«الوطن» تكشف: مرضى ألزهايمر.. السقوط من ذاكرة الدولة

كتب: أحمد العميد ومحمد أبوضيف

«الوطن» تكشف: مرضى ألزهايمر.. السقوط من ذاكرة الدولة

«الوطن» تكشف: مرضى ألزهايمر.. السقوط من ذاكرة الدولة

شعر أحمد على بالظمأ.. جال بنظره فى أنحاء الغرفة، لم يجد زجاجات المياه التى عهدها إلى جانب سريره، خرج «على» ذو الستين خريفاً، يستند على عكازه ويده الأخرى على الحائط، حتى وصل إلى المرحاض، ابتسم حين وجد ضالته.. زجاجة كتلك التى اعتادت أن ترويه.. التقطها وأفرغها فى جوفه، كان مذاقها مراً ولزجاً، دقائق وشعر وكأن وحشاً يلتهم أحشاءه، ثم سقط مغشياً عليه.

من دار المسنين، حيث يقيم «على»، إلى المستشفى، تم نقل العجوز ليجد ذويه فى انتظاره، أخبرهم الطبيب أن مريضهم شرب من زجاجة مملوءة بسائل للتنظيف، كان مقدمو الرعاية فى دار رعاية المسنين قد غفلوا عنها، تلك الدار التى أُودع فيها بعدما التهم «ألزهايمر» خلايا مخه، والتهم معها كل ما علق فى ذاكرته من تاريخ وأسماء، لا تعاوده إلا قليلاً وبعد فترة انقطعت عنه، فأصبح لا يستطيع معرفة أولاده وأفراد أسرته، ومع مرور الوقت فقد أيضاً أى وعى وتمييز للأشياء حوله كبيرها وصغيرها.

«ألزهايمر» واحد من أمراض الخرف التى تصيب المسنين، يعد متلازمة يمكن أن تحدث بسبب عدد من الاضطرابات الدماغية نتيجة تدهور الخلايا العصبية، التى تطال الذاكرة والتفكير والسلوك والقدرة على القيام بالأنشطة اليومية، وتمييز الأشياء، حسب منظمة الصحة العالمية.

{long_qoute_1}

قصة «عم على» كما كان يحب أهل منطقته ببولاق أبوالعلا أن ينادوه، ليست الوحيدة، هناك مئات من الحالات التى تعرضت للإهمال داخل دور رعاية المسنين والمراكز الصحية لرعاية مرضى ألزهايمر، التى يكشف هذا التحقيق عن عدم مطابقتها لمواصفات الرعاية التى وضعتها الجمعية العالمية لمرضى ألزهايمر، ما يتسبب فى تدهور حالة المرضى الصحية بشكل سريع ويعجل بالانتقال من بين مراحل المرض الثلاث حتى الوفاة.

ندى محمد، حفيدة «على»، عشرينية العمر، مهندسة، كانت تداوم على زيارته فى الدار وتتابع حالته باستمرار، تروى لـ«الوطن» حكايته، فتقول «إن حادثة شرب المنظف، التى وقعت بعد ثلاثة شهور من إيداعه دار المسنين تسببت فى تدهور حالته الصحية»، ولكن بعد اعتذار مسئولى الدار عاد إليها مرة أخرى بعد خروجه من المستشفى لتمر ثمانية أشهر حتى أبلغها مسئولو الدار بأنه سقط فى المرحاض ونقل إلى المستشفى فى حالة يرثى لها.

كانت غفلة أخرى لمقدم الرعاية بالدار كفيلة بسقوط «على» فى المرحاض، خاصة أنه دخل فى مرحلة عدم الاعتماد على ذاته بأى شكل من الأشكال، سواء فى قضاء حاجته أو الاستحمام، حيث يعتمد على مقدم الرعاية فى تلبية احتياجاته الشخصية، وكانت تلك الغفلة سبباً فى كسر مضاعف ترتب عليه نقله للمستشفى، لم يحتمل جسد العجوز الواهن وعظامه الهشة ذلك السقوط، وبعد إجرائه عملية جراحية خرج ولم يعد للدار مرة أخرى، بعدما أيقن ذووه أن هناك إهمالاً جسيماً فى رعاية مرضى «ألزهايمر» فى تلك الدار.

يمر مريض ألزهايمر بثلاث مراحل، تبدأ بمرحلة نسيان نسبى، وينتهى فى المرحلة الثالثة طريح فراش حتى الوفاة، الفترة الزمنية لكل مرحلة حسب أطباء متخصصين، من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات، والحفاظ على أقصى مدة زمنية لكل مرحلة يتحدد حسب مدى الرعاية السليمة للمريض، التى وضعت قواعدها الجمعية العالمية لرعاية مرضى ألزهايمر، والإهمال يسرع من وتيرة الانتقال من مرحلة لأخرى حتى الوفاة.

{left_qoute_1}

سقطت دار المسنين فى الإهمال، حيث ما حدث لـ«أحمد على» يُعد عدم التزام بالقواعد التى وضعتها الجمعية العالمية لمرضى «ألزهايمر»، لتكون الرعاية داخل دور المسنين مطابقة للمواصفات، وفى البنود الخاصة بالبيئة المحيطة، فوجود زجاجة مسحوق تنظيف فى متناول يد مريض (أشياء قد يؤذى بها نفسه وهو غير مدرك) وأرضية المرحاض القابلة للانزلاق، هما من الأخطاء التى حذرت منها الجمعية وطالبت بتلافيها.

دخل أحمد على الدار وهو فى المرحلة الثانية من المرض، بحسب حفيدته ندى، وبعد أقل من عام واحد دخل المرحلة الثالثة، ولعام كامل ظل على طريح الفراش فى منزل حفيدته حتى وافته المنية.

وينص الدستور المصرى فى المادة 83: «تلتزم الدولة بضمان حقوق المسنين صحياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وتراعى الدولة فى تخطيطها للمرافق العامة احتياجات المسنين، كما تشجع منظمات المجتمع المدنى على المشاركة فى رعاية المسنين، وذلك كله على النحو الذى ينظمه القانون»، كما وقعّت مصر فى عام 2002 المعاهدة الدولية للشيخوخة، فى مدريد، التى تلزمها بخطة لرعاية المسنين اجتماعياً وصحياً منذ تلك الفترة.

300 ألف مصاب بمرض ألزهايمر فى مصر، حسبما أعلن فى مؤتمر اليوم العالمى لمرضى «ألزهايمر»، فى سبتمبر الماضى بكلية طب قصر العينى بالقاهرة، وطبقاً لما صرح به الدكتور طارق عكاشة، رئيس الجمعية المصرية لمرضى ألزهايمر، ونحو 50 مليون مريض حول العالم، وتقول الإحصائيات إن من المتوقع زيادة العدد بحلول 2030 وأن 70% من المرضى سيكونون من البلدان النامية، وتعترف منظمة الصحة العالمية بالخرف (ألزهايمر) كأولوية صحية عمومية.

استمع معدا التحقيق لذوى الضحايا، وشهود عيان على وقائع داخل الدور، وجمعا شهادات متعددة من أشخاص يعملون مع المرضى، كما قاما بزيارة عينة عشوائية من دور المسنين لغير القادرين على رعاية أنفسهم (منهم مرضى ألزهايمر) التى تشرف عليها وزارة التضامن، لكشف مدى مطابقتها للقواعد والمعايير التى وضعتها الجمعية العالمية لمرضى ألزهايمر، وكانت الجولة على 12 داراً فى 7 محافظات مختلفة، بخلاف زيارة مراكز صحية تعلن استقبالها لمرضى ألزهايمر.

يعيش 6 آلاف مسن ومسنة فى دور المسنين التى تشرف عليها وزارة التضامن، وعددها 168 داراً، منها 25 فقط لغير القادرين، موزعة على مستوى 22 محافظة، حسب آخر إحصاء للوزارة، ولا يوجد إحصاء لعدد المصابين منهم بمرضى ألزهايمر.

«قصر العينى» شاهداً

وسط حالة من الزحام التى تسيطر على ممرات مستشفى قصر العينى، تقف شيماء الجعفرى، الأستاذ المساعد بوحدة الذاكرة والإدراك بقسم الأمراض العصبية، كانت شاهد عيان على الكثير من حالات مرضى ألزهايمر التى استقبلتها فى حالة متأخرة بالمستشفى، عدد منهم مقبل من بعض دور رعاية مسنين، لاحظت قرح فراش (جرح مفتوح فى الجلد يحدث نتيجة النوم والجلوس الدائم لفترات طويلة) فى أجسادهم أوصلت بعضهم للمستشفى، وتقول «إن مريض ألزهايمر فى المرحلة الثالثة يكون طريح الفراش وعاجزاً عن الحركة، ما يتطلب من مقدم الرعاية تحريكه باستمرار بجانب أن يكون فراشه وسائد هوائية، ولكن هذا لا يحدث».

«الجعفرى» خلال كشفها على المريض المقبل من بعض دور المسنين تعلم أنه دائماً يكون مريضاً مهملاً لا يحصل على درجة رعاية جيدة تناسب حالته كمريض خرف «ألزهايمر»، بعض الحالات التى وصلت إليها كانت تعانى من جفاف؛ ما يكشف نقصاً كبيراً فى التغذية وكميات الطعام التى يحصل عليها، وتوضح أن المريض فى مرحلة ما يكون رافضاً للطعام، ويجب على دور المسنين التى تقدم رعاية حقيقية أن تهتم بذلك وتوفر بديلاً للتغذية من خلال نقله للمستشفى لمجرد الامتناع عن الطعام أو تغير قوائم الطعام بأخرى سهلة البلع، لأن بعضهم يكون لديه صعوبة فى المضغ والبلع، ولكن بعض الحالات التى تأتى للمستشفى يكون لديها نقص فى التغذية وجفاف.

رضا السيد، ثلاثينية العمر، كانت تعمل مسئول الطعام فى إحدى دور المسنين غير القادرين، التى كان بها عدد من مرضى ألزهايمر، كانت شاهد عيان على كيفية التعامل الغذائى والطبى مع مريض ألزهايمر، وتقول إن الغذاء الذى كان يقدم للمسنين بوجه عام كميته قليلة، فى ظل غياب وضعف الرقابة من جانب وزارة التضامن الاجتماعى، ولم يكن هناك تفريق بين ما يقدم لمرضى ألزهايمر وما يقدم للمسنين الآخرين من طعام، حسب «رضا»، فالكل كان يتناول وجبات أساسية، ولم يكن هناك أى إشراف طبى على هذا الطعام، لتحديد ما يقدم لكل مسن، حسبما يعانى منه من أمراض، بل إن فى بعض الأحيان كانت الدار تخلو من الملاعق والأدوات الأساسية لتناول الغذاء، ولم يكن بالدار سوى خمسة أخصائيين فقط، ولم يكن يرافق المسنين أى طبيب أو معالج نفسى.

{long_qoute_2}

كانت وفاة والدتها بعد معاناة مع المرض وعدم وجود أماكن مناسبة لرعايتها باعثاً لقرار أميرة البقرى بترك مصر والسفر للخارج لدراسة الطرق الحديثة فى التعامل مع المرضى، وعادت لتعمل مدربة مقدمى الرعاية لمرضى ألزهايمر.

فى رحلة شبه شهرية، تتجول أميرة البقرى على دور المسنين، تعرض عليها إقامة ورش لتدريب العاملين مع المرضى، ليكونوا قادرين على التعامل بشكل سليم، تلك الرسالة التى تؤمن بها أميرة، وتدافع عنها وتحملها على عاتقها.

كانت الدور المتعاونة معها قليلة جداً وتكاد تكون نادرة، ولكنها ظلت تبحث وخلال زيارتها لدور المسنين كانت لها مشاهدات عدة وروايات كثيرة، وتقول لـ«الوطن»: «إن عدم تدريب مقدمى الرعاية يتسبب فى تدهور حالة المرضى، وإن الكثير من الدور لم يدرك أن لكل مرحلة من المرض عناية خاصة، وإن مقدم الرعاية لا بد أن يعى تلك المراحل والطرق المناسبة للتعامل معها».

رحلة البحث عن مكان آمن

غيوم الشتاء تحجب الشمس عن السماء، وأمواج بحر الإسكندرية تداعب الصخور، بينما كانت سيدة طاعنة فى السن، بملابسها الرثة، تفترش الأرض بجوار سلة القمامة، وتأكل غداءها من طبق تشاركها فيه قطة صغيرة، وعلى بعد أمتار فقط تنام سيدة أخرى على مصطبة من الرخام فى تلك الأجواء الباردة، ذلك كان المشهد داخل دار الهدايا بشارع مصطفى كامل بمنطقة رأس السوداء شرق الإسكندرية، أولى محطات الجولة العشوائية لأحد معدى التحقيق على دور المسنين غير القادرين.

فى الداخل جلست فتاتان هما أخصائيتان اجتماعيتان إلى جانب سيدتين من العاملات، كانت هذه الدار مخصصة للسيدات المسنات وتعلن الأخصائيات إنهن يستقبلن حالات ألزهايمر، حيث تقسم الدار إلى مبنيين.

فى «الهدايا»، يُفصل النزلاء من المسنين بحسب حالتهم الاجتماعية وليست الصحية، حسبما قالت الأخصائية الاجتماعية التى رافقت معد التحقيق فى جولته، حيث إن المسنين فى القسم المجانى تم وضعهم فى مبنى منفصل يعانى من سوء الخدمات، وداخل المبنى المجانى سيدة مريضة بألزهايمر وقفت وحيده تتحدث للحائط، تظهر عليها ملامح الوهن، كانت غاضبة وتحدث نفسها، ولا تعرف من حولها، وفى الطابق الأول من المبنى ظهرت النزيلات بعضهن يجلسن على «حصير» بالأرض.

أغلب هؤلاء المسنات مريضات أو لديهن إعاقات، بحسب الأخصائية التى تحتفظ «الوطن» باسمها، وتقول إن الدار بها 36 نزيلة سواء فى المبنى المجانى أو المبنى ذى المقابل المادى، مشيرة إلى أن ممرضة واحدة فى الصباح وأخرى فى المساء لرعايتهن، بينما يخصص لهذا العدد أخصائيتان اجتماعيتان فى الصباح ومثلهما فى المساء، وهو ما ينافى قواعد الجمعية العالمية لرعاية مرضى الزهايمر، التى تفرض وجود مقدم رعاية لكل مريض ألزهايمر.

داخل الغرف، تغفو إحدى المسنات نائمة على الأرض، وتبرر الأخصائية أنهم قرروا أن يفرشوا لها الأرض للنوم بدلاً من النوم على السرير، لأنها كفيفة وكثيرة السقوط من أعلى.. 38 نزيلة فى هذا القسم المجانى، ودورات المياه فى المبنى غير مكتملة التجهيز، وتتحرك المسنات وسط كسرات الرخام وأدوات الطلاء، ويتخذن من مصطبة أسفل المبنى تحيطها القمامة والقطط من كل جانب استراحة لهن.

أما المبنى الثانى فيضم 37 نزيلة أخرى، ويفصل بين المبنيين حديقة على مساحة نحو 80 متراً، لكنها بدون أى أعمدة إنارة، وتقول الأخصائية خلال جولتنا: «المكان بيبقى ضلمة بالليل وبنخاف أصلاً ننزل فى الجنينة، بتبقى ضلمة وتخوف»، وهذا أيضاً يخالف القواعد الخاصة بالبيئة المحيطة، حيث لا بد من وجود إنارة مناسبة وغير مزعجة فى أماكن وجود المرضى.

وتعترف الأخصائية بفشلهن فى التعامل مع مرضى ألزهايمر قائلة: «مصابة مرض ألزهايمر لا أحد يعرف طريقة التعامل معها، وكل ما يتم فعله معها هو محاولة مجاراتها فى الحديث والاستماع لها لتتذكر ما نسيته»، وتقول ساخرة: «مرة اتنين مسنات عندهم زهايمر قعدوا يتكلموا مع بعض كل واحدة بتحكى فى موضوع منفصل عن التانى بقينا بنضحك من كلامهم مع بعض».

{left_qoute_2}

البتر علاجاً

لم يكن إيداع والدة «أَمَةَ الله حسين»، معلمة، 38 عاماً، فى دار مسنين بالأمر السهل، ظلت طيلة أربعة أعوام ترعى والدتها، منذ أن كشف لهم الطبيب عن مرض صاحبة الـ68 خريفاً بـ«ألزهايمر»، وترفض مطالب أسرتها بإيداعها بدار لرعايتها، حتى أخذت حالة السيدة العجوز التى نرمز لها بـ«س. م»، فى التأخر.

قبل عام من الآن، دخلت والدتها فى حالة «صراخ مستمر.. امتناع عن الحركة.. أصابها قرح فراش»، ظهور تلك الأعراض التى لم تستطع هى وشقيقتها التعامل معها دفعهما للبحث عن دار مؤهلة لرعايتها.

كان الأمر عليها صعباً للغاية، لذلك داومت «أَمَةَ الله» على زيارة والدتها بشكل مستمر يوماً بعد آخر، فى الدار التى يكتب على لافتة بابها أنها دار رعاية مسنين لمرضى ألزهايمر -تحتفظ «الوطن» باسمها- الدار التى تستقر فى مدينة نصر، تعلن عبر صفحتها بـ«فيس بوك» أن لديها مقدمى رعاية مدربين»، هذه الدار بها أربعة مرضى على نفس حالة والدة «أَمَةَ الله» ونفقاتها مكلفة للغاية، ففى الشهر الأول دفعت الأسرة 15 ألف جنيه، ورغم ذلك لم تتردد «أَمَةَ الله» فى دفع مصاريف الدار، رغبة فى وجود خدمة أفضل لوالدتها.

خلال زيارتها لوالدتها، كانت تلاحظ إهمال مقدمى الرعاية، للمسنين الآخرين سواء مرضى ألزهايمر، أو المسن العادى، فطلباتهم لا تُجاب، وفى بعض الأحيان تكون الردود على المرضى مهينة، متابعة: «تقولها يا شيخة اسكتى بقى أنتى طول النهار ترغى.. يا شيخة ما تنامى»، دون مراعاة لحالة هذه المسن ومرضها، وفى إحدى المرات وضعت مقدمة الرعاية الوسادة على وجه المسن بعنف حتى تجبرها على النعاس، بحسب «أَمَةَ الله»، ما دفعها للخوف على والدتها: «تخيل ده بيحصل قدامى مع المسنين اللى حوليّا.. شوف بقى بيحصل إيه لوالدتى وغيرها وأنا مش موجودة».

تلك التصرفات دفعت «أَمَةَ الله» للمداومة على زيارة والدتها بشكل يومى، حتى تتابع حالتها، وكانت أولى ملاحظاتها أنهم لا يعطونها جرعات الدواء والعلاج بانتظام، معلقة: «مرة ألاقيها واخداه ومرة تانية ألاقى شريط الدوا زى ما هو».

كانت والدة «أَمَةَ الله» تعتمد على «قسطرة بولى» فى عملية الإخراج، إلا أن الابنة لاحظت تغير لون البول، وحين سألت طبيباً أخبرها أن ذلك نتيجة قلة شرب المياه والسوائل، وبالتالى لا يتابع مقدم الرعاية كميات المياه التى تشربها المريضة، حيث لا يمتلك مريض ألزهايمر القدرة على التعبير عن ظمئه، وتقول «أَمَةَ الله» إنها كانت تشم رائحة كريهة فى ملابس والدتها خلال كل زيارة، ناجمة عن تسريب مياه البول من «القسطرة البولى»، فى ظل غياب العناية بالنظافة.

مرت أشهر ولم تضمد قرح الفراش فى جسد والدة «أَمَةَ الله»، دخلت الدار وكان بجسدها قرح من الدرجة الثالثة والرابعة، وذلك كان السبب الرئيسى فى نقلها إليها، وفحصها فى البداية طبيب، قالوا لها إنه يتبع الدار ويداوم على زيارة المرضى، وسألت عنه أكثر من مرة ولكنه لم يأت.

هاتف «أَمَةَ الله» أحد مقدمى الرعاية، وأبلغها بتدهور حالة والدتها، وأن القرح تزداد سوءاً، وأن من الممكن أن يصل الأمر إلى بتر قدمها، لتهرع نحو الدار، ودخلت فى شجار مع أصحابها حتى أحضروا الطبيب، ولكنه أبلغها أنه غير مسئول عن حالة والدتها وأنه لم يتابع حالة والدتها منذ المرة الأولى التى التقى بها فى أول مرة، وأن الدار لم تخبره أن حالة المريضة تزداد سوءاً ويجب الكشف عليها، وأن الحالة تتجه للبتر، وتتابع: «وقتها اكتشفت أن كل أحاديث الدار والمسئولين عن المتابعة المستمرة لحالة المرضى من جانب الأطباء وهم ومجرد دعاية»، لترفض «أَمَةَ الله» استكمال علاج والدتها مع طبيب الدار، وأحضروا طبيباً آخر تابع الحالة بناء على تكليف من الأسرة، حتى عالجها وأنقذ قدمها من البتر.

مرة أخرى يرن جرس الهاتف ويحمل معه وجعاً آخر لوالدة «أَمَةَ الله»، مقدمة الرعاية تبلغها أن والدتها القعيدة سقطت فى المرحاض أثناء الاستحمام وأن حالتها سيئة للغاية، وحين وصلت للدار وجدت أن هناك الكثير من الكدمات على وجهها، وحاجبها به جرح قطعى استلزم خياطة، وكانت المفاجأة أن مقدم الرعاية الذى تسبب فى سقوط والدتها أثناء الاستحمام ليست إلا طفلة فى مرحلة التعليم الإعدادى، ولم تبلغ السادسة عشرة من عمرها، قائلة: «بيعتمدوا على أطفال فى رعاية مسنين وست قعيدة مش قادرة على الحركة».

بعد أيام من تلك الواقعة، وقبل ثلاثة شهور من الآن، توفيت والدة «أَمَةَ الله» داخل الدار.

الريف أكثر تضرراً

فى دراسة ميدانية أجراها عدد من الباحثين فى قسم الأمراض العصبية بجامعتى أسيوط وسوهاج، فى مدينتى «القصير» بمحافظة البحر الأحمر، وواحة الخارجة، بمحافظة الوادى الجديد، والعاصمة، أعلن عنها ديسمبر 2013، أظهرت انتشار ألزهايمر أكثر تكراراً فى المناطق الريفية من سكان الحضر. مساحات واسعة من الزراعات والخضرة التى تمتد فى الأفق، وعلى مقربه منها تقع دار الرعاية المتكاملة لصحة المسنين بالخانكة فى محافظة القليوبية، الدار الوحيدة التى تستقبل فقط الحالات المصابة بمرضى ألزهايمر.. صبرى إبراهيم، مدير الدار، دأب على الشكوى من قلة الإمكانيات بالدار والإهمال من جانب وزارة التضامن: «غرفة الطوارئ ما فيهاش حاجة لا أجهزة ولا معدات ولا حاجة، شوية شاش وقطن ومطهر علشان لو حد اتجرح ولا اتعور، أنا أتمنى تبقى فيه غرفة مجهزة بس أجيب منين وكل الجهات مش بتعبرنى».

{long_qoute_3}

رغم أنها الدار الوحيدة التى تستقبل الحالات المريضة والمصابات بإعاقات مختلفة، ولكن حسب «صبرى» لا يوجد سوى ممرض أو ممرضة واحدة، لافتاً إلى أن وزارة التضامن أو وزارة الصحة لم توفر له ممرضة، لأن الممرضة تطلب مبلغ 100 جنيه فى الساعة، وأنها إذا عملت فى اليوم 3 ساعات ستحتاج إلى 300 جنيه، وهو ما لا تستطيع الدار توفيره، موضحاً أن وزارة التضامن تخصص له 150 ألف جنيه فقط كل عام، شاملة كل مصاريف الدار من رواتب لـ23 عاملاً، والمسنين من طعام وغذاء وفواتير مياه وكهرباء وغاز وكل ما يلزم الدار المكونة من مبنيين، أحدهما يعمل، والآخر به طابقان، فى كل طابق 4 غرف بواقع 8 غرف بسعة 32 نزيلاً مسناً ومسنة غير قادرين وبعضهم مصاب بألزهايمر.

ويشتكى صبرى من أن المخصصات المالية لم تزد قيمتها منذ عام 2011، رغم تحرير سعر الصرف وارتفاع الأسعار كافة، وأنه يعتمد على الحالات التى تدفع رسوماً، حيث بعض الحالات تدفع 400 أو 600 أو 1000 جنيه شهرياً، بينما توجد فئة تدفع 150 جنيهاً فقط، حسب قدرتها، وحالات أخرى مجانية بالكامل، وبكل غضب: «أقول للحكومة وكل الجهات، طالما مش عايزين توفروا لهم حياة كريمة وتكفلوهم اتخلصوا منهم زى الخيول وموتوهم برصاصة فى الرأس وتستريحوا منهم».

فى مارس 2018 أعلنت غادة والى، وزيرة التضامن الاجتماعى، عن تخصيص 12 مليوناً ونصف المليون جنيه لبرنامج تطوير دور المسنين، وفعّلت اللجنة العليا للمسنين برئاستها، وعضوية الوزارات والهيئات المختلفة المعنية برعاية كبار السن، منها وزارة الصحة، لتطوير برنامج الرعاية، ولكن يبدو أن شيئاً لم يتغير.

الجولة العشوائية

الجولة العشوائية التى قام بها معدا التحقيق أظهرت أنه لا توجد دار واحدة بها عدد كاف من مقدمى الرعاية، و3 فقط من أصل 12 داراً كانت البيئة المحيطة مناسبة للمرضى، بجانب أن داراً واحدة فقط هى التى تطبق شرط وجود إدارة الألم والرعاية الصحية، وهى الإدارة المسئولة عن ضرورة وجود رعاية صحية وكشف دورى مستمر لكشف الألم الذى يشعر به المريض ولا يستطيع التعبير عنها بسبب مرضه بألزهايمر، أما تدريب العاملين فكانت هناك 3 دور من أصل 12، هى التى تحرص على تدريب العاملين.

هناك 5 محافظات مصرية ليس بها دور لرعاية المسنين، وكشف تقرير للجهاز المركزى للمحاسبات قدمه للبرلمان المصرى فى 2016، عدم وجود مقابض ومساند فى دورات المياه وعدم وجود بانيو منخفض فى بعض الدور، وكذلك مستوى الأعتاب غير مناسب لحالة كبار السن، وتهالك بعض المبانى والمطابخ والحمامات، خاصة فى دار السعادة والضيافة بالغربية، إلى جانب سوء حالة بعض الحجرات فى دار الصفا بالقاهرة، ووجود رشح فى الحوائط بدار يوم المستشفيات بالقاهرة، ما أسفر عن انهيار جزء من سقف إحد الحجرات، وحاجة دار الربيع بالبحيرة إلى إصلاح دورات المياه.

بمواجهة أحمد عباس، مسئول ملف المسنين بوزارة التضامن، يقول إن الوزارة ليست لديها إحصاءات لمعرفة عدد مرضى «ألزهايمر» فى دور المسنين التى تعمل تحت إشرافها، ولم يتذكر إجراء مسح صحى من قبل الوزارة بهذا الشأن لإحصاء مرضى ألزهايمر فى دور رعاية المسنين، وإن آخر دراسة أجريت على دور المسنين كانت فى 2014 وأجراها مركز البحوث الجنائية والاجتماعية، ولم تهتم بمسح الحالة الصحية للنزلاء، واعترف «عباس» أن الوزارة لم يكن لديها معايير لجودة العمل داخل دور المسنين، وأنه يجرى حالياً العمل على الانتهاء من تلك المعايير لتطبيقها عام 2019، مضيفاً أن العام المقبل ستقوم الوزارة ببحث شامل لكل الدور لمعرفة حالة كل مسن، وتعرض ذلك المسح على ممثل وزارة الصحة فى اللجنة العليا للمسنين.

وبعرض ما رصدته «الوطن» عليه من صور الإهمال فى الدور، رد قائلاً: «اسألوا دكتورة سمية الألفى، (رئيس الإدارة المركزية للرعاية الاجتماعية بوزارة التضامن الاجتماعى)، وقال إنه لا يعرف كم داراً مخصصة لغير القادرين، وإنه ليس لديه معلومات دقيقة عنها.

{left_qoute_3}

إخراس المرضى

جلبة كبيرة، أصوات تتعالى، صراخ أحد المسنين لا يتوقف، دفعت «نادر سيد» للهرع نحو مصدر ذلك الصخب الشديد، ليجد أحد مرضى ألزهايمر يصرخ دون توقف، وأحد مقدمى الرعاية آخذ فى الاعتداء عليه بالضرب ليسكته، وقف «سيد» مشدوهاً أمام ذلك الموقف الذى لم يرحم فيه مقدم الرعاية المسن ومرضه، كان ذلك أول المواقف التى يتعرض لها «نادر السيد» المنقول حديثاً لدار المروة لرعاية غير القادرين بمنطقة مصر الجديدة بالقاهرة، مع مرور الوقت اعتاد «سيد» على ذلك ولم يعد الأمر مفاجأة له، مع كل مرة يصاب فيها مريض ألزهايمر بنوبات صرع وصراخ يكون رد فعل مقدم الرعاية هو الاعتداء بالضرب لإسكاته وسرقة غذائه حتى يلوذ بالصمت.

«سيد»، 41 عاماً، عمل 17 عاماً فى إحدى الجمعيات الأهلية التى أسست دارين لرعاية المسنين بمصر الجديدة، إحداهما مخصصة لمرضى ألزهايمر، والمسنين غير القادرين، كانت مهمة نادر لأشهر عدة، مشرفاً فى دار رعاية المسنين من مرضى ألزهايمر، ويروى لـ«الوطن» وقائع ما شاهده رؤى العين، من الإهمال والتعدى والظروف غير الآدمية التى كان يعيشها المسنون فى تلك الدار.

عمل «سيد» فى دار تضم بين جنباتها 52 مسناً، من مرضى ألزهايمر، وعجائز، وغير قادرين على الحركة، كان يقوم على تقديم الرعاية لهم خمسة مشرفين ومثلهم من العمالة، أى مشرف وعامل لكل عشرة مسنين تقريباً، ينتهى عملهم بشكل يومى فى الساعة الخامسة، ولا يبقى للفترة الليلية سوى عامل واحد، لكافة المقيمين فى الدار.

إصابة مرضى ألزهايمر وسقوطهم كان شيئاً معتاداً، فى ظل نقص العمالة وغياب الاهتمام والتدريب والرقابة: «تدريب إيه أنا عمرى ما شفت حد بيقول لعامل ولا مشرف يتعامل إزاى مع مريض ولا مسن»، يقولها سيد مؤكداً أنه نقل من نادى المسنين، حيث كان يعمل على تنظيم الرحلات وعضوية الأندية للمشتركين من المسنين إلى دار رعاية غير القادرين والمرضى دون أى توجيه أو تدريب.

مرة أخرى يقف «سيد» مشدوهاً وسط الدار من هول ما يرى، وهو يشاهد العاملة وهى تقوم برعاية مريض ألزهايمر الذكر، تخلع عنه سترته وتحميه عارياً، وبل وتغير له «الحفاضة»، دون احترام لحرمة هذا الرجل المسن، الذى أكل المرض قدرته على التمييز والمعرفة، فى بعض الأحيان كان المريض يسقط ويصاب بجروح خلال عملية الاستحمام، وفى بعض الأحيان كان يُترك حتى تفوح رائحة الغرف بالعفن، وأحيان أخرى كان المرضى يتلقون حمامهم بشكل جماعى أمام بعضهم البعض.

قرر «سيد» البوح وعدم الصمت أمام ما يحدث: «تخيلت نفسى مكانهم.. لما أكبر وأشيب شيبتهم وحد يهينى بالشكل ده»، صوّر مقاطع فيديو و«غرد» بها على موقع التواصل الاجتماعى، كان يظهر ما يحدث للمرضى من اعتداءات وإهمال وإهانة، تحرك الماء الراكد.

وفى فبراير الماضى، تفقدت فرقة من التدخل السريع بوزارة التضامن الدار، وعقد الفريق جلسات فردية وجماعية مع عدد من نزلاء الدار والعاملين، وتبين وجود قصور فى الرعاية والخدمات المقدمة بالدار ووجود عجز شديد فى الجهاز الوظيفى، وإساءة وضرب واعتداء على نزلاء فى الدار من قبل أحد العاملين، وبدورها قامت بتحرير محضر بتلك الوقائع فى قسم مصر الجديدة، وخسر «نادر» وظيفته، بعدما فصلته إدارة الدار لفضح الأوضاع المتردية داخلها.

زار معد التحقيق دار «المروة» مرة أخرى بعد تدخل وزارة التضامن، ضمن الجولة العشوائية، ولكن لم تظهر أى تغييرات، فالمسنون والمسنات يجلسون ويتزاحم على وجوههم الذباب، بينما تجلس إحدى المسنات الكفيفات لتناول الطعام وتقوم قطة باختطاف طعامها، وبمجرد خروجنا من الصالة الكبيرة فى مدخل الدار ووقوفنا لدقائق معدودة نناقش مع أحد المشرفين بالدار، ويدعى «وائل»، احتياجات الدار بعد أن أخبرناه أننا متبرعون، تنبعث روائح كريهة من المدخل الذى خرجنا منه مباشرة ليخبرنا «وائل» أن نبتعد عن مدخل الدار لأنه يجرى تغيير حفاضات لعدد من المسنين وكنا نرى نحو 5 يجلسون فى هذه الغرفة قبل أن نخرج منها ونشم هذه الرائحة.

ذاكرة الدولة

سقطت وقائع ما حدث فى دار المروة من ذاكرة رئيس إدارة الرعاية الاجتماعية بوزارة التضامن، سمية الألفى، التى سبق وطالبنا مسئول قطاع المسنين بنفس الوزارة بسؤالها عما تجهله فى القطاع المسئولة عنه، حينما واجهناها بعدم تغير أوضاع الدار حتى بعد التحقيقات التى أجرتها فرقة التدخل السريع، وعللت عدم تذكرها وقائع هذه الدار بأن لديها الكثير من الملفات.

«أنا متأسفة لازم أمشى»، إنهاء الحوار هو القرار الذى اتخذته سمية الألفى، معتذرة عن عدم استكمال المواجهة، بعد إطلاعها على الصور والفيديوهات التى رصدها معدا التحقيق لأوضاع دور المسنين فى مصر، وألقت بالمسئولية على مدير إحدى الدور بالإسكندرية، التى تدير الدار من 40 عاماً، والتى أظهرت الصور بها الكثير من الأوضاع غير الآدمية للمسنين، ونفت قبل إنهاء المواجهة عدم وجود رعاية صحية فى الدور، مشيرة إلى أن دور غير القادرين بها رعاية صحية مميزة، وبشكل منتظم، وأن هناك خطة لتطوير دور المسنين بداية من العام الجديد، وعن مشهد المسنين وهم يفترشون الأرض، ردت قائلة: «هو انت مش بتقعد على الأرض فى بيتكوا ولا إيه». الدكتور طارق عكاشة، رئيس الجمعية المصرية لمرض «ألزهايمر»، يقول «إن مرضى مصر يعانون من فقدان الرعاية الصحية، فى ظل عدم وجود دور رعاية مؤهلة»، مشيراً إلى أن مصر بها 7 ملايين مسن، سيصلون فى 2030 إلى ما بين 10 و14 مليون مسن، ومتوقع 900 ألف منهم يصابون بـ«خرف» و60% من مرضى الخرف يكونون مصابين بألزهايمر».

80% منها لا يصلح لرعاية مرضى ألزهايمر، هذا هو تقدير «عكاشة» لمدى ملاءمة دور المسنين فى مصر للتعامل مع مرضى الخرف، مشيراً إلى أن هناك دوراً قدرها بـ10 لا تحتاج إعادة تأهيل لتناسب المرضى بل لا بد من إغلاقها وتشميعها بالشمع الأحمر جراء ما بها من كوارث، ولا يحمّل «عكاشة» وزارة التضامن وحدها المسئولية، ولكن يشير إلى وجوب التنسيق بين وزارتى التضامن والصحة، وأن الأرقام معلنة ومعروفة وأعداد المرضى فى تزايد مستمر، ويجب أن يكون هناك مراكز رعاية متخصصة للألزهايمر.

ليس هناك مستشفى واحد يتبع وزارة الصحة يستهدف رعاية مريض الخرف أو ألزهايمر، حسب «عكاشة»، المعنى بحكم عمله فى الجمعية برعاية مرضى ألزهايمر فى مصر، ويضيف: «وبالتالى تكون دار المسنين هى الملاذ الأخير لأهل المريض للحصول على رعاية».

الإهمال فى رعاية مريض ألزهايمر يؤدى إلى تدهور الحالة، حسبما أورد «عكاشة» فى حديثه، سواء الإهمال فى العلاج الدوائى أو الإهمال فى التغذية وشرب السوائل المناسبة لحالته المرضية والمناسبة للأمراض الأخرى المصاحبة له، والإهمال فى حركة المريض والعلاجات الدوائية للأمراض الأخرى، كل هذا الإهمال الذى يتعرض له مريض ألزهايمر يعجل من انتقاله من مرحلة لأخرى.

مراكز علاج الإدمان

بوجه شاحب وجسد هزيل غير متزن يكاد يسقط بين حين وآخر، كانت تلك الحالة التى ظهرت عليها سامية كمال، سبعين عاماً، بعد قضاء 15 يوماً فى مصحة لعلاج الإدمان، رغم أنها مريضة ألزهايمر.

كل محاولات «أميرة فؤاد» نجلة سامية لرعاية والدتها فى المنزل باءت بالفشل، كانت الحالة تتدهور يوماً بعد الآخر، بدأت فى التناوب على خدمتها هى وأخوتها، وبعد فترة وجيزة من المعاناة وعدم تأقلمها وقلة خبرتها فى التعامل، ورغم محاولاتها الحثيثة طوال الوقت لمعرفة معلومات وقراءة دراسات مترجمة عن المرض ولكنها لم تطق صبراً، كان الحل المثالى فى ظل رغبتها فى عدم إيداع والدتها دار رعاية مسنين هو البحث عن جليس لديه خبرة يستطيع رعايتها، ولكنها مع الجليسة امتنعت عن الطعام تماماً، ولم تستطع مقدمة الرعاية المنزلية التعامل مع تلك الحالة.

طلب الطبيب المعالج من أميرة وأسرتها ضرورة نقل والدتها إلى مركز الرعاية الصحية الذى يمتلكه، والمستقر فى طريق الإسكندرية الصحراوى، وهى مصحة لعلاج المدمنين والحالات الخاصة، مكثت السيدة العجوز 15 يوماً، بعدها شعرت أميرة أنها لا بد من خروجها من تلك المصحة غير المؤهلة للتعامل معها.

خرجت «سامية» وزنها منخفض بشدة، وحالتها الصحية متدهورة، ووصلت للمرحلة الأخيرة «الثالثة» من المرض، وتقول أميرة إنها خلال زياراتها المتعددة لوالدتها لاحظت أن مقدمى الرعاية بالمصحة لا يعرفون حتى حالة والدتها: «الممرضة اللى المفروض تكون مرافقة ليها بتقولى هى الحاجة عندها إيه على طول ناسية كل حاجة»، وتستطرد: «لك أن تتخيل أن المرافقة تعمل مع سيدة لا تعى أنها مريضة ألزهايمر»، بل هذا لم يكن كل ما فى الأمر، حيث لاحظت أن الطبيب المتابع لها لا يدون ما يطرأ على حالتها الصحية باستمرار فى التقرير الخاص بها، وبالتالى لا توجد رعاية مثلى، بجانب أن ذلك الوقت كانت قد دخلت فى مرحلة رفض الطعام ولم يكن هناك مقدم رعاية معنى بالاهتمام بإطعامها: «كانوا بيحطوا لها ربع فرخة فى طبق، وكلت كلت، ما كلتش مش مهم بالنسبة لهم»، فى الوقت الذى كانت تطحن لها الطعام حينما كانت تراعيها فى المنزل: «المفروض تكون فى مكان فاهم إن عندها صعوبة فى البلع ورفض للطعام ويبدأ يتعامل معها من هذا المنطلق ولكن هذا لم يكن موجوداً»، ولكن كانت الكارثة الأكبر، التى اكتشفتها أميرة، حسب قولها، بعد خروج «سامية»، أن القائمين على تلك المصحة كانوا يعطون والدتها مهدئات ومنومات كى يتخلصوا من إزعاجها، ولتبقى نائمة أو مستكينة طوال الوقت، وهو ما زاد من وتيرة انتقالها من المرحلة الثانية للمرحلة الثالثة. خرجت والدة أميرة وحالتها الصحية ليست على ما يرام، كانت ضربات قلبها سريعة للغاية جراء تناولها المهدئات والمنومات، كانت دائماً تشعر بالدوار وكادت تسقط أكثر من مرة، ونقلت لمستشفى آخر لتكون تحت رعاية ربما أكثر رفقة ورحمة بسيدة مسنة وأكثر دراية بوعيها الصحى، ورغم ذلك كان تحسن حالتها بطيئاً جراء ما فعلته أيادى الإهمال. الرعاية الصحية فى المستشفى الجديد مميزة، ولكن العلاج فى هذا المستشفى الاستثمارى مكلف للغاية، حيث يصل ثمنه إلى 40 ألف جنيه شهرياً.

لم تكن حالة والدة أميرة فقط ضحية مصحات علاج الإدمان لرعاية مرضاهم، وبحث «معدا التحقيق» على واحدة منها لمعاينة وضعها على أرض الواقع. على محرك البحث «جوجل» بمجرد أن تكتب داراً لرعاية «ألزهايمر» يظهر العديد من الأرقام لدور رعاية مسبوقة بكم من الجمل التى تعبر عن مدى الرفاهية التى تنتظر المريض، ومدى تدريب وخبرة مقدمى الرعاية فى تلك الدور، واحدة منها تواصل معها معد التحقيق.

فى وسط مدينة دمنهور وفى أحد الشوارع الضيقة تظهر لافتة ممهورة: «مركز علاج الإدمان»، وأسفل محل صغير بداخله مكتب لموظفة استقبال، وفى الداخل بوابة حديدية، حيث خلفها تستقر مصحة علاج الإدمان التى يحاول صاحبها الاستفادة من بعض الغرف الفارغة تحت بند رعاية مرضى ألزهايمر، كان المكان فارغاً من كل مقومات الرعاية الخاصة بمرضى «الخرف»، الطبيب الذى يمتلكه يقول إنه يتقاضى 9 آلاف جنيه عن كل مريض شهرياً. لم يكن بالدار سوى مريض واحد فقط، وعدد 7 مدمنين فى طريق التعافى وأخصائية واحدة لرعايتهم كافة، سمح الطبيب بمعاينة الدار، تحت زعم البحث عن مكان لوالد أحد معدى التحقيق، الذى ادعى أنه مريض ألزهايمر، كانت دورة المياه عادية لم تؤسس بمواد تمنع الانزلاق، ولم يكن بالحائط مساند أو حواف ليستخدمها كبار السن، كانت الشرفات ذات أسوار قصيرة، وليست آمنة بالشكل الكافى، بجانب أن الغرفة التى كان يعيش فيها المريض الوحيد كانت بها نافذة مفتوحة دون أسلاك تمنع المريض من إلقاء نفسه منها، وسمح لمعد التحقيق بالدخول على مريض ألزهايمر دون تمهيد، رغم التحذيرات التى تطلقها الجمعية العالمية لرعاية مرضى الزهايمر بأن المريض لا يألف التعامل مع الغرباء ومن الممكن أن يصيبه ذلك بهياج عصبى.

طالبنا وزارة الصحة بالرد على ما أثاره التحقيق وكشفه عن تلك المراكز التى تقع تحت مراقبة إدارة العلاج الحر ولكن لم نتلق أى رد.

فى بقعة أخرى من تلك الأرض، كان لمرضى ألزهايمر مساحة أكبر من الاهتمام والرعاية، حيث أسست فرنسا قرية «المقيمون» فى مدينة «داكس» جنوب غرب العاصمة باريس، لتكون مكاناً آمناً لرعاية مرضى ألزهايمر يعيشون فيها وحدهم، وتسمح لهم بقضاء ما تبقى فى تلك الحياة، بعيش كريم، وتحفظ لهم ما تبقى من سنوات العمر، دون عوامل تعجل الرحيل، وبعيداً عن دور المسنين التى لا ترحم ضياع هويتهم، ومحو تاريخهم وحاضرهم.


مواضيع متعلقة