(1919-2019) مائة عام على ثورة «نموت نموت ويحيا سعد»

(1919-2019) مائة عام على ثورة «نموت نموت ويحيا سعد»
- أحمد لطفى
- إعادة فحص
- الأراضى الزراعية
- الأشغال الشاقة
- الإعدام شنقا
- الاحتلال البريطانى
- الانتخابات التشريعية.
- الجيش البريطانى
- الحرب العالمية
- أبناء
- أحمد لطفى
- إعادة فحص
- الأراضى الزراعية
- الأشغال الشاقة
- الإعدام شنقا
- الاحتلال البريطانى
- الانتخابات التشريعية.
- الجيش البريطانى
- الحرب العالمية
- أبناء
مائة عام مرَّت على ثورة 1919 التى قادها سعد زغلول ورفاقه، طلباً للاستقلال عن الحماية البريطانية.. مائة عام بالتمام والكمال ولم تكفّ المطابع عن إنتاج الكتب والدراسات التى لم تترك كبيرة ولا صغيرة عن هذه الثورة إلا وأخضعتها لعشرات التأويلات.
والنتيجة التى لا يجهلها كل مَن له أدنى صلة بالدراسات التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية أن ثورة 1919 ما زالت محل خلاف جذرى بين عموم المشتغلين بأمورها والدارسين لأحداثها والمتخصصين فى تعقُّب السير الذاتية لرموزها.
لقد ظل سعد زغلول -ربما بتأثير رهيب من كاتب جبار هو عباس العقاد- يتمتع بمهابة أسطورية أضفت عليه فى الوجدان الشعبى قدسية لا يجرؤ أحد على مراجعتها أو مجرد التوقف لإعادة فحصها.. ولكن الكتابات والدراسات التاريخية المتخصصة التى استفادت من الخطابات المتبادلة بين قادة الثورة، ومن المذكرات الشخصية لكثيرين من صانعيها وشهودها، راحت تفكك الأسطورة وتنزع عنها أقنعة القداسة والنزاهة المطلقة.. بل وتكشف عن الانتهازية الكامنة فى أعماق بعض كبار قادتها، وعلى رأسهم الزعيم الخالد سعد زغلول نفسه.
والذى حدث آنذاك أن مصر فى بداية القرن العشرين كانت دولة مستقلة من الناحية الشكلية والقانونية.. ثم كانت ولاية تابعة للخلافة العثمانية، ولكنها فى الوقت نفسه -بموجب معاهدة لندن 1840- كانت مملكة وراثية لمحمد على باشا وأبنائه وأحفاده من بعده.. وخلال ذلك كله كانت أيضاً دولة محتلة منذ عام 1882، ولكن القوات البريطانية التى احتلتها وحكمتها فعلياً لم تحصل آنذاك على اعتراف دولى كامل بشرعية هذا الاحتلال، ولم يكن هناك سند قانونى لهذا الوجود البريطانى غير استنجاد خديو مصر -توفيق باشا- بالإنجليز لحماية عرشه فى مواجهة ثورة «عرابى». آنذاك كانت النخبة المتعلمة -وهى تنتمى لكبار مُلاك الأراضى الزراعية- لا تحلم بأكثر مما كان يطالب به أحمد لطفى السيد باشا: أن تكون الأمة -أى كبار الملاك- قوة مؤثرة وفاعلة إلى جانب سلطة الخديو أو السلطان، بوصفها السلطة الشرعية، وإلى جانب سلطة الاحتلال البريطانى بوصفها السلطة الفعلية فى البلاد.. كان الأمر إذاً أشبه بالتماس خجول ظلت النخبة المصرية تتقدم به ليسمح لها الإنجليز والخديو باقتسام ثروات البلاد وإدارتها معهم.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 ودخول تركيا الحرب ضد بريطانيا، قررت بريطانيا فرض الحماية على مصر فى ديسمبر 1914، ثم قامت بعزل الخديو عباس حلمى الثانى، وعيَّنت حسين كامل سلطاناً على مصر. وراح هذا السلطان الخائن يساعد الإنجليز فى القبض على مئات الآلاف من الفلاحين والعمال المصريين لضمهم إلى الجيش البريطانى، واستخدامهم فى حروب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وآنذاك كان سعد زغلول بنفسه هو وكيل الجمعية التشريعية المصرية، ولم يصدر عنه ولا عن جمعيته أى بيانات رسمية تدين فرض الحماية البريطانية، وعندما أرسلت بريطانيا أول مندوب سامٍ لها إلى مصر -هنرى مكماهون- فى يناير 1915 كان سعد زغلول على رأس مستقبليه، وخرج من مقابلة سريعة معه ليدلى بتصريحه الشهير: «إن دلائل الخير بادية على وجه السير مكماهون.. وآمل أن يجزل الله لمصر الخير على يديه».
لقد بذل «العقاد» جهداً جباراً فى تأويل كل تصرفات الزعيم الخالد سعد زغلول.. حتى إنه لم يرَ فى احتفاظه الدائم بصور جمال الدين الأفغانى «الثائر» ومحمد عبده «الإصلاحى» واللورد كرومر «المحتل» غير أنه رجل «دولة» يحترم النظام إلى أقصى حد، ويتعامل فى حدود الممكن، وعندما رأى «العقاد» فى مكتبة سعد زغلول كتاباً عن «باكونين» أحد رؤوس الدعوة الفوضوية فى أوروبا، لم يتمالك نفسه من الدهشة.. ولقد عثر «سعد» فيما بعد على كاتب بحجم المستشار طارق البشرى وضع كل هذه المتناقضات فى قالب فضفاض بقوله: «على هذه المساحة الواسعة من التصنيفات السياسية والاجتماعية لجماعات المصريين، ومن التنويعات الفكرية، كان سعد ينظر ويطالع ويتحرك، لذلك استطاع أن يقود (أمة) أو جماعة سياسية بتكويناتها جميعاً، وأن يلتقط الجامع بينها والقاسم المشترك لفئاتها». هذا الرجل الذى اجتمعت فيه كل مكونات الأمة -كما يذهب العقاد والبشرى- هو ذاته الذى فاجأه الخروج المذهل لحشود المصريين الفقراء فى مظاهرات عارمة تطالب بالإفراج عنه هو ورفاقه وإعادتهم من المنفى، بعد القبض عليهم لمنعهم من السفر إلى باريس لحضور مؤتمر السلام والمطالبة باستقلال مصر عن الحماية البريطانية، وعندما وصلته أنباء المظاهرات لم يفعل أكثر مما فعله زميل له فى الجمعية التشريعية هو عبدالعزيز باشا فهمى، الذى قال للطلبة المتظاهرين: «إنكم تلعبون بالنار.. دعونا نعمل فى هدوء ولا تزيدوا النار اشتعالاً».. وتكشف مذكرات سعد زغلول عن أنه سجَّل فى يومياته عندما علم بأمر هذه المظاهرات التى عمَّت القُطر المصرى كله: «هذا يضر بقضيتنا، إن كل ما نريده هو أن نصل إلى حل يُرضى الإنجليز ويرضينا».
أياً كان الأمر، اندلعت الثورة رغم أنف الإنجليز والسلطان وكبار مُلاك الأراضى الزراعية: ثورة كان قوامها مئات الآلاف من العمال والفلاحين والطلبة.. وكان فى القلب منها آلاف الأقباط والمسلمين، وآلاف النساء والصبايا، لقد التقط الشعب الفكرة وصدَّقها وتجاوز فى حركته وأشواقه تطلعات القادة الذين وضعتهم الظروف على رأسها.. كان القادة يريدون حلاً وسطاً يتقاسمون به الثروة والإدارة مع السلطان والاحتلال.. وكانت حناجر المصريين الفقراء تنفجر بالشعارين الشهيرين: «الاستقلال التام أو الموت الزؤام».. و«نموت نموت ويحيا سعد»!.
لقد أذهل المصريون الفقراء سلطات الاحتلال، وتسببت البرقيات العاجلة فى إرسال اللورد ألفرد ملنر، وزير المستعمرات البريطانية، على رأس لجنة لتقصى حقائق الثورة.. وظلت اللجنة 3 شهور كاملة فى مصر تسأل وتتقصى وتحلِّل، وكلما خُيِّل إلى أفرادها أنهم على وشك العثور على مفجِّرى الثورة خاب مسعاهم.. كانوا يسألون الفلاح: ما اسمك؟ فيرد: اسأل سعد باشا. ويسألونه: ما الذى تزرعه؟ فيرد: اسأل سعد باشا.
وأمام هذه الصلابة المصرية أذعنت بريطانيا وصدر تصريح 28 فبراير 1922 الذى ألغت به الحماية على مصر، ومنحتها استقلالاً اتضح فيما بعد أنه مجرد استقلال شكلى.
ولكن جمرة الحلم بالاستقلال ظلت متوهجة فى قلوب المصريين.. وأنتجت شعراً وفناً وأدباً وفكراً جديداً يعبِّر عن أشواق المصريين وأحلامهم.. كما أنتجت دستوراً وحياة نيابية وحزبية وسياسية لم تعرف مصر لها مثيلاً، وجنى سعد زغلول الذى فاجأته الثورة وهو فى الستين من عمره، مكاسب سياسية جمة، فقد شغل منصب رئيس الوزراء عام 1924 بعد أن فاز حزب الوفد بـ90٪ من مقاعد البرلمان فى الانتخابات التشريعية.. ثم أصبح عام 1926 رئيساً لمجلس الأمة.. وعندما توفى فى 23 أغسطس 1927 كان قد تربَّع على قلوب المصريين زعيماً خالداً.. غفر له المصريون ما لم يغفروه لغيره أبداً.. وبينما ظل إبراهيم الهلباوى، محامى دنشواى، مطارداً من الشعب ومن النخبة، نسى الشعب أن أحمد فتحى زغلول، شقيق «سعد»، كان عضواً فى المحكمة التى قضت بالإعدام شنقاً على عدد من فلاحى دنشواى، والأشغال الشاقة لعدد آخر، والجلد خمسين جلدة لآخرين أمام أبنائهم وزوجاتهم.. وهى القضية التى شغلت الرأى العام فى العالم كله، وكانت سبباً فى الإطاحة باللورد كرومر الحاكم الإنجليزى لمصر.. كما كانت من أهم مقدمات الغضب الشعبى الذى انفجر كالبركان أثناء ثورة 1919.
وفى هذا الملف الذى أعدته «الوطن» بمناسبة مرور مائة عام على هذه الثورة الشعبية العظيمة.. حاولنا جاهدين أن نرصد الخطوط العامة التى شكلت لوحتها الخالدة فى الوجدان المصرى.. وأن نبحث عن رموزها الحقيقيين من أبناء هذا الشعب الذين كانوا وقودها ونورها الذى أضاء الأفق السياسى المصرى لعشرات السنين.. وما زال هذا الضوء الكامن فى هذه الثورة قادراً على إلهامنا بالحلم فى حياةٍ أكثر إنسانية وأقل وحشية.