ترامب على خطى المتلاعبين بالدين

لا يمل السياسيون من التلاعب بالعواطف الدينية للبسطاء لحصد أصواتهم فى الانتخابات، أو لتأمين الدعم الشعبى فى المفاصل الصعبة والمنازلات الشرسة، وهو أمر لا يمثل أى مفاجأة لنا حين يقع فى الدول الأقل نمواً، ويستهدف جمهوراً يعانى ضعف التعليم وتراجع الوعى، خصوصاً ضمن النظم الهشة أو حديثة العهد بالديمقراطية.

لكن الإشكال الكبير يظهر الآن حيث يتم استغلال «ورقة الدين» فى مجتمعات مزدهرة، وديمقراطيات مستقرة، وهو إشكال يفتح الباب أمام تحول خطير، ستكون له تداعيات كارثية.

حين أتى الإسكندر الأكبر إلى مصر لم يتمكن من توطيد حكمه وكسب ولاء المصريين إلا عندما أظهر الاحترام الكبير لدينهم، وذبح القرابين لآلهتهم، بل فعل أكثر من ذلك حين ذهب إلى معبد آمون فى سيوة، وأعلن نفسه ابناً لآمون، وعندها حصد ولاء المصريين وعطفهم، كما تمتع بإخلاص الكهنة ودعمهم.

الشىء نفسه فعله نابليون بونابرت حين غزا مصر فى عام 1798، فقد أصدر بياناً قال فيه إن «الفرنسيين أنصار النبى»، وطالب المصريين بأن يصدقوا أن رجال حملته «مسلمون»، كما وضع عمامة على رأسه، وأفهم الأعيان المصريين أنه اعتنق الإسلام، وهكذا فعل أيضاً الجنرال «جاك مينو»، الذى خلف الجنرال «كليبر» فى قيادة الحملة الفرنسية، وأعلن إسلامه، وأطلق على نفسه اسم «عبدالله مينو».

لا يختلف هذا عما فعلته الدعاية النازية، فى مطلع الأربعينيات من القرن الماضى، حين أفهمت المصريين أن هتلر أعلن إسلامه، وصار اسمه «محمد هتلر»، وهو الأمر الذى أجج المعارضة الوطنية للمحتلين البريطانيين، الذين كانوا يخوضون معركة مصيرية مع الألمان على أطراف الحدود الغربية للبلاد.

وبالطبع، فإن أسرة محمد على استغلت العواطف الدينية للمصريين استغلالاً واضحاً، حتى إن الملك فؤاد الأول سعى جاهداً لكى يعلن نفسه «خليفة للمسلمين»، رغم أنه لم يكن يجيد التحدث باللغة العربية.

أما الرئيس السادات فقد لَقّب نفسه بـ«الرئيس المؤمن»، وأسبغ على عصره الكثير من مظاهر التدين الشكلى، وأتاح الفرص للجماعات الدينية للعب أدوار سياسية واسعة، بعدما تم إقصاؤها عن المشهد فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى بقسوة.

لقد فعل السادات ذلك من أجل أن يمرر تعديلات دستورية تُمكّنه من الحكم من دون حد أقصى لعدد ولاياته الرئاسية، وهو أمر أراد أن يمرره مغلفاً بغطاء يستميل عواطف المصريين البسطاء الدينية، ويؤمِّن له دعم التيارات الإسلاموية.

ولذلك، فقد جرى التعديل الدستورى فى العام 1980، حيث تم تغيير المادة الثانية من دستور 1971، التى كانت تنص على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع»، لتصبح «مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع»، بمرافقة تغيير المادة (77)، التى كانت تنص على أن «مدة رئيس الجمهورية هى ست سنوات تبدأ من تاريخ إعلان نتيجة الاستفتاء، ويجوز إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمدة تالية ومتصلة»، أى إن هذه المادة كانت تضع حداً أقصى لرئاسة الجمهورية وهو مدتان، لكنها بعد التغيير أطلقت مدد تولى منصب رئيس الجمهورية، حيث نص التعديل على أنه يجوز إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمدد أخرى، ودون وضع حد أقصى لها.

ليس هناك ما هو أكثر توضيحاً لتلاعب القادة السياسيين بورقة الدين لتوطيد سلطانهم مما قاله نابليون بونابرت حين وقف أمام مجلس الدولة فى بلاده، محاولاً أن يشرح وسائله الحربية والسياسية، التى مكنته من حصد انتصارات أوشكت أن تُمكّنه من السيطرة على مساحات واسعة من القارة الأوروبية. لقد قال نابليون: «لم أستطع إنهاء حرب الفاندى، تلك المنطقة الجنوبية الغارقة فى العصبية الكاثوليكية، إلا بعد أن تظاهرت بأننى كاثوليكى حقيقى. ولم أستطع الاستقرار فى مصر إلا بعد أن تظاهرت بأننى مسلم تقى. وعندما تظاهرت بأننى بابوى متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة فى إيطاليا. ولو أنه أتيح لى أن أحكم شعباً من اليهود لأعدت من جديد بناء هيكل سليمان».

فى أبريل من العام الماضى، أراد الرئيس التركى أردوغان أن يجرى تعديلات دستورية تحول بلاده من نمط الحكم البرلمانى إلى نمط حكم رئاسى، بما يُمكّنه من مواصلة تحكمه فى مفاصل السلطة، كحاكم مطلق، لأكبر فترة ممكنة.

أوعز أردوغان إلى منابر الإعلام الموالية له لتتحدث عما سمته «التدخل الصليبى الجديد»، حيث أُطلق هذا الوصف على التصريحات الأوروبية المعادية للرئيس والداعية إلى التصويت على الاستفتاء بـ«لا».

لذلك، فقد تحدث بعض المعلقين والمحللين عن خطورة تحويل الاستحقاق إلى «استفتاء على دور الإسلام وقيمته» فى مقابل «هيمنة المسيحية ونفوذها»، وهو أمر بدا أن حزب العدالة والتنمية الحاكم عمل بجد على طرحه واستخدامه.

بل إن بعض المرافق الدينية الرسمية فى الدولة تدخلت فعلاً فى مسار المعركة السياسية، مثلما فعلت هيئة الشئون الدينية التى حضت على التصويت بـ«نعم»، بل وصفت الدعاية المؤيدة للرئيس بأنها تقع ضمن «الممارسات الإسلامية».

لم يتوقف أردوغان عن استغلال عواطف المتدينين الأتراك يوماً، وحين زار جاكرتا، فى إطار جولة آسيوية، فى العام 2015، صرح قائلاً: «إن شاغلنا الأول هو الإسلام».

وحين أتى «الإخوان» إلى حكم مصر، كانوا مستندين على شعارهم التاريخى «الإسلام هو الحل»، وهو شعار استطاع أن يخدع الكثيرين من بسطاء الوطن، قبل أن يكتشفوا الحقائق المرة.

لكن الخطر الذى يطل برأسه الآن، مهدداً العالم بوقوع تداعيات كارثية، يكمن فى قيام بعض القادة الذين ينتمون إلى دول العالم المتقدمة بممارسة اللعبة ذاتها.

فبعد غد، يتوجه الناخبون الأمريكيون إلى مراكز الاقتراع للمشاركة فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس، وهى انتخابات ذات أهمية بالغة، لأنها تمثل استفتاء على جدارة الرئيس ترامب من جانب، وترسم ملامح الانتخابات الرئاسية المهمة المنتظرة فى 2020 من جانب آخر.

استبق ترامب ذهاب الناخبين إلى الصناديق بتصريح أدلى به الخميس الفائت لإحدى المحطات الفضائية الدينية، إذ قال: «أتوقع دعم المسيحيين الإنجيليين، فأنا محافظ وجمهورى، وأنا أكثر من خدم المسيحية والمسيحيين».

يبدو أن استخدام العواطف الدينية فى الانتخابات انتقل من العصور الوسطى والدول النامية المتخلفة عن ركب الحداثة إلى دول العالم «الحر».. وهذا بلاء عظيم.