أشلاء على جدران مديرية "الأمن".. وانهيار في معنوية مواطن "بيجمع جثة"

أشلاء على جدران مديرية "الأمن".. وانهيار في معنوية مواطن "بيجمع جثة"
لم يمتثل القادمون باتجاه مدينة المنصورة، في تلك الليلة الدامية، لمطلب اللافتة المعلقة على مدخل المدينة الحزينة "ابتسم أنت في المنصورة"، فمشهد الدماء على جدران المديرية، وما تبقى من غطاء جندي معلقة على أستار الحوائط المهشمة، وأصوات وقع الأقدام على زجاج الواجهات المتناثر على الأرصفة، لا تعطي مساحة للابتسام.
بالمرور من كوبري طلخا، يتحول المشهد ولو أنها مدينة غادرها المحاربون على التوّ، فما تبقى من جدارن، يفزع المتوافدين على الموقع الحادث بين الحين والآخر بأصوات التهدم، التي تثير مخاوف جديدة على الوجوه المتوجسة الخائفة، والغاضبة، بعدما نقولوا الأوصال والأشلاء المتقطعة من موقع الحادث الدامي، الذي وقع في الساعات الأولى من صباح اليوم، جراء تفجير سيارة مفخخة لم يتبق منها ومن قائدها إلا ما خلفاه من دمار.[FirstQuote]
"مديرية أمن الدقهلية" بلونها الأزرق وخطها الذهبي، مازالت اللافتة تحافظ على هيئتها لكنها لا تستطيع إخفاء التدمير الواقع خلفها داخل مكتب مدير الأمن، الراقد داخل مستشفى الرمد بين يدي الأطباء، وبجوارها يرقد، عامر، المجند الشاب باتجاه ما تبقى من غرف المديرية، ويحاول إخفاء إصابته التي غيرت ملامح وجهه "اللي الواحد شافه النهاردة مشفوش عمره كله، ربنا يسترها، كفايه إننا شلنا أجزاء من أجسام زمايلنا النهارة اللي ماتوا".
غطاء معلق بأحد الجدران المتهشمة، يشير إليه محمد مصطفى ببدلته السوداء الرثة، فالشاب ذو الملاح الجنوبية، قضى ليلة خدمته، بالجانب المقابل للتفجير، زميله في الجهة المقابلة، الذي جمع أجزاءه بعد الانفجار، هرع إلى موقع التفجير حين أفزعه الصوت، ليجد صديقه قد صعدت روحه لبارئها، وما تبقى منه أشلاء، فيما يظهر له زميل آخر، وقد أمسك بيده إحدى قدميه المبتورة.
المواطنون من أهل المنصورة والمدن المجاورة المتوافدون بكثافة على محيط الانفجار، محملة نفوسهم بالغضب، جراء الحادث الدامي، يرفضون التعامل مع الغرباء، يقفون في وجوه الصحفيين القادمين للقيام بواجبهم، يبحثون عن مراسلي قنوات الجزيرة، ويرددون الأدعية على قيادات "الإخوان"، الذي ساقوا الاتهامات لهم دون أدنى دليل.
وعلى مقربة من الحادث، وخلف مبنى المديرية المتهدم، يجلس أصحاب المحال التجارية التي تحطمت ودمرت أبواب رزقهم، فمنها الملاصق لموقع التفجير ومنها ما طاله الضرر كغيره، جراء تفجير أصواته صدعت جدارن منازل على الجانب الآخر من النهر، وكسر زجاج نوافذ بيوت تبتعد مئات الأمتار، وكل ما يحاولون الحفاظ عليه حماية المكان من الغرباء، فربما كانت هناك "قنبلة" أخرى.
بركة من المياه خلفتها عربات الإطفاء، يحيطها من كل جانب ما تبقى من الجدران المتهدمة، فالمسرح القومي، والبنك المجاور وعمارة سكنية، ومحطة وقود، ويجلس إلى جواره أناس كرهوا ما يحدث في البلاد، محملين الانقسام السياسي والإعلام مسؤوليته ما آلت إليه مدينتهم، ويجلسون بجوار آثار الدماء الظاهر على منازلهم ومحالهم "ربنا يعوض علينا، نعمل ايه، حرام الي بيحصل فيها وفي البلد، عشان ايه عشان الكرسي يكش يولع"، ويقولها ويرفض أن يكلم حديثه لـ"الوطن".
يتحرك "محمود عربي" حارس البنك التجاري المجاور، دون اكتراث، فلم يتبق من مبنى البنك ما يستحق حمايته "البنك مبقاش في حته سليمة، فلوس الناس راحت"، ويشير الرجل الثلاثيني القابع دائما على ناصية الشارع المجاور، إلى أن الشوارع المجاورة للمديرية وبخاصة موقع تفجير السيارة المفخخة، لا يسمح بالعبور منها، حتى للمارة، فرغم أنها مسلك لأحد التجمعات التجارية بالمنطقة، "شارع العباسي"، لكن لا يسمح للمارة أو السيارات بالعبور من خلالها، ليؤكد ما تناثر من تكهنات عن تفجير قنبلة كانت بداخل المبنى، وهو ما دحضه بيان وزارة الداخلية عن الحادث.
"العربي" ظن في بداية التفجير أن هناك تبادلا لإطلاق النيران بين قوات الأمن وآخرين، ولكن سقوط السقف المعلق للبنك عليه، وتطاير الزجاج في وجهه ما سبب له في أصابات في رأسه، غير ظنه، لكن لم يكن حينها مشغولا بما يحدث بقدر هلع من كم الإصابات التي لحقته بوجهه جراء الانفجار فسارع إلى سيارة الإسعاف.
"أصعب صوت وأصعب مشهد شوفته"، بتلك الكلمات عبر فؤاد من شارع الجمهورية بمدينة طلخة، المجاوره للمنصورة، عن مشهد الحادث، الذي تواجد فيه من قبيل المصادفة، حيث كان يشتري "سندوتشات: من أحد المطعام حتى سمع الصوت المفزع، وشاهد ضبابا أسود منبعثا من المديرية، فسارع ليجد "عساكر كانوا مدعوكين ومفروم جسمهم جوه المدرعة، اللي راسه طايرة واللي رجله طايرة، ومحدش عارف لا يقرب ناحيتهم ولا حد عارف يخرج جثثهم"، واستمر "فؤاد" في المساعد في نقل الأشلاء، مؤكدا أن مخيلته لن تنسى مشهد الجندي الذي حمله إلى الإسعاف وجسمه مفصولا عن رأسه.[SecondQuote]
"تأمين إيه بقى، بقالهم شهور بيأمنوا وفي الآخر حصل اللي حصل"، ويكمل "محدش أصلا مسموح له يعدي من الحتة اللي انفجرت فيها العربية إزاي بقى دخلت"، يقولها لاهثا، فهو يتعجل للتبرع بالبدم، بعدما سمع صوت المذيع في نشرة الأخبار يدعو أهل المنصورة للتوجه لعربات بنك الدم للتبرع لحاجة المستشفى لها، لكن يعود "على"، الشاب العشريني ليشير إلى أن نفس المذيع استضاف وزيرة الصحة، التي أكدت عدم حاجة المستشفى للتبرع.. ويشيرا إلى أن حكومة التي لا تستطيع تحديد حاجتها للدماء لعلاج مصابين لن تستطيع حماية أمن وسلامة مواطنيها.
منذ ستة أشهر، وفي شهر رمضان، صدم الأهالي بقنبلة كانت بجوار المديرية، لكن لم تنجم عن ضحايا، "فشلوا من ستة شهور فعادوها تاني فنجحوا"، هو التعبير الذي ساقه المذارع الواقف بجوار زوجته، أمام المديرية، فأفزعهما الانفجار أثناء تناول العشاء، فخرجا من قريتهم بـ"نبروه" ليعرفوا ما حدث، ويساعدوا في حمل الأشياء، وتقول زوجته ذات الخمار الأسود "كفرة حسبي الله ونعم الوكيل أخوتنا دول اللي بيموتوا وهما بيقدوا خدمته في الجيش عشان يحمونا"، وفيما كان آخر اهتزاز منزله الذي لا يبعد عن المديرية كثيرا، وقناعته أن ما حدث زلزال، سبب للنزوح للشارع، والخوف من وجود قنبلة أخرى لن تمكنه من العودة لبيته، يقف مشتبكا مع الحاضرين المختلفين عن موعد الانفجار بين الساعة 12 والساعة 1 إلا الربع.