قصة حب «أحمد ومنى» والشاهد رمسيس الثانى..!

فيما يبدى الرئيس السيسى اهتماماً واضحاً بالارتقاء بالخدمات والمواقع الأثرية حفاظاً على «وثائق» حضارتنا، التى أبهرت دول العالم ولا تزال، لا يحلو لأحمد -أى أحمد- إلا أن تمتد يده بمسمار ليرسم «قلباً يشقه سهم» على جسم أى تمثال أو جدران معبد أو أى قطعة أثرية، خلال رحلته المدرسية إلى الأقصر وأسوان، ليخلد «قصة حبه» مع منى -أى منى- التى يعلو اسمها رأس السهم، دون أن يدرك أنه بذلك العمل يشوه تاريخه بيده ويهدر ميراثه التراثى الذى ظل على مدى آلاف السنين شاهداً على حضارة أبناء النيل.

ربما يكون لهذا الشاب عذر فى الإقدام على هذا العمل، فقد يكون غير مدرك الأهمية التاريخية والحضارية والاقتصادية لهذه الآثار ودورها فى إثراء ثقافتنا، إضافة إلى ما تمثله من عمق تاريخى لحضارات ورّثت لنا العديد من العلوم والفنون التى تعد امتداداً لما وصلنا إليه من رقى وتقدم ثقافى وحضارى فى عصرنا الحالى. غير أن الكارثة الحقيقية هى أن العديد من «جرائم الإهمال والاستهتار» ترتكب فى حق ثرواتنا الأثرية، ويكون بعض العاملين فى هذا المجال هم «الجناة»، على الرغم من أنه من المفروض أنهم مكلفون بالحفاظ عليها، وأنهم أكثر حرصاً على إظهارها بصورة مشرفة يفتخر بها أى مواطن مصرى،

ولعل الصورة التى انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعى وتظهر فيها سيدة تقف مرتدية بالطو أبيض وبيدها «زعافة»، تحاول بها تنظيف وإزالة الأتربة «والعنكبوت» عن تمثال «أمنحتب» الأثرى، الذى يعود تاريخه إلى آلاف السنين، وذلك خلال وجود وفد من السائحين فى زيارة للمتحف المصرى بالتحرير وبالتحديد فى قاعة «إخناتون»، غير أنه لحسن الحظ لم يلاحظ أى من الفوج هذه الصورة التى تثير السخرية..!

وإذا كان مسئولو المتحف لم يجدوا وسيلة لتنظيف الآثار من الأتربة سوى هذه الطريقة البدائية -التى لم يشاهدها أحد من قبل سوى أيام الطفولة وقت أن كانت «أم محمود» تنظف بالزعافة جدران وسقف الشقة الذى يرتفع إلى أكثر من 3.5 متر فى المبانى القديمة- فقد كان أولى بهم التبكير بإجرائها قبل موعد فتح المتحف أبوابه أمام الزوار.

والتمثال يرجع تاريخه إلى عصر الملك أمنحتب الرابع، فبعد تغييره للديانة، وبنائه عاصمة جديدة فى المنيا، بنى العمال والكهنة تمثالاً جديداً له، يختلف فى شكله عن بقية التماثيل الفرعونية، ويتميز بملامح قوة الجسد، ويعود إلى عصر الدولة الحديثة، وبالتالى فإنه لا يستحق تنظيفه بـ«الزعافة».!! وعلى الرغم من تلك الوسيلة البدائية لتنظيف «أمنحتب» بالزعافة إلا أنه كان أكثر حظاً من ملك الملوك الفراعنة «رمسيس الثانى» الذى خضع تمثاله أمام معبد الأقصر لأعمال ترميم افتقرت للأسس العلمية، ما اضطرت معه وزارة «الآثار» لإعادة تفكيك التمثال وترميمه من جديد على أساس القواعد العلمية التى يقوم عليها فن الترميم.

وقد جرى تجميع تمثال رمسيس الثانى باستخدام الحديد والصلب، فى حين أن هناك نماذج سابقة فى المتحف المصرى لتمثال «الإله آمون» جرى جمعها من فتات على قواعد معدنية وباستخدام أساليب علمية وبعد دراسة مطولة.! أى إن هذه الطريقة ليست غائبة عن أذهان المرممين التابعين لوزارة «الآثار»، غير أنه يبدو أن الإهمال واللامبالاة كانت هى المسيطرة على عمليات الترميم!! ما أثار موجة غضب سادت أوساط الأثريين بسبب هذه الأعمال، وهو ما دفع الوزارة إلى محاولة «تدارك الخطأ» بعد الهجوم الذى تعرضت له بسبب وجود أخطاء جوهرية فى التنفيذ فأعادت تفكيك التمثال وترميمه من جديد!!

على كل فإن الآثار الخديوية ليست أكثر حظاً من الفرعونية، فيكفى نظرة واحدة على كوبرى قصر النيل، الذى يُعد أحد معالم القاهرة التاريخية، لنكتشف أنه قد تحول إلى ساحة للباعة الجائلين لبيع الذرة والعصائر والورد‏ ونصبات شاى وسندوتشات الكبدة والبضائع منتهية الصلاحية بصورة أصبحت متكرر‏ة، ما أدى إلى إصابة حركة المرور والمشاة بالشلل التام،‏ فضلاً عن تشويه المنظر الجمالى لأسود قصر النيل والكوبرى بشكل عام، ولم يتوقف هؤلاء الباعة عند البيع بالعربات الخاصة بهم بل افترشوا أرضيات الكوبرى وأصبح كل شىء يباع على الرصيف، بداية من الفيشار واللب والترمس مروراً بالكشرى و«الحلبسة» والفطير المشلتت، وأيضاً البضائع المهربة ومنتهية الصلاحية تباع بأرخص الأسعار بعد فردها على تماثيل الأسود وأصبح الكوبرى يستغيث، فبعد أن كان مقصداً للزوار الأجانب من مختلف الجنسيات والمكان المفضل «للمحبين والعشاق» أصبح وكراً للباعة الجائلين والبلطجية..!

‏ ومن المؤكد أن انتشار الباعة الجائلين على الكوبرى يسىء للقاهرة التاريخية‏،‏ خاصة أن الباعة الجائلين كانوا لا يجرؤون على المرور بهذا الكوبرى فقط، وليس افتراش الطريق بالكراسى والعربات الخاصة بهم كما يحدث حالياً،‏ وهو ما يفرض على شرطة المرافق ضرورة اتخاذ إجراءات قانونية ضد هؤلاء الباعة لوقف المأساة التى يتعرض لها الكوبرى وبخاصة بقايا الطعام والشراب والفوارغ التى يتم إلقاؤها فى مياه النيل..! ولمن لا يعرف فإن كوبرى قصر النيل أنشأه الخديو إسماعيل فى المرة الأولى عام 1869، حيث جرى تكليف إسماعيل ناظر الداخلية شريف باشا بالاتصال بالخواجة «جاكمار» لصنع أربعة تماثيل، وكلف لجنة من المثال أوجين جليوم والمصور جان ليون لتولى الإشراف على صناعة التماثيل التى اختاروا أن تكون لأربعة أسود، وخصص الخديو إسماعيل لذلك مبلغ 198 ألف فرنك للإشراف على المشروع، وتم تصنيع التماثيل من البرونز ونقلت إلى الإسكندرية ومنها إلى موضعها الحالى على مدخلى الكوبرى. وعلى الرغم من الاحتياطات التى اتخذتها محافظة القاهرة وجهاز التنسيق الحضارى للحفاظ على أسود قصر النيل بعد ترميمها، وذلك بوضع حواجز مسننة حولها ورفع قاعدتها عن المستوى السابق حتى لا يتمكن أحد من تسلقها وتشويهها، كما كان يحدث سابقاً، إلا أن المواطنين فى أى احتفالات عامة لا يرحمون تلك الأسود من محاولات الصعود والتسلق، إضافة إلى الكتابة عليها بالطباشير، وفى أحيان كثيرة بأنواع عدة من البويات الزيتية ما يتسبب فى تشويهها مرة أخرى..!

على كل فإن من يقدم على مثل هذه التصرفات إنما يجهل قيمة هذه الآثار، التى تعد وثائق تاريخية حضارية، وهو ما يجب أن نحافظ عليها ونحسن استغلالها، باعتبار أن الدولة تكلفت الملايين لحفظ هذه الأدلة التاريخية والعناية بها، باعتبارها واجهة مشرفة لحضارة ذات تاريخ عريق، إذ إن كل أعمال التخريب والتشويه التى تلحق بها إنما تفسد وثائقية هذه الآثار وتعد دليلاً على غياب الوعى بتاريخ وطننا هذا.

وكلمة أخيرة لكل أحمد وكل منى: إذا أردتما تخليد قصة حبكما فابتعدا عن آثارنا وارسما القلب الذى يشطره السهم فى «كشكول محاضراتكما» لتحتفظا به لأبنائكما وأحفادكما فربما تصبح قصة حبكما هذه ضمن موروثاتنا الثقافية مثل قصص عنتر وعبلة وقيس وليلى.. ولك يا أحلى اسم فى الوجود ولتراثك الحضارى والأثرى السلامة دائماً.