مقال للمطرب محمد فوزى: أكلتها قبل السحور

كتب: الوطن

مقال للمطرب محمد فوزى: أكلتها قبل السحور

مقال للمطرب محمد فوزى: أكلتها قبل السحور

لقد أفطرت لأسباب خارجة عن إرادتى، فقد كان سحور تلك الليلة، علقة أكلتها ساخنة، وإليكم قصتها:

فى بدء حياتى الفنية الإقليمية، كوّنت فرقة من الهواة فى طنطا، كان فيها عازف العود، وعازف الكمان، وعازف البيانو، وكلنا يجمعنا حب الفن، وكلنا تجمعنا الآمال المشتركة والأمانى الموحدة.

وكان لى صيت فى طنطا وما حولها، وكنت لاعب كرة ممتازاً، فأذهب كلاعب إلى كل البلدان القريبة للاشتراك فى المباريات، ويعرف الجمهور هنا وهناك أننى مطرب، فأقابل بأضعاف ما يقابل به الزملاء من التصفيق والتشجيع، وأذكر أننى كنت كلما سجلت هدفاً سمعت المتفرجين يهتفون: «أعد!».

وكان نشاطى الفنى طيلة أيام المدرسة محصوراً فى حدود طنطا، فإذا ما أقبلت إجازة الصيف بدأنا جولة فنية واسعة.

ووصلنا فى إحدى جولاتنا لمدينة شبين الكوم، وحل شهر رمضان المبارك ونحن فيها، فكنا نحيى الليالى فى السرادقات، وسمعنا أن مولداً لأحد أولياء الله الصالحين قد بدأ فى قرية غير بعيدة عن شبين الكوم، فقررنا أن نذهب إليه، ففى الموالد دائماً رزق كثير، وجمهور غفير..

والرزق لازم لعيشنا، والجمهور لازم لفننا، ومن ثم ذهبنا! وسمع بعض الفتوات «المعسكرين» فى المولد بأن مطرباً «أفندياً» قد وصل، فجاءنى أحدهم يعرض علىّ أن أغنى لهم أول ليلة نظير مقابل بسيط، على أن يعوضونى عنه بحمايتى طيلة أيام الإقامة فى المولد.

ثم أفهمنى من طرف خفى أن الرفض معناه.. الرحيل! وقبلت على الفور وضربت له موعداً فى التاسعة مساءً، بعد أن أتناول طعام الإفطار وأستريح. وتناولت طعام الإفطار مع فرقتى، ورُحنا نتحدث عن حفلة الليلة، وكيف أنها ستكون بمثابة «التأمين» للحفلات الأخرى، وتضاحكنا طويلاً، ثم ذهبنا إلى السرادق الذى أقيم لنا فى مكان قريب من ضريح ولى الله..

بدأت أغنى، وامتلأ السرادق بمن دعاهم فتوات المولد، وشاع الانسجام والطرب، وزاد الحماس منا، ولم ألق بالاً لضابط بوليس أتى ومعه خفراء كثيرون ونظر لى طويلاً، ثم انصرف بعد دقائق، وفى فترة من فترات الاستراحة أقبل علىّ أحد الخفراء وهمس فى أذنى قائلاً: «البيه الضابط عاوزك!».

ونظرت لزعيم الفتوات أسأله رأيه، فقال: «لا.. علىّ الطلاق ما انت ناقله من هنا» ونقلت العبارة بحذافيرها للخفير: «علىّ الطلاق ما أنا متنقل من هنا» فارتعش شارب الخفير غضباً، ثم نظر شزراً إلى الفتوة، وانصرف وغنيت إحدى الأغنيات، ولم أكن قد انتهيت منها حينما أقبل الخفير ومعه زميلان، والتف الثلاثة حولى ليذهبوا بى عنوة إلى الضابط، وسمعت زعيم الفتوات يقول: «ليه.. هو أنا جردل!!».

وجذبنى من رقبتى إلى الخلف، فوقع أحد الخفراء على الأرض، ورفع خفير آخر بندقيته ليضرب الزعيم بها، فاختطفها منه فتوة آخر.. وفى ذات الوقت كان الخفير الثالث يتلقى الصفعات والركلات من سائر الفتوات.. ودارت معركة حامية، خرج منها الخفراء يجرون أذيال الهزيمة!

وعزّ على ضابط نقطة القرية، أن يهان مندوبوه الذين يمثلون شخصه الكريم، فجمع كل الخفراء وأمرهم بتشطيب المولد فى دقائق، وبأن يأمروا الأهالى بأن يعودوا إلى البيوت، والذى يعصى فإلى نقطة البوليس!

وحدث فى المولد هرج ومرج، وعلا صراخ الباعة خارج السرادق، وقامت معركة صغيرة حسمها الخفراء بالعنف، وبسرعة، وعاد الأهالى إلى بيوتهم، وبدأ من فى السرادق ينسحبون، حتى وجدتنى أغنى لثلاثة أو أربعة.. جعلوا ينظرون لبعضهم البعض فى دهشة، وهم لا يجدون من يتشاجرون معه بعد أن أمر الضابط خفراءه بأن يبتعدوا عن سرادق الفتوات حقناً للدماء، وسمحوا لنا بأن نعود أدراجنا وشكرونا على أننا لبينا دعوتهم، ومضوا وتركونا.

وخرجت من السرادق وورائى زملائى، وعند بابه وجدت عدداً كبيراً من راقصات المولد ولاعبى الحظ، و«القرداتية» الذين يعملون فى المولد وقد تربصوا بى، وانهالوا علىّ ضرباً ولكماً وركلاً، ولاذت فرقتى بالفرار، وتلمست سبيل الهروب بعد أن أصبت فى المعركة إصابات عديدة.

أما سبب ما حدث فهو أنهم عرفوا تفاصيل المعركة التى دارت بين الخفراء والفتوات من أجلى، ولهذا أمر الضابط بتشطيب المولد.

فكانت النتيجة أنهم لم يكسبوا شيئاً.. فلزم الانتقام!

وكانت الدماء تسيل من وجهى وجسمى وأنا أبحث عن زملائى، وقابلت أحد الخفراء فى الظلام فسألته إن كان يعرف أين ذهبوا، فأشعل عود ثقاب ونظر فى وجهى ونظرت إليه وصعقت، فقد كان الخفير مندوب الضابط!

وأمسك بتلابيبى ولم يرحم آلامى ودفعنى إلى نقطة البوليس، حيث كان الضابط يجلس وقد وضع قدميه على المنضدة أمامه، وكان الحذاء فى وجه فرقتى الموسيقية التى قبض على أفرادها واحداً واحداً، واقتيدوا إلى القسم.. واعتقدت أننى سآكل علقة ثانية، وأننا لن نجد عناءً فى البحث عن بيت ننام فيه، فقد وجدنا «السجن»!

وذهلت حين سمعت الضابط يقول لى: «أنا طلبتك علشان أقول لك إن مش من مقامك إنك تغنى لجماعة فتوات لهم سوابق، ولكنك رفضت وطبعاً انت حر.. بس آديك شايف النتيجة».. قال عبارته الأخيرة، ونظر لوجهى وفى عينيه إشفاق، وتحسست وجهى وتذكرت دمى وآلامى، فانحنيت برأسى ولم أقل شيئاً، وتحرك الضابط فأنزل قدميه، وقال لى: «أنتم الليلة ضيوف عندى، بس للأسف ماعنديش سحور لكم».

قلنا فى صوت واحد: «زى بعضه» وقضينا عند الضابط «المفترَى عليه» ليلتنا، ولكنا فى اليوم التالى لم نستطع الصوم، والسبب العلقة التى أكلتها قبل السحور!

                                                            الكواكب - 1954


مواضيع متعلقة