نشوى الحوفى تعرض «أولاد الناس».. رواية تعيد طرح التاريخ وتساؤلاته عن المماليك وعلاقتهم بالمصريين والغزو العثمانى

كتب: نشوى الحوفى

نشوى الحوفى تعرض «أولاد الناس».. رواية تعيد طرح التاريخ وتساؤلاته عن المماليك وعلاقتهم بالمصريين والغزو العثمانى

نشوى الحوفى تعرض «أولاد الناس».. رواية تعيد طرح التاريخ وتساؤلاته عن المماليك وعلاقتهم بالمصريين والغزو العثمانى

.. لم تدرِ بنفسها وهى تطوِّق صدره، وتهمس فى فرح طغى على كل المشاعر الأخرى: محمد!

- لم تنطقى اسمى هكذا من قبل.

- أنت أفضل زوج فى كل البلاد.

- مع أننى من المماليك؟

- مع أنك من المماليك.

سلَّط نظره إلى عينيها وقال: زينب، اصدقينى القول، ماذا يقول العامة عن المماليك؟ وإياك أن تكذبى.

قالت فى خضوع: يحمون البلاد ويضحون بأنفسهم وحياتهم.

ابتسم فى تهكم ثم قال: وأهل مصر يفهمون هذا؟ يعرفون الأخطار؟

طأطأت رأسها ثم قالت: ربما لا يدركون سوى أخطار الوباء والفقر يا مولاى، للإدراك يومُ وميعاد، مثله مثل الموت والميلاد... الجهل يعمى البصيرة ويخرج الضغائن، ربما لو عرف أهل مصر المماليك أكثر لتلاشى الخوف...

{long_qoute_1}

ربما تلخص تلك العبارات الواردة على لسان بطلى القصة الأولى فى رواية دكتورة ريم بسيونى الأخيرة، ذلك اللبس والخلط العالق فى أذهان نسبة غير قليلة من المصريين تجاه المماليك وحقبة حكمهم، حيث المشاعر المتضاربة تجاه هؤلاء الأمراء الذين حكموا مصر لمدة تقترب من ثلاثة قرون منذ سقوط الدولة الأيوبية عام 1250 ميلادية وحتى الغزو العثمانى لمصر عام 1516 ميلادية، فنحن نتحدث عن انتصاراتهم على التتار والصليبيين وما شيدوه من مدارس وتكيات وما تركوه من آثار معمارية تتقدمها تحفة المعمار الإسلامى المتجسدة فى مسجد السلطان حسن، ثم نتحدث عنهم بكراهية حين الحديث عن أسلوب حكمهم وإدارتهم للبلاد وتناحرهم وصراعهم على الحكم وفرضهم للضرائب غير متناسين لأصولهم كعبيد جعلت المصريين يطلقون عليهم كإشارة على الاحتقار لعدم معرفة أنسابهم، «أولاد الناس».

ومن هنا تأتى أهمية تلك الرواية الرائعة المفعمة بلغة سلسة وحضور طاغٍ للتاريخ فى خلفية الحدث المستند على ثلاث قصص للحب، تدور كل منها فى إحدى مراحل تلك الحقبة، عبر ثلاثة أجزاء داخلية طبعت فى رواية واحدة تعتمد كلها على سيرة المماليك فى مصر منذ عهد الناصر قلاوون وحتى الغزو العثمانى لمصر وانتصارهم على السلطان طومان باى بخيانة أحد مساعديه وقطع رأسه وتعليقها على باب زويلة فى القاهرة.

تبدأ الحكاية الأولى بقصة زينب بنت أبى بكر، أحد كبار تجار المحروسة، التى فقدت أشقاءها السبعة فى نكبة الوباء ولم يتبق لها سوى أخيها أحمد ووالديها وخطيبها الذى هو ابن عمها يوسف، إلا أن حادثاً يعترض سعادتها قبل زفافها حين يتشاجر أخوها وخطيبها مع بعض جنود الأمير المملوكى «محمد بن بيليك المحسنى» الذى يتصادف وجوده فى الخان وقت الشجار، وتسرع له زينب لإنقاذ أخيها وخطيبها والعفو عنهما، ولكنه يصر على عقابهما، ولكن الأمير يقع فى حب زينب دون البوح به، فيضع ارتباطه بها شرطاً للإفراج عن أخيها وابن عمها، لتتطور الأحداث وتدرك زينب فى بيت الأمير حقيقة المماليك كمقاتلين حموا البلاد ومتصارعين على السلطة لا يأمنون غدر بعضهم، كما تقع فى حب زوجها الذى تدرك معه معانى الأمان، ولكن قبل زواجها تتعرف على نظرة المصريين للمماليك من حوار أبيها مع الشيخ عبدالكريم، الذى تعبر شخصيته عن علاقة السلطة بالدين منذ القدم.

- ابنتى مخطوبة إلى ابن عمها وحفل زفافها كان سيكون اليوم، لن توافق، ولن أوافق، أرمى بها إلى المملوكى.

- هو أمير مئين تحت يده مائة مملوكى أو يزيد، ويتقدم ألف جندى فى الحروب، هل فقدت صوابك؟

- ولكنه مملوك، قراره ليس بيده، كان عبداً ثم أصبح أميراً، وربما ما زال عبداً لا أعرف، غريب على أرضنا، لا هو منا ولا هو يعرفنا، لا نعرف من أين أتى ولا من أهل بيته، مهما امتلك من جنود فهو مملوك وغريب وولاؤه ودينه مشكوك فى أمرهما، لا نعرف حتى ماذا كان دينه فى بلاده القديمة.

- لا يعيب الرجل سوى دينه، وهو مسلم ومتدين، وكلنا ملك لله، من منا يملك مصيره؟

- ابنتى لن تتزوج من المماليك، سيقتلها، قسوتهم تبتر القلب يا أخى، نعرفها جميعاً، يا شيخ أهل مصر أحرار لم يستعبدهم سلطان ولا خليفة، كيف لهم أن يتزوجوا من العبيد.

- يحكمونك من تطلق عليهم عبيداً يا أخى، ويقدرون قوتك، ويعاقبونك لو ارتكبت خطأً، لم يكن من عادتهم الاقتراب من العامة، يفضلون النساء من بلادهم.

- يعربدون فى البلاد كيفما يشاءون ولا يقتربون من ابنتى، يحكمنا العبيد لا بأس، ولكن لا يصاهروننا ويصبحون منَّا، لا يمكن ولا يجوز.

قال الشيخ: يا أخى، الأمراء يعرفون أن أهل مصر يطلقون عليهم مماليك؛ لأنهم فى الأصل ليسوا أحراراً، ولا يؤذيهم هذا الاسم لأنهم يقولون إن الملك لله وحده وليس لأحد، وكلنا ملك لله وأعتقد أنهم على صواب، قلت لك الملك لله.

تذهب زينب كزوجة لقصر الأمير محمد كارهة مرغمة عازمة على عدم نسيان خطيبها يوسف وإن سلمت جسدها لهذا الزوج المتجبر، ولكنها تكتشف شخصيته التى تمنحها حقيقة معنى الحب الذى كانت تبحث عنه، كما تمنحها رؤية مختلفة للمماليك وهو ما تدركه فى بعض من حواراتها مع ذاتها.. «يشغلها أمر المماليك؛ لم تعرفهم يوماً، ولم تر سوى الجنود أحياناً فى الطرقات، والأمراء على خيولهم من بعيد يتفقدون حوارى القاهرة، يوم تولى السلطان كانت تخرج فى الاحتفالات وتستمع إلى الأغانى والموسيقى وتفرح مع العامة، ولم تسأل نفسها يوماً أين يختبئ المماليك، ولا كيف يعيشون، ولا ماذا يأكلون، سمعت بعض الشائعات، قيل إن المماليك هم من منعوا بيع الأوز والدجاج فى أسواق العامة، وتركوا لهم اللحم الرخيص والخضراوات، وإن المماليك يأكلون أفضل أنواع الفواكه ويرتدون الحرير والذهب، وإن حال العامة سيكون أفضل لو لم يأكل المماليك فى بطونهم الحقوق والأموال، همسات أهل بيتها كانت نادرة وحذرة، وهيبة المماليك لم تتزعزع حتى مع اختفاء الدجاج من الأسواق ووصول سعره إلى سعر الذهب.. بعد ثلاثة أيام لاحظت نظام زوجها الأمير اليومى، وكيف يتدرب يومياً على السيف والرمح والجرى والمصارعة ثلاث ساعات بعد الفجر مباشرة، أدهشها بصلاته للفجر كل يوم وقراءته بعض القرآن قبل التدريب، ثم الاختفاء تماماً من القصر حتى المساء.. ». {left_qoute_1}

لم تكتشف زينب فقط حقيقة الأمير ولا مسار حياته اليومية ولكنها عرفت أيضاً طبيعة الحياة بين أمراء المماليك وصراعهم فيما بينهم، وتصنيفهم لبعضهم البعض ونظرتهم لمصر التى كانوا يدركون مهما تخاصموا قيمتها وأهمية دفاعهم عنها ومسئوليتهم عن ذلك مهما سرت بينهم الخيانة لبعضهم البعض، من هنا تقف أمام هذا الحوار بين السلطان بيبرس الجاشنكير وزوجها الأمير محمد.. «جاء الأمير محاطاً بجنوده، قال له السلطان بيبرس الجاشنكير، وهو يتفحص وجهه: أثق بولائك. هزَّ محمد رأسه بالإيجاب، فأكمل بيبرس: إذا تقاتل المماليك بعضهم مع بعض أمام العامة والعلماء تضيع هيبتهم، ويصبحون عرضة للسخرية والاستهتار، لذا فضلت أن أَجْنَح إلى السلم مع الناصر محمد،

قال الأمير محمد: أتفق معك.

- مشاكلنا نحلها بيننا، ولا يتدخل فيها أهل مصر، وجود الناصر محمد فى الكرك يقلقنى، ومماليك الشام ولاؤهم مشكوك فيه، ويعتقدون أنه هو الوريث الشرعى للعرش، وعرش مصر لا يورث، فهم المماليك هذا ولم يفهمه أحد من قبلهم، وربما لن يفهمه أحد بعدهم، لذا لا بد أن يمسك بزمام الأمور قائد وجندى، هذه مشكلة تقابلنا يا محمد، فهناك فرق، وأنت ما تعرف بينى أنا وأنت والناصر محمد. تفهمنى، أليس كذلك؟

نظر إليه محمد برهة ثم قال: أنا وأنت مماليك.

أكمل بيبرس: مقاتلون وجنود حاربنا معاً فى مرج الصفر، وانتصرنا على المغول كما فعل المماليك من قبل، وأنا وأنت كنا من خشداشية السلطان قلاوون، تعرف يا محمد، والناصر محمد مهما كان فهو ابن سلطان وليس محارباً ولا جندياً مثلنا، لم يتدرب على القتال منذ الصغر، ولم يقسم ولاءه لأستاذه مثلى ومثلك، هو من سلالة المماليك، ابن ناس وليس مملوكاً..».

وهكذا تسير الرواية الأولى تغزل فيها تفاصيل قصة الحب - بين زينب بنت العامة والأمير محمد ابن الناس - حالة من التطلع لهذا العصر الذى سادت فيه علاقة مشوبة بالحذر بين حاكم يدرك قيمة حكمه ويعرف دوره والخطر المحيط بالبلاد ولا يثق فى كل من حوله، ومحكوم يرى فى حاكمه التجبر حين تتعارض مصالحهما ويرى فيه الحامى حينما تتعرض البلاد للخطر، دون أن يدركا أن فى الفهم راحة وفى الإدراك نجاة، ومن هنا تقف أمام حوار رائع بين الأمير محمد وزوجته زينب التى باتت ثقته فيها عمياء إلى حد تسليمها مقاليد حساباته وأسراره وأوراقه.. «الفهم يأتى باليقين يا زينب وليس بالمعرفة، أهل مصر يقولون إن المماليك عبيد من العجم، بلا أصل ولا قبيلة، يقضون أيامهم فى المجون وسط القصور، يحاربون بأجر ويحمون بإتاوات، لا هم عرب ولا هم خلفاء. ما رأيك؟

قالت مسرعة: لم أسمع هذا الكلام قط.

- عهدتك ذكية يا زينب، الكذب لا يجدى، سمعتِه وردَّدتِه مثلك مثل غيرك.

قالت فى تأكيد: أقسم لك الآن إنك أفضل زوج فى كل البلاد.

- لأننى لا أريد الجوارى أم لأننى أحمى ديار المسلمين وأبقى على بلادك آمنة وسط الخراب؟

لم تكن تعرف الإجابة، فى هذه اللحظة كانت تريد إرضاءه ونصرته كما نصرها، ولكنها بقيت صامتة.

فقال: أين فصاحتك يا زينب؟!

همست: كثيراً ما يعجز لسانى ويحتار عقلى أمامك يا مولاى، الجهل يعمى البصيرة ويخرج الضغائن، ربما لو عرف أهل مصر المماليك أكثر لتلاشى الخوف.

اقترب منها وقال: وأنت تعرفيننى أكثر؟

قالت فى تلقائية وصدق: خوفى منك وعليك لن يتلاشى يا مولاى.

نظر إلى قرة عينيها، وقال بصوت خافت: ها هى ذى فصاحتك تنقذك من جديد.

- كنت تريد عقابى يا مولاى؟

- كنت أريد فهمك.

- ظننتك تقرأ عينىّ؟

- للاجتهاد قيمته وسط الأخطار، والثقة تؤدِّى إلى الهزيمة، لم تسألينى ماذا يظن المماليك بأهل مصر.

ابتسمت وقالت: لا أريد أن أسأل عن أشياء لو بدت لى تسؤنى وتخذلنى.

{long_qoute_2}

تنتهى الرواية الأولى بتعرفنا على حسن الابن الأصغر لزينب والأمير محمد، ذلك المهندس الذى يعهد له السلطان محمد بن قلاوون بتصميم وبناء أهم مسجد فى العالم، مسجد السلطان حسن بضخامته ومعماره المبهر ليكون من أضخم وأشهر مساجد العالم الإسلامى حتى يومنا هذا، وليظل علامة فى التاريخ الإسلامى عامة والمملوكى على وجه الخصوص، رغم ما مر عليه من أحداث عبر حقب طويلة جعلت منه فى بعض الأحيان إسطبلاً لخيول المماليك فى لحظات اقتتالهم مع بعضهم البعض، وفى أحيان أخرى قبلة العلم بمدارسه الفقهية التى كانت مفتوحة لجموع المسلمين للتعلم، وهو ما تقول عنه ريم بسيونى فى ثلاثيتها:

«لم يتبقَّ من السلطان الشاب سوى صرح لم يبنِ مثله أحد من السلاطين، لا دفن فيه ولا رأى نهايته وجماله.. ولكنه لم يزل يعطى للمدينة لوناً براقاً زاهداً وينطق بكلمات كثيرة، ويشهد بأن وسط المؤامرات يأتى الإبداع، وفى رحم الحزن تولد العظمة، وبين حنايا القتل تنتشر الحضارات وتترعرع. شاهد المسجد على العمر، لا أحد يعرف السلطان حسن ولا كيف مات، ولم يعرف العامة اسم المهندس سوى بعد عمر طويل».

ثم تبدأ القصة الثانية التى دارت أحداثها فى قوص بصعيد مصر بعيداً عن القاهرة، ويكون بطلها القاضى عمرو الذى ورغم حداثة سنه إلا أنه كان يرفض الإذعان لسلطان أمراء المماليك إن أخطأوا كبقية رجال الدين الذين اعتادوا مهادنة الأمور لتسيير الحياة مع أصحاب النفوذ، ولذا يصر القاضى عمرو الحاصل على الإجازة من الأزهر فى الأمور الفقهية أن يقيم الحد على ابن أمير مملوكى اغتصب طفلاً مسيحياً دون العاشرة وقتله، حتى إنه ليذهب للسلطان فى القاهرة لإقامة الحد ويوافقه السلطان، ويرتبط اسم القاضى عمرو بالسلطان الذى يفقد حكمه فى صراعه مع المماليك ويسجن مع ثلة السلطان فى قلعة الكرك بالشام، إلا أن عودة السلطان للحكم تمنحه العودة من خلال ضيفة ابنة قوص التى أحبته ووقر حبها فى قلبه منذ أن أنصفها من تجبر أبيها وزوجها الذى لم يعاشرها منذ زواجهما، بسبب ما يشاع عنها بأنها تصاحب السحرة عبر علاقتها بسيدتين من اليمن سكنتا قوص، لتتوالى الأحداث عبر قصة حب جديدة بطلها عمرو وضيفة والسلطان ومسجد السلطان حسن الذى بات ساحة لاقتتال المماليك فى تلك الحقبة التاريخية.

«وصلا معاً إلى مسجد الحسين، ثم أخبرها أنه ينوى زيارة مسجد محمد المحسنى الأمير المملوكى الذى أوصى بوقف لجده ثم أبيه وله من بعده، عند الوصول إلى المسجد حكى لها فى حماس عن الأمير وعلاقته بجده، والمصحف المرصع بالذهب الذى تركه لزوجته المصرية زينب المقشعى، وقصة حبهما التى يحكى عنها الناس حتى الآن، ابنها محمد بن محمد المحسنى هو من صمم وشيَّد مسجد السلطان حسن، كانت تتحسس المصحف بأصابعها والدموع تتساقط فى صمت، بقى صامتاً لا يعرف، أيغضب منها؟ أيشفق عليها؟ أتبكى رثاء للسعادة التى تسربت من قلبها للأبد أم لموت الأمير قتيلاً؟ أم لتعاستها هى؟ أزعجه الاحتمال الأخير وقال فى ضيق: ماذا بك؟ لِمَ البكاء؟

مسحت دموعها بسرعة وقالت: لا بد أنه غبار القاهرة.. إلا أن جزءاً من الرواية يكشف لك عن اختلاف النظر لشخصية رجل الدين عمرو وعلاقته بالسلطة وأقرانه والعامة حين تصف ريم بسيونى ذلك بالقول:

«العلماء يعرفون عمرو بن أحمد بن عبدالكريم، درَّسوا له معظمهم أو كلهم، لم يتم عامَه الأربعين وغروره وطموحه يزعجان الجميع، قصته مع الأمير فخرالدين تنم عن طيش شباب وعدم دراية بالأحكام، وقصته مع التاجر القوصى أخطر بكثير؛ أبطل زواج ابنته مرتين ليتزوجها هو، معروف عنه اتباع الهوى وقلة المعرفة والقلب الأسود، يبطش بأعدائه، ويهدد من يقف ضده، وليته يحمل الجميل أو يحترم العهد، لا، عاهد حَماه أنه لا يريد منصب قاضى القضاة وكذب وأخلف، منافق بالتأكيد، وجاحد ومتسلق، بعد أن أشفق عليه قاضى القضاة وأعاده لمنصبه فى قوص ذهب إلى برقوق يستغيث ويفترى ويثير الفتن ضد من ساعده ليحصل على منصبه، أى رجل وأى عصب ينجب هذا الظالم؟! جده كان مغروراً أيضاً ولكنه فاق فى فجوره الجميع، لا دين يعنيه ولا آخرة يعمل من أجلها، يستحق الرجم والموت هذا الظالم ناكر الجميل الحاقد على أساتذته الطامع فيما لغيره، لا بد من التخلص منه.

والأمراء انتابهم قلق لا يوصف من قرار بدا متسرعاً من السلطان، وكأنه يكافئ عَمْراً على وقوفه معه فى حربه ضد يلبغا ومنطاش، ولا يأبه بأهل العلم، ويتجه إلى أصدقائه ليعطيهم أخطر المناصب فى البلاد، أخطأ برقوق، وخَطَأه جريمة، من بين كل المصريين والمغاربة والشوام يختار قاضى قوص الذى تجرأ وأعدم ابن أمير ليصبح قاضى القضاة؟ أىّ رسالة يعطيها لأمرائه هذا السلطان وأى ذل؟ يتحكم فيهم الشيخ ويدوس على رقابهم وهم حماة الدار؟ أخطأ برقوق وضل واتبع هواه.

أما العامة فاختلط عليهم الأمر، بعضهم اتبع الأمراء، وبعضهم اتبع العلماء، والقليل قال إن فى تولية قاضى قوص منصب قاضى القضاة إنذاراً لكل ظالم وعودة للحق والعدل، ولكن حتى إذا كان هذا هو الأمر فهو لا يعنيهم كثيراً فمتى أنصفهم قاضى القضاة؟ ومتى أنصفهم الأمراء ومتى أنصفهم السلطان؟ لم يُنصفهم سوى بائع الحلوى على ضفاف النيل، جعل الحياة ممكنة والتحمل جائزاً»..

نعم تتبدى لك الحكاية الثانية فصلاً جديداً لصراع سلطة السيف وسلطة الدين وكيف تجمعهما مصالح وتفرقهما مصالح.

ثم تبدأ القصة الثالثة، التى تُروى عبر ثلاثة رواة فى وقت واحد، كل يحكى من وجهة نظره ما حدث لمصر وشعبها ومماليكها عند الغزو العثمانى، الذى زيفه التاريخ باسم «الفتح الإسلامى»، فتروى القصة من قبل هند ابنة المؤرخ أبوالبركات، التى تكاد تقع فى يد جنود العثمانيين يغتصبونها ويقتلون أخاها ذا السنوات الخمس حين غزوهم لمصر، لولا أن ينقذها من براثنهم فلاح ملثم من بلبيس يدفع لهم ما يفتديها وأخاها منهم، ولكنه يعتبرها منذ ذلك اليوم جاريته. الثلاثة يروون ما حدث، فنعرف أن هذا الفلاح ما هو إلا الأمير سيلار أحد أمراء المماليك، الذى يقاوم العثمانيين ويرفض خيانة الأمير خاير، الذى هو فى ذات الوقت حماه الذى باع السلطان طومان باى مقابل وعد بحكم مصر من السلطان سليم الأول سلطان العثمانيين، نعاصر الأحداث عبر قصة حب تربط بين قلبى الأمير سيلار وهند فى إطار التاريخ وأحداثه، وحرب استعمل فيها العثمانيون آلة القتل والنهب واغتصاب النساء والمال ونهب الثروات، بما فيها أمهر الصناع الذين نقلوهم إلى الأستانة، ليصنعوا عظمة مسجد السلطان حسن فيها! وتستمع لحوار بين هند وسيلار يظهر مرة أخرى بعضاً من حيرة النفس:

ثم خرج وامتطى فرسه وعاد عند الفجر، كنت أنتظره.. عندما عاد خلع ملابسه وجلس على فراشنا وقال: تعتقدين أن المدافع هى ما هزمنا أم ظلم كامن فى أفعال الأمراء أم الخيانة؟

قلت فى رفق: الحرب انتهت يا سيلار منذ خمسة أعوام. قال وكأنه لا يسمعنى: ولكن سليم شاه مات ولن يأتى إلى مصر مرة أخرى، يقولون إنه كان يريد أن يبنى مسجداً مثل مسجد السلطان حسن ولم يستطع، تعرفين هذا؟

قلت وأنا أمرُ بيدى على وجنته: سيلار.. الحرب انتهت وسليم مات والمماليك ما زالوا يحكمون مصر.

ردد: المماليك ما زالوا يحكمون مصر.. أى خديعة هذه؟! الهزيمة لم تبدأ بعد والعدو المقبل أبشع وأكثر طمعاً، ربما جاء من بلاد الصليبيين من يدرى؟

كانت عيناى نصف مغمضتين، وكنت قد اعتدت هذا الحديث كل ليلة وكأنه يحاول أن ينهى المعركة لصالحه كل ليل وكل فجر ولا يستطيع.

قلت فى حنان: تعال، نم.

- لا نوم يطفئ نار النفس، ولا نوم يريحها.

قلت فى ألم: نحتاج إليك وأخاف عليك.

أغمضت عينى ليلتها فالتفت إلىّ ووضع رأسى على الوسادة وهمس: نامى أنت، تتحمليننى.. أعرف.

ثم قبَّل جبهتى فابتسمت وأيقنت حُبَّه ونمت فى سكينة.


مواضيع متعلقة