بروفايل| بوتفليقة.. العهدة على الشعب "فاشهدوا"

كتب: محمد شنح

بروفايل| بوتفليقة.. العهدة على الشعب "فاشهدوا"

بروفايل| بوتفليقة.. العهدة على الشعب "فاشهدوا"

"نحن ثرنا فحياة أو ممات.. وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر.. فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا"، يطوفون بأعلام الجزائر في الميادين، مرددين نشيدها الوطني، حيث خرجوا ثائرين، طالبين الرحيل من رئيس حكمهم لعقدين، ويطلب عهدة جديدة، فخرجوا يهتفون في سلمية من أجل مستقبلهم، رافضين التخريب والفوضى، والانزلاق نحو المجهول، ولكن صخب الميادين الغاضبة، لم يلق استجابة بـ"قصر المرضية" طيلة شهرين من الاحتجاجات، لم تترجم فيها رسائلهم إلى "الأمازيغية" بعد.

المشهد في القصر الرئاسي، مختلف تماما، لا يتواكب مع صخب الشارع، الرسائل تصل بصعوبة، ففي هدوء، يجلس العجوز الثمانيني على كرسيه المتحرك، شاردًا، يبعث لكل من حوله بنظرات حادة، لا توحي بغضب وانفعال، وإنما هي بحكم الزمن والمرض عليه، ولكن رغم ما حل به من وهن، تشبثت كلتا يديه بمقابض كرسيه المتحرك، قد يكون تشبثا لا إرادي، وسط رغبة حاشية من حوله بألا يدير كرسيه نحو باب الخروج من القصر، الذي دخله وحيدا، وظل فيه بلا زوجة ولا ابن طيلة 20 عامًا، ولكن شتان الفارق بين المشهدين، الشعب كان الحكم فيهما، يوم صعد فيه الرجل القوي منفردا درجات القصر الرئاسي على قدميه بإجماع شعبي، وخرج منه واهنا على كرسيه المتحرك مستقيلا بـ"تسونامي شعبي".

في 27 أبريل 1999، سجَّل عبد العزيز بوتفليقة، صاحب الأصول الأمازيغية، المولود في مدينة وجدة المغربية، اسمه في دفتر الحضور الرئاسي بقصر المرضية الجزائري، وذلك بعد انتخابات شعبية، عقدت بعد استقالة الرئيس اليامين زروال، فاز فيها بوتفليقة، بعد أن تقدم كمرشح مستقل، ليستفتى الشعب عليه وحده، بعد انسحاب منافسيه الستة بسبب تهم بالتزوير، ويفوز بدعم من الجيش وحزب جبهة التحريرالوطني، برئاسة الجمهورية بنسبة 79% من أصوات الناخبين.

المرشح الوحيد، وقتها، لم يكن اسما جديدا على الشارع الجزائري، بل جاء إلى الحكم، ومن خلفه تاريخ سياسي، سواء في النضال من أجل استقلال الجزائر أو في أوساط الحكم بالجزائر، التي طالته خلال مدة عمله فيها اتهامات بالفساد، فهو في الأصل ابن جيش التحرير الوطني الجزائري، الذي التحق به عام 1956، وعمره لم يتجاوز وقتها 19 عامًا، وبعدها بعامين، صار ضابطاً في المنطقتين الرابعة والسابعة بالولاية الخامسة، ثم ألحق بهيئة قيادة العمليات العسكرية بالغرب، وبعدها بهيئة قيادة الأركان بالغرب ثم لدى هيئة قيادة الأركان العامة، وذلك قبل أن يوفد عام 1960 إلى حدود البلاد الجنوبية لقيادة "جبهة المالي"، واستمر في النضال ضد الاحتلال حتى الاستقلال في عام 1962.

رحلة صعود متفردة في السياسية الجزائرية، تميز فيها الشاب عبدالعزيز بوتفليقة بمناصب لم يسبقه إليها غيره في هذا السن، فتولى مناصب عدة عقب استقلال الجزائر، فكان عضوا في أول مجلس تأسيسي وطني عام 1962، ثم تولى وزارة الشباب والرياضة والسياحة، ليصبح بعد أقل من عام أصغر وزير خارجية سنا في العالم حين تولى المنصب وعمره 26 عاما، إثر وفاة أول وزير خارجية للجزائر بعد الاستقلال، محمد خميستي سنة 1963، ليذيع صيته في الدوائر الدبلوماسية خلال الفترة، التي كانت فيها الجزائر طرفا فاعلا في دعم الحركات المطالبة بالاستقلال في العالم، وفي حركة عدم الانحياز، ليظل في منصبه وزيرا للخارجية 16 عاما، ولم يقصِه عنه سوى وفاة الرئيس هواري بومدين عام 1979، ليبتعد عن الجزائر 6 سنوات إثر تورطه في قضايا فساد، ليعود عام 1985 بوعد من الرئيس الجزائري آنذاك، الشاذلي بن جديد، بإسقاط التهم عنه.

رحلة الرئيس "الأعزب"، الذي قضى حياته في القصر الرئاسي دون سيدة أولى، أو أبناء، أبعدت عنه وصمة التوريث، جعلته لا ينشغل في بداية حكمه، سوى بالجزائر، لينجح فيما فشل فيه سابقيه، وينهي 9 سنوات من الحرب الأهلية في الجزائر، التي اندلعت إثر إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية سنة 1991، وحصدت أرواح قرابة 150 ألف شخص، وخلفت خسائر بأكثر من 30 مليار دولار، حيث نجح في سبتمبر 1999، بإقرار قانون الوئام المدني، خلال استفتاء شعبي تخلى فيه قرابة 6000 مسلح إسلامي عن القتال مقابل عفو مدني، ويأتي بعدها سبتمبر 2005، ليحظى "ميثاق السلم والمصالحة" بدعم الناخبين في استفتاء شعبي، ما أدى إلى إدماج حوالي 2000 من المسلحين الإسلاميين في المجتمع الجزائري بعد تخليهم عن السلاح، وهي أحد نجاحاته في الولاية الثانية، التي فاز بها عام 2004، بعد منافسة مع رئيس الحكومة السابق علي بن فليس، ليحصل بوتفليقة على 84.99% من أصوات الناخبين.

رحلة بوتفليقة، نحو الانفراد بالسلطة والبقاء مدى الحياة، بدأت في عام 2008، وذلك بعد تعديل دستوري عام 2008، ألغى فيه حصر مدة الرئاسة على ولايتين فقط، ليعاد انتخابه لولاية ثالثة، ويحظى في نوفمبر عام 2012 بلقب جديد، لم يسبقه له أي رئيس سابق في الجزائر، وهو أطول الرؤساء حكما في تاريخها، متجاوزا هواري بومدين، ولكن المرض كان له كلمته.

لم يلتفت الرئيس الجزائري خلال سنوات ولايته الثانية لإشارات القدر، وهو يفكر في السلطة الأبدية حتى فاجأته أوجاع المرض في 26 نوفمبر 2005، وينقل إلى المستشفى العسكري الفرنسي "فال دوغراس"، حيث مكث شهرا وخمسة أيام، أجرى خلالها عملية جراحية تتعلق بقرحة معدية حسب ما أعلن وقتها من قبل السلطات الرسمية الجزائرية، إلا أنها لم تمنعه عن التعديل الدستوري، والاستمرار لولاية ثالثة، ليرسل له القدر إشارة جديدة، شديدة اللهجة، في 27 من أبريل 2013، حينما أصيب بجلطة دماغية، نقل على إثرها إلى المستشفى الفرنسي نفسه، وبقي فيها قرابة 3 أشهر، ليعود في 16 يوليو 2013 على كرسي متحرك، وهو أشد تمسكا بالسلطة، ويترشح لولاية رابعة في عام 2014.

6 سنوات من الصمت بعد السكتة الدماغية، لم يتخللها سوى 3 جمل مدتها 14 ثانية، وقت ترشحه للعهدة الرابعة عام 2014، هي: "جئت لأسلم عليك هنا، وأسلمك ملف الترشح رسمياً، بحسب المادة 74 من الدستور، والمادة 32 من القانون العضوي لقانون الانتخابات"، مرحلة فريدة في الحياة الرئاسية، فلم يسبق لأي رئيس في العالم، أن ظل 6 سنوات من حكمه لا يتحدث لشعبه إلا بالبيانات الرسمية المكتوبة الصادرة عن المؤسسة الرئاسية، حتى حانت لحظة جديدة، نوى فيها الترشح من جديد، ليأتي الشعب ويحسمها في الميادين "لا للعهدة الخامسة"، وتأتي المراوغة من حاشية القصر الرئاسي، ولكن كلمات الشاعر الجزائري مفدي زكريا حسمتها، "صرخة الأوطان من ساح الفدا .. فاسمعوها واستجيبوا للندا"، وتصبح العهدة على الشعب.


مواضيع متعلقة