"عمار الشريعي".. 6 سنوات وبحر النغم يبكي غواصه

"عمار الشريعي".. 6 سنوات وبحر النغم يبكي غواصه
- أم كلثوم
- الآلات الموسيقية
- الإذاعة والتليفزيون
- الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما
- عمار الشريعي
- أم كلثوم
- الآلات الموسيقية
- الإذاعة والتليفزيون
- الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما
- عمار الشريعي
"ألحان مصرية خالصة تمس القلوب، يتصدرها صوت العود يحضن عذوبة الكمان وأحزان الناي، فتعترض بهجة الطبول مدعومة برقصات الأكورديون، فيأتي الأورج بهدوءه ليفك حالة معقدة من الاشتباك".. موسيقى قصّت أروع الحكايات، فيها اختلط الصبر باليأس، ولها اشتكى حبيب من هجر محبوبته، ومنها تجسدت أروع ملامح بطولات الوطن، وعنها تحدث بحر النغم الذي لا يزال يبكي غواصه.
"16 إبريل 1948"، يوم حَمَل للحاج على إبراهيم الشريعي، أحد أعيان سملوط بالمنيا، مفاجئة أولها البلاء وآخرها الأمل، وظاهرها طفل جاء للدنيا بعينين لا تبصرا النور، باطنها قلب طامح أضاء الدنيا كلها من حوله، فالأب رضا بقدره واحتضن طفله الذي أسماه "عمار" ليبدأ معه رحلة لم تدم طويلًا، فما لبث الابن أن أتم عامه السادس عشر، حتى عاود القدر مفاجأته، ليرحل الأب الذي كان منبع الأمان لابنه تاركا إياه للدنيا يعاندها وحيدًا.
مدرسة طه حسين الثانوية للمكفوفين، التي تلقى فيها عمار مراحل تعليمه الثلاثة، كانت علامة فارقة في حياته، عاش أيامًا طويلة بقسمها الداخلي، تعلم كل معاني الصبر والاعتماد على النفس، والأهم أنها بوابته لعالم اقتحمه وتسيده، بعد أن اكتشف عشقه للموسيقى ووجد فيها ضلته، وما لبث أن سمع بإعلان وزارة التربية والتعليم عن برنامج مكثف لتعليم المكفوفين الموسيقى حتى انكفأ على الآلات الموسيقية يكتشف خباياها عن ظهر قلب، وأشهر قليلة تكفي لترشيح الطالب "عمار" ليدرس علوم الموسيقى بالأكاديمية الملكية البريطانية، لتحل أولى بشاير النبوغ.
ليسانس الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة عين شمس لم ينح الشاب الكفيف عن مواصلة حلمه، وكان بإمكانه إيجاد عمل مريح ومربح في الوقت ذاته، إلا أنه آثر أن يصعد السلّم من أسفل درجاته، والبداية كانت عزف الأكورديون في بعض الفرق الموسيقية التي تجوب البلاد من أقصاها إلى أدناها، والإجهاد وكلمات الإحباط لم ينتصرا على طموحه، فقرر عقب نجاحه في الامتحان أن ينتقل إلى تحدي الأورج، وهي آلة قالوا إنها تحتاج إلى مبصر لعزفها، إلا أن الشاب الكفيف أثبت أنها تحتاج فقط لموهبة طاغية وذهنٍ حاضر، وصل تفوقه فيها لدرجة ترشيحه للعزف ضمن الفرقة المصاحبة لسيدة الغناء العربي أم كلثوم في أغنية "ليلة حب" عام 1972، وحالت سرقة أحد اللصوص للأورج الخاص به دون ذلك.
امتلأت نفس الشاب عمار الشريعي بمخزون من الأنغام دفعه ليقفز من مرحلة العزف لتحدي التلحين، فكانت "امسكوا الخشب" للمطربة مها صبري هي أول تحية يلقيها الملحن عمار الشريعي على آذان سامعيه في منتصف عام 1974، لتنهال عليه عروض مطربي جيله لتغلف ألحانه أصواتهم، وينبهر بها مخرجو المسلسلات الدرامية والأفلام السينيمائية التي كانت لألحان الشريعي أثرًا بينا في نجاحهم، وقد يندهش البعض حين يعرف أن أروع أغنيات مسلسل "الأيام" وضع عمار موسيقاها مستلقيًا على ظهره بعد إصابته بانزلاق غضروفي عقب عودته من سفر شاق إلى "لندن" في واقعة اعتبرها الموسيقار الكبير من أطرف ما جرى في حياته.
"وإحنا فايتين ع الحدود، مستمرين في الصعود، اختفى الليل الجميل من تحتنا، والمدن والنيل وأول عمرنا"، إلى من تمزقت قلوبهم شوقًا لمصر، لحن الشريعي تلك الأغنية، وربما يكون ذلك هو جوهر تكوينه لفريق "الأصدقاء"، مع المطربين علاء عبدالخالق ومنى عبدالغني وحنان، فكانت أروع الأغاني في حب مصر، حاول من خلالها مزج الأصالة بالمعاصرة وخلق غناء جماعي يتصدى لمشاكل المجتمع في تلك الفترة.
"عمار في كل مناسبة"، قد يكون ذلك هو الشعار الذي رفعه وهو يشارك الأطفال احتفالاتهم بأعياد الطفولة من خلال أغانيه مع عفاف راضي، أو وضعه لألحان "فوازير رمضان" لأعوام طويلة مع نيللي، أو تلحينه لعشرات الأوبريتات الغنائية التي تحيي ذكرى نصر أكتوبر، إلا أن مملكته التي لم يزاحمه فيها أحد كانت "تترات مسلسلات رمضان"، موسيقى "رأفت الهجان، العائلة، الشهد والدموع، أرابيسك، الزيني بركات، زيزينيا، امرأة من زمن الحب"، كانت على رأس قائمة طويلة من الأعمال التي التقى فيها برفقاء عمره، وهم الشعراء سيد حجاب وعبدالرحمن الأبنودي، والمطربين علي الحجار ومدحت صالح ومحمد الحلو، والمخرجين جمال عبدالحميد وإسماعيل عبدالحافظ ويحيى العلمي، ولم يحرم الشريعي جماهيره التي عشقت عذوبة صوته في فيلم "البريء" ليغني مرة أخرى بصوته في مسلسلات "عصفور النار، ريا وسكينة".
نبوغ الموسيقار عمار الشريعي، في صياغة الأنغام والألحان لم يكفيه، ليحدث تطوير شامل لآلة الأورج، بحيث تستوعب الموسيقى الشرقية بألوانها كافة بعد أن تواصل مع إحدى الشركات اليابانية الشهيرة التي نفذت فكره، وكأنه يرفض أن يغادر الدنيا قبل أن يترك لهذا العالم شيئًا مسجلًا باسمه، ووضع نفسه على سلم المشاهير، بعدما حاز على العديد من الجوائز الدولية، أبرزها جائزة مهرجان "فيفييه" من سويسرا عام 1989، ووسام التكريم من الطبقة الأولى من السلطان قابوس بن سعيد، سلطنة عمان عام 1992، ووسام التكريم من الطبقة الأولى من العاهل الأردني الملك عبدالله بن الحسين، وجائزة الدولة للتفوق في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة عام 2005، ووسام التكريم من الطبقة الأولى مرة ثانية من السلطان قابوس بن سعيد عام 2005، إضافة للعديد من جوائز الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما والمركز "الكاثوليكي" للسينما، ومهرجان الإذاعة والتليفزيون عن الموسيقى التصويرية من عام 1977 حتى عام 1990.
"الموت والاستشهاد عشانها ميلاد، وكلنا عشاق ترابها النبيل"، لم يدرٍ وهو يلحنها أنه سيقابل في نهاية عمره، محكًا يثبت صدق نواياه، فها هو الشريعي، مريض القلب، يهرول إلى الميدان تسبقه موسيقاه، يقف بين الشباب يخاطب عزائمهم ويمنيهم بنصرٍ قريب، حتى يسقط مغشيًا عليه ليبدأ رحلة طويلة ومؤلمة مع المرض تنتهي بإسدال الستار على حياته ظهر الجمعة 7 ديسمبر 2012، ولا تزال روحه تبحث عن تقدير من تلك التي غنى لها: "يا حلوة يا بلدنا يا نيل سلسبيل، في حبك إنتي رفعنا راسنا لفوق، لو الزمن ليّل ما يرهبنا ليل".