«داعش».. والعجلة فى الإعلان عن وفاته (4)

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

فى المقال السابق، كنا أمام ما توصلت إليه أجهزة التحقيق الأمريكية التابعة لـ(FBI)، التى وصلت على عجل إلى مدينة «منبج» فى الشمال السورى، بعد العملية التى نفذتها عناصر من تنظيم «داعش»، وأودت بحياة 4 من العسكريين الأمريكيين، فى يناير 2019. قدمت حينها أجهزة الأمن الكردية «المحلية»، مساعدات ثمينة للجانب الأمريكى فى الوصول إلى مرتكبى العملية، باعتبار أنها العملية الأولى التى تقع فى مناطق يسيطر عليها المكون الكردى، ولإثبات هذا الأخير جدارته فى الإدارة التى يمارسها على تلك المناطق.

ذلك كان أمام جهات التحقيق الأمريكية؛ العديد من المعلومات المؤكدة، والتى منها على سبيل المثال أن مدينة «منبج» بالنظر إلى موقعها الجغرافى وخطوط اتصالها بمحيطها، تقع على خط «الساجور» مباشرة، وتحتل تركيا وفصائلها الإسلامية المتطرفة السورية الطرف الآخر من نهر الساجور، كما أكد «عبدالعزيز الشجى» أن الإرهابى الذى كنيته «أبوعلى» والمنحدر من مدينة «إدلب»، هو من خطّط للهجوم على جنود التحالف الدولى، وجاء من هناك إلى منبج ودخلها سراً عبر المناطق التى تحتلها تركيا، وتديرها الفصائل السورية المتطرفة التى تعمل لحسابها تحت رقابة الاستخبارات العسكرية التركية. وأكد «الشجى» لجهات التحقيق أنه لم يكن مسموحاً له معرفة البيانات الأصلية لـ«أبوعلى» باعتباره أحد القادة الميدانيين لـ«داعش»، فقط كان معلوماً بأنه قيادى ومسئول «مكتب الهجرة» بمدينة الرقة. وهو أحد أبرز المنسقين لدخول المرتزقة من الدول الأوروبية عبر تركيا إلى الأراضى السورية، وطوال فترة عمله بمدينة الرقة وقت سيطرة التنظيم عليها، لم يتمكن أحد ممن تعامل معه من معرفة مكان وجوده بالضبط، كونه يتحرك بين المناطق الخاضعة للاحتلال التركى فى جرابلس والباب، وإدلب، ويدخل عبر عناصر «درع الفرات» التركية إلى مدينة «منبج».

تمكن «أبوعلى» من الكمون فى «منبج»، ليكلف أحد المتعاونين «أبوندى الكردى» بالاتصال بالشجى وتحديد موعد للقائه بالقيادى الداعشى، وهذا ما جرى فى أحد مساجد المدينة، ويقدم «الشجى» تفصيلاً لما جرى من حوار معه، ويثبت فى التحقيقات ما يلى: «اتصل بى أبوندى الكردى، وأخبرنى بأن أتوجه إلى مسجد قريب داخل مدينة منبج، وهناك التقيت معهما. وبدأ الحوار بيننا، حيث سأل أبوعلى عن الأوضاع المعيشية فى منبج، والوضع بشكل عام، وخاصة وجود قوات التحالف الدولى والأماكن التى يتمركز فيها، وفى نهاية النقاش طلب «أبوعلى» رقم هاتفى كى يتمكن من التواصل معى لاحقاً». وبعد أسبوع من اللقاء اتصل «أبوعلى» مع «عبدالعزيز»، وأخبره بأنه سيتواصل معه عن طريق تطبيق «تيليجرام»، لبدء التخطيط للهجوم على قوات التحالف الدولى.

وعن هذه المرحلة من العملية، أدلى «الشجى» بما جرى قائلاً: «التقيت مع أبوعلى وكان يركب دراجة نارية، وخلال تحركنا معاً فى منبج، رصدنا إحدى دوريات التحالف الدولى، وعندما اقترب منها «أبوعلى» أخرج هاتفه، وبدأ يتفقد شبكة الهاتف بالقرب منها، حيث كان يحاول التأكد من وجود الشبكة فى نطاق وجود سيارات التحالف الدولى، لكن عندما تبين أنه لم تكن هنالك شبكة ارتبك «أبوعلى»، لأنه كان يفكر فى أمر ما. وطلب منى أن أستكشف الشبكة فى محيط سيارات التحالف الدولى، فى المرة القادمة التى أراهم فيها داخل المدينة، وأن أخبره بالنتيجة». تمكن المحققون من التأكد أن «أبوعلى» كان يصر على البحث عن الشبكة، كى يقوم بعملية كبيرة من خلال تفخيخ سيارة بشكل كامل، ووضعها فى طريق سيارات التحالف الدولى، كى يقوم بتفجيرها عن بعد. أو فى خطة بديلة وضع المتفجرات على أحد جانبى الطريق، وتفجيرها أثناء مرور موكب قوات التحالف الدولى، لكن عدم وجود الشبكة دفع «أبوعلى» لتغيير خططه، والبحث عن طريقة أخرى لشن الهجوم على قوات التحالف الدولى.

لتتم العملية فى النهاية، بحسب أقوال «الشجى» فى التحقيقات على النحو التالى: «طالبنى أبوعلى خلال اتصال هاتفى بالتوجه إلى سوق الخضار فى مدينة منبج، واللقاء به. هناك التقيت بأبوعلى وكان معه شخص آخر يُكنى باسم «أبوياسين»، حينها ظل يحمل معه أكياساً تحتوى على الخضار، كما كان بحوزته كيس أسود توجد فيه المتفجرات. بعد أن قمت بتحديد مكان وجود قوات التحالف الدولى لهما، خرجت بعدها من السيارة لمدة 5 دقائق، لتعبئة بطاقة الهاتف، فاتصل «أبوعلى» وطالبنى بالتوجه إلى السيارة بشكل عاجل، وعند وصولى إلى السيارة خرج «أبوياسين» من السيارة، وتوجه إلى مكان وجود مدرعات قوات التحالف الدولى. أما «أبوعلى» فحرك السيارة مباشرة من مكانها ودخل فى شوارع الحى، وسمعنا صوت انفجار كبير من المنطقة التى كانت تقف فيها مدرعات التحالف الدولى. بعد الانفجار طالبنى «أبوعلى» بإتلاف الهاتف الذى كنت أتواصل منه معه، وأخبرنى أن «أبوياسين» فجر نفسه بقوات التحالف الدولى، فافترقنا بعد ذلك، وكان آخر يوم ألتقى فيه مع «أبوعلى».

وضعت أجهزة الولايات المتحدة يدها على حجم التورط التركى، فى الدفع بمجموعة من عناصرها لتنفيذ تلك العملية بغرض حث القوات الأمريكية على الخروج من تلك المناطق والإسراع بتسليم مهام الوجود والإدارة إلى الجانب التركى، لكن ما لم تتحسب له أجهزة الاستخبارات العسكرية التركية، أن الوفد الأمنى الأمريكى سيصر على الوصول إلى الحقائق كاملة، وقياس مدى تورط الجهات الداعمة لتلك العناصر، هل كان الأمر يقف عند حد التغاضى عن نشاط عناصر التنظيم فى تلك المناطق والبلدات، أم أن التورط وصل إلى حد التخطيط والتكليف من الجانب التركى بالدخول إلى هذا المستوى من الاقتراب. وبالطبع وصلت الأجهزة إلى يقين الإجابة الثانية، وضمّنت ذلك فى تقرير رُفع إلى البيت الأبيض بعد ذلك مباشرة، ما أشعل العلاقات ما بين الطرفين على النحو الذى ظل العالم يتابعه طوال الأسابيع الماضية، وما زال قيد الالتهاب.