السادات.. 100 عام من الجدل

كتب: سماح عبدالعاطى

السادات.. 100 عام من الجدل

السادات.. 100 عام من الجدل

من ثقب صغير فى الحائط ينطلق شعاع الضوء ليسقط على الشاشة الفضية الكبيرة. يجلس الجمهور على كثرته أمام الشاشة دون أن تلفت الأحداث انتباهه، إذ لا ممثلون معروفون، ولا نقلة درامية تستحق، فقط.. مئات الوجوه التى اعتاد الناس أن يروها فى طول مصر وعرضها، وجه واحد يعافر بقوة لينتزع لنفسه مكاناً على الشاشة، يلقى بنفسه فى خضم الأحداث، فيقامر بكل ما يملك، ويغامر حتى بحياته، يحنى رأسه للعاصفة حين تهب شديدة قوية، ثم يعود ليفتح صدره للرياح حتى لتكاد تقتلعه من مكانه، ينجح فى الاستيلاء على انتباه الجميع بعد أن تركزت كل الأضواء عليه، الآن يستطيع أن يلعب بعواطفهم كما يحلو له، يبكيهم، ويضحكهم، ويحصل على احترامهم، كما يحصل على لعناتهم، ينقل العرض نقلة نوعية حين يشتبك لفظياً مع الجمهور، فيدخل فى معارك علنية فى واحدٍ من أكثر العروض الواقعية إثارة، وحين يحل «الماستر سين» يصبح عليه أن يودّع العرض، والدنيا كلها، غارقاً فى دمائه تحت سمع الجمهور وأنظارهم.

مثل فيلم سينمائى طويل، جرت وقائع حياة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، أضيئت أنوار الشاشة لتظهر مصر فى نهايات عام 1918، لحظة ميلاد طفل فى قرية ميت أبوالكوم بالمنوفية، لأب كان يعمل موظفاً فى البعثة الطبية المصرية فى السودان، وأم ذات أصول نوبية، نفس العام الذى شهد اغتيال آخر القياصرة الروس بعد الثورة البلشفية التى اندلعت فى روسيا عام 1917، لاحقاً ستلعب كلمتا «الاغتيال»، و«الثورة» دوراً مهماً فى الأحداث، إذ سيتقرر بهما مصير الطفل الذى أمضى سنواته الأولى فى قريته، حين يعود الأب مع بعثته من السودان فى أعقاب اغتيال السير لى ستاك، سردار الجيش المصرى عام 1924، عقاباً من إنجلترا لمصر، يقرر الأب نقل الأسرة كلها من المنوفية للقاهرة، وهناك يجتهد الابن فى التعليم، محاولاً أن يجد لنفسه مكاناً على الشاشة، يحصل عليه بالفعل بالتحاقه بالكلية الحربية ضمن عشرات غيره من أبناء صغار الموظفين، مستغلين فرصة منحتها لهم اتفاقية 1936، والتى عقدتها مصر المحتلة، مع بريطانيا صاحبة جيوش الاحتلال، سمح لها بمقتضاها بأن تزيد من عدد الجيش، يتخرج الطالب ضابطاً وينخرط فى صفوف الضباط، يحصل على فرصته فى الظهور كواحد منهم، وفى محاولة لسرقة الكاميرا يتصل بالألمان، فيتهم بالتجسس، ويتعرض للحبس والطرد من الجيش، يهرب ليعمل فى مهن غريبة كـ«عامل محاجر»، أو «سائق عربة نقل»، أو حتى «قهوجى فى مقهى»، يخطط لاغتيال مصطفى النحاس، رئيس حكومة الوفد، تفشل العملية، فى حين ينجح تدبيره لاغتيال أمين عثمان وزير مالية الوفد، يحال للمحكمة التى تمنحه حكم البراءة، فيخرج ليعمل صحفياً فى دار الهلال قبل أن يعود مرة أخرى للخدمة فى الجيش، فينضم لتنظيم «الضباط الأحرار»، الذى أنشأه زميله جمال عبدالناصر بهدف التخلص من الفساد المستشرى وقتها، ينجح «الأحرار» فى خلع الملك عن منصبه فى يوليو 1952، ويشكلون مجلساً لقيادة الثورة يحجز لنفسه مقعداً فيه، ضامناً مكاناً على الشاشة.. يتنقل بين مناصب سلطة الثورة، فيعمل سكرتيراً للمؤتمر الإسلامى، ورئيساً لتحرير جريدة الجمهورية، ووكيلاً لمجلس الأمة، ثم رئيساً له، قبل أن يختاره «عبدالناصر»، رئيس الجمهورية وقتها، نائباً له.

إذا صحت شائعات قتل عبدالناصر بالسم، يكون للاغتيال الفضل هذه المرة أيضاً فى تولى السادات حكم مصر أكتوبر 1970، يواجه مقارنة الجماهير له بـ«الزعيم»، واقعاً فى فخ هزيمة تركها له سلفه، باحتلال إسرائيلى لسيناء، يزيد من صعوبة الموقف مشاكل الجبهة الداخلية بكل تفاصيل نقص التموين، وانعدام الحريات، وتهالك شبكات الصرف الصحى، وأزمتى المواصلات والإسكان، وضغط الروس، واستهانة الإسرائيليين، وصلف الأمريكان، وقلة الموارد، وحصار مراكز القوى، وأخيراً المعركة المرتقبة فى أسرع وقت.

غير أنه ينجح فى مواجهة كل ذلك، يقضى على مراكز القوى، ويفتح الباب للحريات، ويحاول حل الأزمات المتلاحقة، ثم يتخذ قراره الجرىء بعبور الجيش المصرى إلى الضفة الأخرى من قناة السويس أكتوبر 1973، فى واحدة من أعظم وأنبل المعارك القتالية التى خاضها الجيش فى تاريخه الحديث، تتعلق أنظار الجماهير بذلك الذى يملأ الشاشة طولاً وعرضاً، منتشياً بانتصار سرعان ما يخفت بدخوله فى مفاوضات فك اشتباك، ثم تفاوض على سلام مع قوات العدو، تتخلله زيارة شهيرة لإسرائيل، ويتوّج فى النهاية باتفاقية سلام برعاية أمريكية، يتحول فيها أعداء الأمس إلى أصدقاء اليوم، وفى نفس الوقت يُخرج «الإخوان» من السجون، تاركاً لهم الفرصة للقضاء على «العيال اللى لابسين قميص عبدالناصر» فى الجامعات، ويسمح بتشكيل منابر سياسية تتحول فيما بعد لأحزاب بعد فترة طويلة من المنع، ويفتح البلاد على مصاريعها للأموال المتدفقة من كل الدنيا، معلناً سياسة اقتصادية منفتحة على العالم، واعداً الجماهير المترقبة بأنهار العسل المصفّى.

غير أن سياسة الصدمات الكهربائية التى اتبعها فى التعامل مع الجماهير لا تؤتى ثمارها، إذ يواجهونه على طريقة جماهير «الترسو» فى سينمات الدرجة الثالثة، حين يفاجئهم فيلم ردىء، فيحطمون السينما، وهم يهتفون «سينما أونطة.. هاتوا فلوسنا»، يثورون على قرارات إصلاح اقتصادى اتخذها، ويجبرونه على التراجع عنها، فيصفهم بالـ«الحرامية»، بدورهم يردون عليه بإطلاق النكات والأغانى الساخرة، تنشط صحافة المعارضة، وأحزاب الأقليات لتتحداه علناً، يتضخم مارد «الإخوان» الذى أخرجه من القمقم، للدرجة التى تنذر بعواقب وخيمة، يضيق ذرعاً بكل ذلك، ويقرر فى واحدة من لحظات الانفعال فتح المعتقلات لإلقاء كل منغّصى الحياة داخلها، ممنياً نفسه بالراحة من كل ذلك، ومتفرغاً للشاشة التى لم تعد تضم سواه.

وسط «أبنائه»، كما كان يسميهم، يجلس «كبير العائلة» ليحتفل بموكب انتصاره أكتوبر 1981، لعله لم يصدق أن تأتى النهاية على يد واحد من أبنائه، ربما يفسر ذلك آخر كلمتين نطق بهما وهو يصارع الموت بعد اغتياله رمياً بالرصاص «مش معقول».. هكذا سمعه المحيطون يردد فيما أنوار الشاشة تنطفئ تدريجياً مؤذنة بنهاية العرض المفجع.


مواضيع متعلقة