«اليمين المتطرف» يزحف لدفع العالم إلى «حرب كونية ثالثة».. وأحزاب «الوسط» تتهاوى

كتب: سيد جبيل

«اليمين المتطرف» يزحف لدفع العالم إلى «حرب كونية ثالثة».. وأحزاب «الوسط» تتهاوى

«اليمين المتطرف» يزحف لدفع العالم إلى «حرب كونية ثالثة».. وأحزاب «الوسط» تتهاوى

يبدو أن المزاج العام فى كثير من دول العالم هو انتخاب زعماء متطرفين، خصوصاً من أقصى اليمين، فالأحزاب القومية اليمينية والقوى الشعبوية تحقق انتصارات على حساب قوى الوسط المعتدلة التى حكمت العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.. ما أسباب صعود هذه الأحزاب؟ وماذا يعنى لنا فى المنطقة العربية وللعالم كله؟ وقبل كل ذلك ما معنى اليمين المتطرف وماذا يريد؟

هذه الأسئلة نحاول الإجابة عنها فى السطور التالية.

حكم العالم خلال السبعين عاماً الماضية أحزاب الوسط، أى وسط اليمين ووسط اليسار، وظل اليمين واليسار المتطرفان على هامش الحياة السياسية. أحزاب الوسط هى التى رسمت النظام الدولى الحالى القائم على العولمة واقتصاد السوق والتجارة الحرة، أو ما يعرف بـ«النظام الدولى الليبرالى». كان الهدف الأساسى من هذا النظام زيادة التعاون بين دول العالم الحر بشكل يحول دون اندلاع حرب عالمية جديدة. فى هذه الأجواء، وبدعم من الولايات المتحدة، نشأت فكرة الاتحاد الأوروبى الذى ضم نحو 30 دولة. قبلت هذه الدول التخلى عن بعض من سيادتها لصالح الاتحاد الذى يعمل كبلد واحد ضخم له عملة واحدة، ولمواطنى دوله حرية التنقل دون تأشيرة دخول. الاتحاد الأوروبى أبرز ثمار العولمة لكنه ليس الوحيد، فقد نشأت تكتلات اقتصادية أخرى حول العالم. وظلت العولمة هى الفكرة السائدة ومؤسساتها، منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولى والبنك الدولى وغيرها، تحكم العالم. ثم بدأت الأمور تتغير بداية من العام 2008.

{long_qoute_1}

فى ذلك العام اندلعت الأزمة المالية العالمية ومعها ظهرت كل عورات العولمة والنظام الاقتصادى الليبرالى، ومع اندلاع ثورات الربيع العربى تدفق ملايين اللاجئين على أوروبا وزادت الهجمات الإرهابية.. هذه المتغيرات الثلاث غذت رد فعل معاكساً للعولمة، فتراجعت شعبية أحزاب الوسط التى رعت العولمة واحتضنتها منذ 1944، وتعتقد أنها تؤدى إلى تقدم اقتصادى واجتماعى. فى المقابل صعدت الأحزاب المتطرفة، خصوصاً اليمين القومى المعادى للمهاجرين والرافض لذوبان دولهم فى تكتلات أكبر مثل الاتحاد الأوروبى.

ويؤكد حدثان خلال الشهر الماضى هذا الاتجاه، فقد فاز يائير بولسونارو، وهو من أبرز زعماء اليمين المتطرف، بالانتخابات الرئاسية فى البرازيل. وفى اليوم التالى، أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أنها ستستقيل قريباً كرئيس لحزب يمين الوسط وتتخلى عن السلطة كلياً فى عام 2021، بعد خسارة التحالف الذى تقوده لصالح حزبين أحدهما يسارى والثانى يمينى متطرف مُعادٍ للمهاجرين. ألمانيا والبرازيل ليسا وحدهما؛ فقد حققت أحزاب اليمين المتطرف نتائج كبيرة فى انتخابات جرت فى المجر وبولندا والنمسا وإيطاليا. وسبق كل هؤلاء نجاح اليمينى المتطرف دونالد ترامب فى دخول البيت الأبيض بعد فوزه فى انتخابات 2016.

وفقاً لدراسة أعدها «بريدج ووتر»، أكبر صندوق «تحوط» فى العالم، فإن نسبة التصويت فى العالم الغربى للمرشحين الشعبويين من اليمن واليسار المتطرف ارتفعت فى 2017 إلى 35% مقارنة بـ7% فى 2010.. هذه القفزة الكبيرة لم تحدث منذ العشرينات عندما ارتفعت شعبية هذه الأحزاب من نحو 4% بعد الكساد الكبير فى 1929 إلى 40% فى عام 1939.

فقد سبق الحرب العالمية الثانية ومهد الطريق لها انتشار واسع للعولمة وتفاوت ظالم فى الدخول ثم أزمة مالية عالمية وكساد كبير، ما أدى لصعود الأحزاب المتطرفة التى أشعلت فتيل الحرب. والآن بفعل الأزمة المالية فى 2008، التى لم يتعافَ منها العالم بعد، وعوامل أخرى، نشهد صعوداً جديداً لهذه التيارات ما قد يؤدى لحرب جديدة. وهذا ما أشار إليه الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون فى حوار له مع صحيفة Ouest-France فى الأول من الشهر الحالى حين قال: «أشعر بالذهول لمدى التشابه بين الوقت الذى نعيشه وزمن ما بين الحربين العالميتين»، محذراً من أن انتشار التيارات القومية المتطرفة «التى تشبه مرض الجذام المعدى»، على حد قوله، تهدد بتفكيك أوروبا وتهدد السلام فى العالم.

ومع صعود هذه الأحزاب، فإن كل المراقبين ومراكز الأبحاث وأجهزة الأمن القومى فى دول العالم مشغولة بفهم الأسباب وتوقع التبعات. تقول ألينا بولياكوفا، الخبيرة فى الحركات اليمينية المتطرفة والسياسة الأوروبية فى معهد بروكينجز البحثى فى واشنطن لموقع vox الأمريكى: «إن الوسط يضعف، واليسار واليمين يملآن الفراغ..الناخبون يبحثون عن أفكار واضحة.. وحتى لو كانت حلول الأحزاب المتطرفة غير مستساغة، فإنها تقدم على الأقل رؤية مستقبلية بينما لا تقدم أحزاب الوسط، مثل حزب أنجيلا ميركل، الكثير من الحلول لمشاكلهم». {left_qoute_1}

هناك إجماع مثلاً على أن فوز «بولسونارو» ليس إلا نتيجة لفشل الأحزاب الأخرى خصوصاً اليسارية المعتدلة من الوسط. وتوضح نيلسون، الخبيرة السابقة فى شئون البرازيل بوزارة الخارجية الأمريكية للموقع vox: «يُفسَّر انتخاب بولسونارو فى البرازيل على أنه رد فعل عنيف ضد «حزب العمال» اليسارى الذى كان فى السلطة لأكثر من عقد من الزمن. فانتخاب رئيس متشدد، مناهض للأقلية، وأحياناً كاره للنساء، هو فى الغالب نتيجة للغضب من اليسار، ورفضه».

ولماذا يرفض البرازيليون الأحزاب الأخرى المعتدلة خصوصاً من اليسار؟

الإجابة ببساطة أن ميشيل تامر، الرئيس الحالى، وهو من يمين الوسط، لا يحظى بشعبية بسبب أداء إدارته المتواضع اقتصادياً وفضائح فساد واسعة النطاق أحاطت بالوزراء فى حكومته. تولى «تامر» منصبه خلفاً لـ«ديلما روسيف» من حزب العمال، التى تم عزلها بسبب اتهامات لها بالفساد والإهمال، ويقضى سلفها الرئيس اليسارى والأكثر شعبية فى تاريخ البرازيل، «لولا دا سيلفا»، حكماً بالسجن لمدة 12 عاماً بتهمة فساد. وكما يرصد موقع vox فقد ارتفعت الجريمة وشهدت البلاد معدل 175 حالة قتل يومياً فى عام 2017، وهى زيادة بنسبة 3٪ عن العام السابق تحت قيادة حزب العمال.

الأحزاب القومية المتطرفة تظهر فى أوقات الأزمات. وهناك شبه إجماع على أن هذه الأحزاب ظهرت فى الغرب لسببين رئيسين أولهما الأزمة المالية 2008 والثانى موجات الهجرة التى تفاقمت بعد أحداث «الربيع العربى» فى 2011، حيث أثارت جحافل المهاجرين مخاوف الأوروبيين من ضياع هويتهم.

فى صحيفة «فايننشال تايمز» كتب فليب ستيفن: أن «الشعوبية هى النتيجة الحقيقية للأزمة المالية العالمية 2008»، موضحاً: «بعد عقد من الركود وبرامج التقشف، لا يمكن لأحد أن يُفاجأ بأن أكثر من تضرر من العواقب الاقتصادية للأزمة هم أصحاب الدخول المحدودة التى باتت تدعم الآن أحزاب شعبوية ضد النخب التى حكمت لسنوات طويلة.. وأصبحت قطاعات كبيرة من السكان ترفض اقتصاد السوق الحر والحدود المفتوحة للعولمة»، أضف إلى ذلك أن موجات الهجرة المتتالية تنعش عادة الأحزاب القومية حتى وإن لم تكن هناك أزمات اقتصادية.

{long_qoute_2}

فى ومجلة «فورين بوليسى» يركز «جيمس تراوب»، الباحث بمركز «التعاون الدولى»، على ما بعد الهجرة، إذ يؤكد أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لم تخسر فى الانتخابات الأخيرة بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية ولكن بسبب أزمة اللاجئين، التى بدأت حين أعلنت فى أواخر صيف عام 2015، نيتها فى استقبال مليون لاجئ، الأمر الذى رأى فيه كثير من الألمان خطراً على هويتهم. ويتابع: «بطبيعة الحال، ليس من قبيل الصدفة أن موجة القومية الشعوبية بدأت فى أعقاب الأزمة الاقتصادية عام 008، عندما فقد الملايين من الناخبين من الطبقة العاملة والطبقة المتوسطة مدخراتهم ووظائفهم وآمالهم فى مستقبل أفضل. لكن الموجة اجتاحت بلداناً عفية اقتصادياً. فقد كانت بولندا هى المحرك الاقتصادى لأوروبا الشرقية عندما هزم حزب «القانون والعدالة» اليمينى الحزب الليبرالى الحاكم هناك فى عام 2015. كان الليبراليون هناك يعتقدون أنهم فى مأمن من الهزيمة بسبب أدائهم الاقتصادى المتميز، لكن اتضح خطأ هذا الاعتقاد، فقد أراد الناس هناك التاريخ، أرادوا المجد، أرادوا معنى. ووجدوا هذا المعنى فى شعار الحزب اليمينى: «سنجعل بولندا عظيمة مرة أخرى»..

ويضيف «تراوب»: كل ما كان يريده البولنديون قبل كل شىء هو الهوية التقليدية التى كانوا يتمتعون بها، أو تخيلوا أنهم كانوا يملكونها، فى الأيام التى سبقت انضمامهم إلى أوروبا الغربية واقتصادها المفتوح.. وهولندا، مثل ألمانيا وبولندا، كانت تتمتع باقتصاد قوى تحت أحزاب الوسط من اليمن واليسار، لكن ارتفاع معدلات الهجرة، إلى مدنها أثارت مخاوف الهولنديين على هويتهم. وكانت النتيجة صعود حزب «من أجل الحرية» اليمينى المتطرف المعادى للأجانب، والأمر نفسه تكرر فى السويد والنمسا وإيطاليا غيرهم.

ماذا يعنى صعود هذه الأحزاب؟

الإجابة مرة ببساطة: تغيير النظام الدولى القائم منذ الحرب العالمية الثانية، لا عولمة ولا حرية تجارة ولا أسواق مفتوحة للبضائع أو المهاجرين. ويمكن أن نركز على حالة ألمانيا كمثال، فخسارة أنجيلا ميركل الانتخابات وخروجها من المشهد يعنيان صعود العناصر الأكثر تشدداً داخل الائتلاف الحاكم الذى كانت تقوده، وأيضاً زيادة فى نفوذ الحزب اليمينى المتطرف «البديل لألمانيا» الذى دخل مؤخراً البرلمان لأول مرة. هذا الحزب تأسس فى العام 2013 احتجاجاً على المساعدات الألمانية لليونان ويرفض العملة الموحدة للاتحاد الأوروبى ثم ركز سياساته بداية من 2015 على معاداة الهجرة. ويمكن أن يؤدى صعود هذه القوى المحافظة إلى تبنى سياسات من شأنها فى نهاية المطاف تفكيك الاتحاد الأوروبى بأكمله.

والولايات المتحدة مثال أوضح لأن العالم كله رأى على أرض الواقع توجهات الرئيس اليمينى الحالى دونالد ترامب الذى قال فى أحد مؤتمراته الشهر الماضى: «أنا قومى... الديمقراطيون الراديكاليون يريدون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. يريدون استعادة حكم الفاسدين ودعاة العولمة المتعطشين للسلطة».

«ترامب» وأنصاره يركزون على فكرة القومية «أمريكا أولاً»، ويفضلون العزلة عن الآخرين. ولذلك هو دائم الهجوم على العولمة وثمارها، فهو يهاجم منظمة التجارة العالمية ويصر على فرض حماية جمركية على منتجات الدول الأخرى خصوصاً الصين ويهاجم حلف شمال الأطلسى الذى يعتبره استثماراً فاشلاً لحماية بلدان لا تريد دفع تكاليف الدفاع عن نفسها، وللسبب نفسه هو غير متحمس للاتحاد الأوروبى ويشجع حليفته بريطانيا على الخروج منه، ويناصب المهاجرين -وهم مَن بنوا الولايات المتحدة- العداء ويعتبرهم عبئاً لا إضافة، وهذا سبب أزمته مع المكسيك، التى تعهد بأن تدفع ثمن السور العملاق الذى يعتزم بناءه على الحدود معها لمنع تسلل مواطنيها لأمريكا. وللسبب نفسه قد بالغ فى العداء للمسلمين، لأنه يعتقد أنهم يسعون لتغيير الهوية المسيحية لأمريكا «البيضاء».

{long_qoute_3}

ترامب يعتبر العولمة نظاماً اقتصادياً وسياسياً يعمل لصالح جماعات مصالح خفية (يسميها النخبة) متركزة فى وسائل الإعلام والبنوك وأجهزة الحكومة وضد مصالح الشعب الأمريكى. وكما كتب «ليام ستاك» فى «نيويورك تايمز»، فى نوفمبر 2016، فإن كلمة العولمة لدى أنصار ترامب تستحضر صوراً كثيرة سلبية: المصانع المغلقة، والهجرة غير المقيدة، ولوبى أو جماعة مصالح تسيطر على الاقتصاد ووسائل الإعلام بشكل خفى. وينقل «ستاك» عن مارك بيتكافاج، الباحث فى رابطة مكافحة التشهير Anti-Defamation League أن: «العولمة، هى نظام قائم على التكامل الاقتصادى العالمى وفتح الأسواق وحرية التجارة الذى تنتقده لعقود الجماعات الليبرالية مثل النقابات العمالية، والمنظمات البيئية ومعارضو صندوق النقد الدولى والبنك الدولى. ولكن بالنسبة لليمين المتطرف، فإن هذا المصطلح يعنى مؤامرة عالمية من جانب النخبة على الشعوب».

وترى «لورين ساوثرن»، وهى من أقطاب اليمين المتطرف فى الإعلام الكندى، فى مقطع فيديو نشرته عبر الإنترنت فى سبتمبر 2016، أن دعاة العولمة مثل الرئيس السابق بارك أوباما «غالباً ما يسخرون من التقاليد، ويحتقرون الثقافة الوطنية، ويزدرون الدين ويحتقرون الغرب بشكل عام ولديهم تعلق مثير للريبة بالعالم الثالث. إنهم يريدون حدوداً مفتوحة وأيدى عاملة رخيصة وبرامج معادية للقومية لأن هذا يعود بالفائدة على مصالحهم التجارية والسياسية».

أما أليكس جونز، وهو مقدم برامج إذاعية ينتمى لأقصى اليمين ولديه ملايين من المتابعين، فقد وصف العولمة فى حلقة له على «يوتيوب» فى 2014 بأنها «العبودية المطلقة»، واعتبرها «نظاماً عالمياً للتحكم الشامل فى البشر» صممه أصحاب الشركات الكبرى والنخب السياسية.

ويعتقد ستيف بانون، كبير استراتيجيى دونالد ترامب سابقاً، أن ذلك يحدث. ويؤكد لموقع «ناشونال إنترست»: «إن الثورة الشعوبية تحترق الآن مثل نار البرارى من أوروبا إلى أمريكا الشمالية إلى أمريكا الجنوبية.. التغيير الحقيقى يحدث -فى جميع أنحاء العالم- سواء إذا كان حزب «دافوس» يحب ذلك أم لا». فى إشارة منه إلى منتدى دافوس العالمى، أحد أهم المؤسسات المدافعة عن العولمة والنظام الاقتصادى الحالى.

ويخلص ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى، فى تصريح لموقع vox إلى أن «النظام الدولى لما بعد الحرب العالمية الثانية يتلاشى بالفعل، وهذه التطورات، فى إشارة لفوز بولسونارو وهزيمة ميركل، ستزيد فقط من الزخم المؤسف».


مواضيع متعلقة