النيابة و«طفل البلكونة».. الرحمة قمة العدل
- أسرة فقيرة
- التضامن الاجتماعى
- الجمعيات الخيرية
- السوشيال ميديا
- الفيس بوك
- تشكل لجنة
- حياة كريمة
- ضغوط الحياة
- طفل برىء
- أبناء
- أسرة فقيرة
- التضامن الاجتماعى
- الجمعيات الخيرية
- السوشيال ميديا
- الفيس بوك
- تشكل لجنة
- حياة كريمة
- ضغوط الحياة
- طفل برىء
- أبناء
حسناً فعلت نيابة أكتوبر بالإفراج عن السيدة العاملة أم الطفل أسامة، والمشهور إعلامياً بـ«طفل البلكونة»، وأن يُسلم الطفل إلى والده وأخذ تعهد بعدم تعريض حياة الطفل مرة أخرى للخطر، وأن تشكل لجنة من قبل وزارة التضامن الاجتماعى، لمتابعة حالة الطفل والأسرة وتقديم تقرير شهرى للنيابة. وفى تعليل القرار أنه جاء لمراعاة ظروف الأسرة الإنسانية، وحرصاً على عدم تفكك الأسرة المكونة من الطفل المجنى عليه و3 أشقاء آخرين أصغرهم 5 سنوات. القرار برمته أثار لدىّ شخصياً ارتياحاً كبيراً، فرغم أن الأم أخطأت التصرف وعرّضت الابن بالفعل لموقف خطير، وقد اعترفت بخطئها فى التحقيقات، إلا أن من يدرك الظروف العامة التى تمر بها هذه الأسرة لا بد أن يضع الاعتبارات الإنسانية فوق أى اعتبار آخر، وهو ما فعلته نيابة أكتوبر باقتدار، حيث الرحمة لها الأولوية على ما عداها، ولنتصور أن القرار جاء بحبس الأم لفترة من الزمن، وإحالة هذه السيدة إلى محكمة قضت لاحقاً بحبسها لمدة ستة أشهر كما تنص المادة رقم 96 من قانون الطفل، أو بتغريمها ما بين ألفين إلى خمسة آلاف جنيه، فهنا يثور التساؤل هل سيحقق مثل هذا الحكم المتصور فرضاً أى فائدة للأسرة التى ستكون فقدت عائلها الأوحد، وهى الأم؟ وهل سيؤدى الحبس مثلاً إلى تماسك الأسرة؟ وحينها فمن سيعول هؤلاء الأطفال الأربعة بمن فيهم الأصغر ذو السنوات الخمس؟ أم أن تلك الأسرة سيكون لديها مصاريف المحامى ثم القدرة على دفع الغرامة أياً كانت ولو فى حدها الأدنى، أى ألفين من الجنيهات فى حين أن كل ما تتكسبه هذه السيدة من عملها كعاملة نظافة هو 300 جنيه فقط لا غير طوال ثلاثين يوماً من العمل المضنى الذى لا يرحم، بينما زوجها مُصاب نتيجة الاعتداء عليه وسرقته ويخضع للعلاج لدى أقارب له. ولو تصورنا مثلاً أن القرار جاء كما طالب البعض فى السوشيال ميديا بوضع الطفل فى مركز رعاية للأحداث، وإبعاده عن أمه بدعوى الحفاظ عليه، فهل كانت النتيجة ستكون مرضية للطفل نفسه ولمستقبله وهو الذى بكى أمام النائب المحقق متمسكاً بالبقاء معها ومُصراً على خروجها والعودة معها إلى المنزل؟
هناك الكثير من مثل هذه التصورات التى امتلأت بها تعليقات الذين شاهدوا المقطع المصور ذى الدقيقة والنصف قبل أن يدركوا طبيعة الموقف ومجمل حالة الأسرة، لقد نَصّب البعض نفسه قاضياً قبل أن يعرف أى شىء، وحكم بأقسى الأوصاف وأقسى الأحكام فى لحظة انفعال عابر، كثيرون عبروا عن غضبهم وأهالوا التراب على الأم باعتبارها مفترية ولا يهمها حياة ابنها، والكل طالب بالعقاب الزاجر، كان التعاطف مع الطفل هو الأساس والمنطلق، ولهم حق فى ذلك ولكن فى حدود المقطع المصور لا أكثر ولا أقل، قليل من حاول أن يدرك السبب، وقليل جداً من سأل نفسه هل فعلت هذه الأم ما فعلته لأنها أم سيئة تريد التخلص من ولدها على الملأ دون خوف من عقاب، أم أن هناك سبباً قوياً، وليس بالضرورة مقبولاً؟
ولعل قرار النيابة يعطينا درساً مهماً، فالتسرع فى إطلاق الأحكام يؤدى عادة إلى المهالك، فالمطلوب دائماً أن تضع الأمور فى سياقها الكلى، وألا يؤخذ المرء بظاهر الشىء مهما كان مثيراً، الذين طالبوا بحبس الأم وإبعادها عن أطفالها لن يكلفهم الأمر شيئاً إن صارت الأمور على هذا النحو، وغالباً سيشعرون بالانتصار وأنهم أسهموا فى حماية طفل برىء، بينما ستقع الكارثة الكبرى على الأسرة برمتها، وحينها لن يقدم أحد أى اعتذار أو مساعدة، ولو بالكلمة، قرار النيابة جاء بما يجب أن يكون. الواقعة برمتها مليئة بالدروس، ومنها سطوة السوشيال ميديا بكل مشكلاتها وانفعالاتها، وأيضاً بكل نوايا الشهرة لدى البعض وتفضيلهم البحث عن واقعة مثيرة بدلاً من تقديم يد العون، والعلاقة بين الفقر والجهل وسوء التصرف، وضغوط الحياة على البسطاء، وغياب الشهامة وقلة النخوة لدى الأقربين، وضعف الإنسانية حتى بين أبناء الطبقة الواحدة وبعضهم البعض، ولكنها أيضاً أظهرت معدن رب الأسرة الذى دافع عن زوجته، أم أولاده، وأقر بدورها فى إعالة الأسرة نظراً لوضعه الصحى، وأقر برعايتها لأولادها وحبها لهم، وأن ما فعلته كان أمراً عابراً، وطالب بالإفراج عنها، لأن الأسرة بدونها ستضيع، وهنا مربط الفرس، فالأم هى الرابط للأسرة وصمام أمانها، وإذا كانت معيلة وعاملة كحالة أم الطفل أسامة، فهى مركز الأسرة وعمودها، وإذا ضاعت أو غابت أو احتجبت أو حجبت لأى سبب كان، ضاعت الأسرة وخسر المجتمع ككل، كما أظهرت أيضاً إلى أى مدى هناك فارق جوهرى بين نصوص القانون الذى يكتب بدون مشاعر، ويقر عقوبات بالمطلق، وبين وقائع عديدة تبدو لمن لا خبرة له بأنها تقع ضمن هذه النصوص الجامدة، بيد أن تجلياتها تدفعنا إلى أحد أمرين؛ أن نضع الرحمة فوق القانون ونصوصه الجامدة، أو نعاقب بلا رحمة. حالة السيدة أم «طفل البلكونة» هى حالة مثالية لأسرة فقيرة تطحنها ظروف الحياة، ولكنها ليست الوحيدة، هناك الآلاف من تلك الأسر تعيش بيننا، وتحتاج من كل مؤسسات الدولة نظرة رعاية شاملة تساعدهم على الخروج من دائرة الفقر والحاجة والجهل وانعدام الثقافة، لم تعد نظرات العطف العابر أو المساعدات العابرة تكفى، قد تجلب الفرحة لعدة ساعات، ولكنها لا تنفع ولا تدوم، من فى الظروف التى نمر بها يمكنه أن يعيش بدخل 300 جنيه فى شهر كامل؟ ومن يستطيع أن يطالب هؤلاء الفقراء المطحونين بمعرفة نصوص القانون وعقوباته وروادعه، وهم يأكلون بالكاد، ويعيشون على هامش الحياة، وليس لديهم أى صلة بالفيس بوك أو تويتر وكل تلك الأدوات العصرية التى تصوغ حياة القادرين دون غيرهم؟
بعض الجمعيات الخيرية عبرت عن رغبتها فى مساعدة الأسرة، وهذا أمر جيد، لكن الأكثر جودة أن تكون هناك سياسة تلتزم بها الدولة بمؤسساتها الرسمية والخيرية لانتشال هؤلاء مما هم فيه، ثمة جهود تبذل لا شك فى ذلك، مبادرات حياة كريمة والتخلص من العشوائيات واستبدالها بمجتمعات آدمية وإنسانية تصب فى هذا الاتجاه، ولكنها ليست كافية، ثمة ضرورة للتوسع فى تلك البرامج المجتمعية بروح تنموية شاملة، والبحث عن هؤلاء المحتاجين الحقيقيين ورعايتهم بدون منة من أحد، إنها حقوق سيحاسب عليها كل من يستطيع ولكنه يتعالى أو يتجاهل.