أتذكر المقدمات: سنة حالكة، كئيبة، عاثت فيها عصابة الإخوان إرهاباً وقتلاً وتدميراً، ومارست خلالها نوعاً من الخيانة لم تعرفه مصر ولا المصريون من قبل. ثم أتت النتائج بحلوها ومرها، وتبين لى ولغيرى أن ما جرى فى 30 يونيو و3 يوليو كان أشبه بشرارة إعلان حرب أشد وطأة وأطول أمداً.

ومن بعيد: من جحيم إرهاب الإخوان ومن فوق سقالة بناء.. أتطلع الآن إلى مشهد الحشود فى شوارع مصر وميادينها، وإلى مشهد وقوف «المشير» عبدالفتاح السيسى بين ممثلى القوى السياسية، معلناً إزاحة الخائن محمد مرسى وعصابته، فينتابنى حنين: مصر انتصرت. وُلدت من جديد. عاد إليها شرفها وكبرياؤها، وعادت إلى من يستحقها: الشعب، وفى القلب منه جيشه.

أتذكر هذين اليومين بعد ست سنوات فلا أجد كلاماً أدل وأفضل مما كتبت وأنا أرى مصر فى هذا المخاض وتلك الولادة. قلق وترقب وتحريض ودموع فرح، وتلك مقتطفات من كل هذه المشاعر.

[1]

اذهب إليهم فى «30 يونيو»، فى كل الأماكن التى يستقوون بها عليك. افعل بهم ما شئت... «افعل»، ولا تكتفِ بالهتاف والتراشق والكر والفر. الإخوان ليسوا «مبارك»: أتخمته شهوة الحكم حتى لم يعد يسمع أو يرى، فسقط كتفاحةٍ فاسدة. الإخوان كـ«القُراد»، لا يخرجون إلا بالدم، فانزف دماً حراً، ساخناً، يشوى سحنهم القبيحة ويهرى جلدهم التخين. «جُر شكلهم». احرقهم بكل ما فيك من غلٍ ومرارة.. فإما أنت وإما هم. لاحقهم من شارع إلى عطفة، ومن جحر إلى شق، ومن خُص إلى قصر، ومن ميضة إلى كنيف. «اتغدى بيهم قبل ما يتعشوا بيك»، وصدقنى: لو أفلتوا منك هذه المرة فعليك وعلى مصر السلام!.

[2]

ساعة الصفر تقترب: هل يحتكم الإخوان إلى عنصر «الوقت» ويتركوا متظاهرى 30 يونيو ينعمون بـ«سلمية» مطالبهم، أم ستأخذهم العزة ويشعلونها حرباً أهلية؟. أخشى من النقيضين: أن يتحولوا فجأة إلى «عقلاء» فتضيع فرصة الإطاحة بهم ويمر الحدث مرور الكرام فتغرق مصر فى وحلهم، إلى أن يبتليهم المولى عز وجل بسرطانٍ يضرب خلاياهم النشطة والنائمة، والتى فى الحكم وما وراء الحكم. وأخشى من ناحية أخرى أن يصلوا بالعنف إلى حده الأقصى ويطيلوا أمده، فنحترق جميعاً، وتتحول مصر إلى نطاقات جغرافية وشراذم عرقية ومذهبية متناحرة.

أكثر ما يخيفنى فى هذه الجماعة البغيضة - بخلاف سحنة «الشاطر»، المنحوتة من صخور ما قبل الإسلام - أن كل من ينتمى إليها رضع كراهية مصر من ثدى الإمام الشهيد، ثم من ثدى الفقيه المغدور سيد قطب. لا تخيفنى قدرتهم على الحشد، ولا إرهابهم وفاشيتهم، ولا «سمعهم وطاعتهم»، ولا متاجرتهم الدنيئة بالإسلام، ولا مؤتمراتهم الماسونية البائسة، ولا بذاءة وزفارة ألسنة أصحاب اللحى والكروش ممن يدورون فى فلكهم، ولا تنظيمهم الدولى بكل ما لديه من كوادر وأموال، ولا تحالفاتهم وصفقاتهم الإقليمية والدولية القذرة.. الذى يخيفنى بالفعل هو كراهيتهم لهذا البلد واحتقارهم لشعبه.

من أزمة السولار إلى فاجعة سد النهضة مروراً بما جرى ويجرى على أرض سيناء.. يتساءل البسطاء وهم يضربون كفاً بكف: «هُمَّا ليه الإخوان بيعملوا كده؟». ببساطة: لأن الإخوان يرون أنفسهم «جنسية» لا مجرد «جماعة». يتساءل المؤمنون بـ«وسطية» الإسلام: أليسوا مسلمين؟. ببساطة: ولا حتى مسلمين، لأنهم يرون أنفسهم «ديانة» لا مجرد «جمعية دعوية». يتساءل المصريون بين الخوف والرجاء: ما الذى سيحدث فى 30 يونيو؟. معقولة؟.. ممكن؟.. هل سنصحو بعد شهر أو سنة على مصر بلا إخوان؟. هل سنصوم رمضان 2014 دون أن يجرح صيامنا إخوان أو سلفيون أو جهاديون أو غيرهم من أعداء الدين؟. هل سنتناول سحورنا فى الحسين، ثم ندعو عليهم فى صلاة الفجر: «اللهم اجعل زنازينهم قبوراً لهم ولأبنائهم وأحفادهم»؟. هل ستستجيب هذه الفئة الضالة لنداء العقل وتترك مصر لمن يستحقها وتستحقه، أم يكون الحاضر قرباناً لمستقبلٍ لا مكان فيه للدين إلا وراء عتبة المسجد، ويكون الدم كافياً لتغسل مصر عارها إلى الأبد؟. هل سيأتى على هذا البلد يوم يتحرر فيه من فاشية هذا الاستعمار الإخوانى؟. هل سيأتى يوم نقول فيه لأبنائنا وأحفادنا قبل أن يناموا: «كان ياما كان.. كان فيه زمان إخوان»؟.

أتفاءل قليلاً: لقد اختص الله الإخوان بغباء سياسى خام، «عيار 24». غباء لم يتمتع به نظام حكم قبل ذلك، ولا حتى نظام مبارك. فى كل طلعة شمس يستيقظ المصريون على كارثة جديدة للإخوان وخيال مآتتهم الذى تحرسه غربان التكفير من عينة سفاح أسيوط عاصم عبدالجامد، وداعية «الرش بالدم» صحوت مجازى، والمسحوبين من لسانيهما محمد البلطاجى وعصام البلبوص، والأخ عصام سرطان.. أبو«وسط» أستك منه فيه، فضلاً عن كبير مشجعى ألتراس نصرة سوريا.. الحاج محمد عبدالمقصود. بعض هذه الكوارث فواجع مؤلمة مثل بيع نهر النيل وتأجير سيناء للإرهابيين وقطع العلاقات مع سوريا. وبعضها مساخر لا تزيد قيمتها على فقرة فى برنامج باسم يوسف، مثل مهرجان الصالة المغطاة، وتطاول «البلبوص» على دولة الإمارات الشقيقة، ومعايرة «البلطاجى» للجيش بنكسة يونيو. هذا الغباء الذى يبدو فى إصرار الإخوان وخيال مآتتهم وبطانتهم المقرفة على مواقف وممارسات وتصريحات تضاعف من سخط المصريين واستفزازهم.. تجعل هؤلاء الفاشيين من ناحية أخرى يسيرون نحو حتفهم «خرفان بالملايين»، وبأسرع مما نتوقع. هذا الغباء يطمئننى على مصر يوم تقوم قيامتها فى 30 يونيو.. وصدق المولى إذ يقول فى محكم آياته: «فأغشيناهم فهم لا يبصرون».

لكننى أتشاءم أحياناً: أعقد ما بين حاجبى وأتمتم فى أسى: سيكون سقف الخسائر أعلى كثيراً مما نظن. أعلى من بحور الدم المتوقعة، ومن الشهداء الموعودين، ومن فوضى لن تكون خلاقة، ومن انهيار لا أعرف من فى النهاية سيقف على أنقاضه. نحن والله فى حرب. نحن بكل المعايير أمام «عدو استراتيجى»، أشد كُرهاً لمصر والمصريين من العدو التقليدى «إسرائيل». المسألة تعدت حتى حدود الخيانة، فالخائن يخون وهو يتعذب أحياناً بـ«فعل» خيانته، وقد تأتى عليه لحظة يشعر فيها بالندم. أما هؤلاء فالخيانة عندهم «فريضة»، وحرق مصر «جهاد» فى سبيل الله، وسفك دماء أبنائها «جسر إلى الجنة».. هذا هو خطرهم الحقيقى. هل أكون مخطئاً إذاً لو قلت إننى أشعر بالقلق؟

[3]

كنت قد طويت صفحة «25 يناير» وبدأت أتعامل مع ما جرى فى هذا اليوم المشئوم باعتباره «انتفاضة»: ليس اعترافاً منى بفضل، إذ لم أعد أرى فيه إلا ذكرى لمؤامرة كونية، كادت تقضى على يابسنا وأخضرنا، بل تأدباً، واحتراماً لمشاعر أصدقاء من دراويش هذا اليوم، لا أشك فى طهارتهم ونبل أغراضهم. أما وقد كثر تطاول هؤلاء الخونة والمرتزقة على «ثورة 30 يونيو» وعلى رموزها ومكتسباتها.. فإن من واجبى أن أذكرهم بأن هذه الثورة كانت تدبيراً إلهياً محكماً: فى توقيتها.. إذ كان ممكناً أن تضيع مصر - شعباً ودولة - لو ظل محمد مرسى فى مقعد الحكم شهراً واحداً بعد هذا اليوم. وفى مقدماتها.. إذ أنعم الله على جماعة الإخوان بقدر من الغباء والغطرسة جعلها تذهب إلى حتفها بأسرع وأسهل مما كنا نتوقع، وبالمخالفة لكل رهاناتنا. وأخيراً فى نتائجها.. إذ هزت عروشاً وأربكت حسابات قوى عظمى وأعادت إنتاج وتفعيل تحالفات إقليمية ودولية ووضعت المنطقة فى مواجهة كل أعدائها، المستتر منهم والموغل فى وضوحه.

هل تستحق ثورة 30 يونيو كل هذه القداسة؟.. نعم تستحق، لأنها «من عند الله». ولأن إرادة المصريين التى أشعلت شرارة هذه الثورة، موصولة بـ«إرادة الله». ولأن الجيش الذى آمن بهذه الثورة وصانها قال فيه نبى الإسلام: «خير أجناد الأرض».

[4]

مرت على هذا البلد علامات صغرى كثيرة: فوضى وانفلات وانهيارات وتشرذم وصفقات قذرة وتحالفات خيانة، ثم كانت العلامة الكبرى: وصول جماعة الإخوان الماسونية إلى سدة الحكم.. فكان لا بد من «قيامة».

البداية كانت من أربعة حروف: «تمرد». أكثر من عشرين مليوناً يقولون لمرسى وجماعته البغيضة: «غور». أكثر من عشرين مليوناً يقولون لهذا المسخ: عد إلى زنزانتك.. إلى الجُحر الذى أتيت منه. مصر ليست «جماعة» تنتظرك آخر الليل لتنقع وساوسك الشيطانية ورغباتك الدنيئة وأفكارك العفنة فى طشت خل وماء. مصر ليست جارية وجدتها أنت وعصابتك على باب جامع، ليضمها مرشدك إلى ما ملكت يمينه. مصر طيبة ومرنة وحنون، وتصبر على مصائبها، لكن بالها أطول من حبل المشنقة، ولن تكون بدلة على مقاسك إلا إذا كانت «حمراء». أكثر من عشرين مليوناً يقولون لك ولحلفائك: لم نعد نخاف، رغم أن المعركة ستكون الأشرس هذه المرة: «الحكم مقابل السلام». لم يعد لدى المصريين صبر على ظلم أو فساد أو قمع أو تخلف أو فشل أو خيانة أو إرهاب، فثلاثون عاماً فى كنف مبارك تكفى.

البداية «تمرد»: لا وراءها حزب ولا أمامها زعيم، بل ولد صغير، نابهة يدعى «محمود بدر»، ينام ووجه مصر على وسادته، ويجلس على دكة أمام نيلها وهو يحتضنها، وكلما مسها هواء العابرين ألبسها قميصه الأزرق ووقف يدافع عن شرفها بلحمه العارى.. فالمجد لأول استمارة فى طوفان سحب الثقة. المجد لـ«تمرد»: لا شرعية ولا قانونية، لا سافرة ولا محجبة، لا جاهلة ولا مثقفة، لا فقيرة ولا غنية، لا مسيسة ولا معسكرة، لا مؤسلمة ولا معلمنة، لا نخبة ولا دهماء... لا محل لها من الإعراب سوى أنها كانت استفتاء على كراهية المصريين لـ«الإخوان» رئيساً وجماعة، وكانت موعداً ليوم قيامة: «30 يونيو».. وها هو يأتى.

ها هو يأتى بما لم يكن يتوقعه المتاجرون بالدين وحلفاؤهم من القتلة والسفاحين ودعاة الفتنة والتخلف. مصر كلها تنتفض الآن بما فيها معاقل هؤلاء الكلاب. خرج المصريون بالملايين ليقولوا لمحمد مرسى وجماعته الماسونية: «يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم». المصريون على الأرض يصنعون ميلاداً جديداً لبلدهم، وجيشهم يحلق فوق رؤوسهم ليحمى جنينهم المنتظر، ويلقى عليهم أعلاماً ورسائل حب وطمأنة، وفى مقدمة الصف ضباط الشرطة ورجالها ممن ذاقوا مذلة النبذ والتهميش ورمى الاتهامات بالباطل.

أين محمد مرسى وعصابة وادى النطرون؟. أين حماسه وقطره؟. أين المتآمر، داعية الهدم والاستنجاد بالغرب الملحد، يوسف القرضاوى؟. أين ميليشيات الإرهاب التى كانت تستعرض قوتها وتحرض وتهدد وتتوعد كل هذه الملايين بالسحق والحرق وقطع الرؤوس؟. أين كهانة المرشد وغطرسة الشاطر وصفاقة العريان وبلاهة الحيزبون باكينام؟. أين عاصم عبدالماجد ومحمد عبدالمقصود وصفوت حجازى وطارق الزمر ومحمد حسان وغيرهم من جوقة الراقصة التائبة رابعة العدوية؟. أين ذهبوا.. بل أين سيذهبون: إلى السجن أم إلى مزبلة التاريخ؟.

أصبح لدى مصر الآن «ثورة». أصبح لديها أمل فى مستقبل مشرق، نظيف، بلا لحى وكروش وسحن منحوتة من صخور ما قبل الإسلام. أصبح من حق المصريين أن يفخروا بأنفسهم.. بجنوحهم إلى السلم.. بوسطيتهم الحاضنة.. بنفاد صبرهم على عدوهم. أصبح من حقهم أن يفخروا بقدرتهم على أن يكونوا ساعة الجد «مصريين» بحق: لا فرق بينهم فى دين أو ثقافة أو طبقة. لا مكان بينهم لكذاب أو منافق أو كلب سلطة. لا مكان لمعايرة أحدهم للآخر بأنه «فلول» أو «نظام بائد». لا نخبة تزايد على وعيهم وهم فى غيهم يعمهون، ولا صفقات مشبوهة تحت موائدهم بينما هم يتناولون طعامهم ويؤدون فروضهم ويسمعون أصواتهم وهم يغنون ويرقصون ويقولون شعراً. مصر التى خرجت فى الثلاثين من يونيو «واحد صحيح»، وكل ما عداها صفر على يسارها. مصر التى خرجت كانت كتفاً بكتف، وساقاً بساق، ويداً بيد. مصر المنتقبة إلى جوار البنطلون الجينز. مصر هلالاً إلى جوار الصليب. مصر الكومباوند إلى جوار العشة.. هذا أول الغيث، فافرحوا وثقوا فى محصولكم.