الأمن القومى المصرى بين دستورين.. «2012» و«2014»
لم يكن وقف العمل بدستور 2012 وتشكيل لجنة الخمسين لإجراء تعديل شامل عليه، مجرد تعبير عن نهاية حقبة الإخوان، بكل ما ارتبط بها من أطر، وإنما جاء نتيجة إدراك لما تضمنه هذا الدستور من ثغرات صيغت على نحو متعمد لتمنح الإخوان من حرية الحركة ما يسمح لهم بالقفز على كل المقدسات الوطنية، تحقيقاً لمصالح التنظيم الذاتية، وعلى حساب الأرض والسيادة والأمن والعلم، رمز الدولة المصرية، حتى الكرامة الوطنية والعرض تنازلوا عنهما طواعية عندما تعاونوا مع أجهزة مخابرات أجنبية ضد شعب مصر وجيشه الوطنى.. تلك حقائق لا تندرج ضمن أدبيات ثورة شعب نجحت فى 30 يونيو 2013، وسعت لفرض أطرها الوطنية الخاصة، كبديل لأطر الجماعة التى سقط حكمها، ولكنها تنطلق من مقارنات موضوعية للبنود المتعلقة بالأمن القومى المصرى فى كل من دستور 2012 المعطل، والدستور المطروح للاستفتاء منتصف يناير 2014، وكذا على ضوء تجارب وطنية مريرة عاشتها مصر.. تحت حكم الإخوان.
■ ■
المادة الأولى من دستور 2012 نصت على «جمهورية مصـر العربية دولة ذات سيـادة، وهى موحـدة لا تقبل التجزئة..»، «موحدة» هنا تعنى مجتمعة، ولا تقبل التجزئة معناها غير قابلة للتقسيم، لكن ذلك لا يشمل عدم القابلية للتنازل، فإذا أضفنا إلى ذلك ما ورد بالمادة 145 من نفس الدستور «.. وتجب موافقة المجلسين بأغلبية ثلثى أعضائهما على معاهدات الصلح والتحالف وجميع المعاهدات التى تتعلق بحقوق السيادة». فإن ذلك يعنى بوضوح أن تمتع الجماعة الحاكمة، التى ينتمى إليها رئيس الجمهورية، بأغلبية الثلثين فى البرلمان يعنى قدرته على التنازل عن أى إقليم بالدولة.. ذلك هو مخطط الإخوان، وتلك كانت سياستهم:
■ وافق الإخوان على التنازل عن مساحة للفلسطينيين تصل إلى 1000 كيلومتر مربع بالمنطقة جنوب مدينة رفح فى قطاع غزة على طول الحدود بحوالى 30 كيلومتراً، وعلى الساحل من الحدود المصرية - الإسرائيلية الحالية تجاه مدينة العريش وتمتد إلى داخل سيناء. لقاءات محمد مرسى مسئول الاتصالات الخارجية للجماعة قبل سقوط «مبارك»، وأحمد عبدالعاطى ضابط اتصال الجماعة مع المخابرات المركزية الأمريكية فى بروكسل، التى استكملها عصام الحداد وعصام العريان فى واشنطن بعد نجاح الثورة، والتى شارك فيها ممثلون للمخابرات الإسرائيلية، انتهت بالموافقة على التنازل.
■ وعد «مرسى» فى 4 أبريل 2013 بـ«تسليم السيادة الإدارية على حلايب وشلاتين للسودان»، وتزامن ذلك مع تعديل حزب الحرية والعدالة خريطة جمهورية مصر العربية، بحيث أخرج المنطقة من داخل حدود الدولة المصرية المقررة طبقاً لاتفاقية 1899، وفقاً لخط العرض 22 شمال خط الاستواء وضمها إلى السودان.
■ طرح مشروع إقليم قناة السويس الذى يحقق الاستقلال للمنطقة، ويحولها إلى ملكية خاصة لأعضاء الهيئة العامة لتنمية الإقليم وجميعهم من الإخوان، ويتمتع فيه رئيس الجمهورية بسلطات مطلقة بعيداً عن الرقابة، محاكاة لنموذج الشركة العالمية لقناة السويس للملاحة البحرية قبل تأميمها عام 1956، من حيث استقلاليتها وامتيازاتها وحصانتها ونفوذها وتحكّمها فى الدولة المصرية.
■ تسهيل الإخوان دخول الجهاديين المصريين بالخارج والعناصر المتطرفة من مختلف الجنسيات للتمركز بسيناء التى تحولت تدريجياً إلى مركز تجمّع لقرابة «30» من التنظيمات التكفيرية والإرهابية الدولية، وذلك إلى حد تصدرها الأماكن المفضلة للميليشيات المسلحة على مستوى العالم، متقدمة على إقليم «وزيرستان»، وتفاقمت تلك المشكلة بإفراج «مرسى» عن العشرات من الإرهابيين، ومهربى السلاح والمخدرات الذين اتجهوا أيضا إلى التمركز بسيناء.
لجنة الخمسين وهى بصدد إعداد دستور 2014، حرصت على سد الثغرات التى تسمح بالتنازل عن أراضى الوطن، فأضافت عبارة «.. موحدة لا تقبل التجزئة، ولا يُنزل عن شىء منها»، كما نصت فى المادة 126 على أنه «بالنسبة لمعاهدات الصلح والتحالف وجميع المعاهدات التى تتعلق بحقوق السيادة، يجب دعوة الناخبين للاستفتاء عليها، ولا يتم التصديق عليها إلا بعد موافقة أغلبية عدد الأصوات الصحيحة للمشاركين فى الاستفتاء»، وذلك بدلاً من موافقة ثلثى البرلمان.. السيادة للشعب لا لممثلى جماعة خائنة.
■ ■
المادة 134 من دستور 2012 اشترطت فيمن يترشح رئيساً للجمهورية أن يكون «مصرياً من أبوين مصريين، وألا يكون قد حمل جنسية دولة أخرى» غير أن قيام «مرسى» بتجنيس أكثر من 50 ألف فلسطينى بالجنسية المصرية، يمكن أن يهدد مستقبلاً بتولى الرئاسة ابن مصرى بالتجنس يكون ولاؤه مزدوجاً أو يعطى أولوية لوطن آخر غير مصر، الأمر الذى فرض فى دستور 2014 النص على أنه «يشترط فيمن يترشح رئيساً للجمهورية أن يكون مصرياً من أبوين مصريين، وألا يكون قد حمل أو أىٌّ من والديه جنسية دولة أخرى»، كما أعطى للمشرّع حق الإضافة للتعامل مع أى مخاطر أخرى تنشأ، ويرى أن يحصن المنصب فى مواجهتها، وذلك بإضافة عبارة «ويحدد القانون شروط الترشح الأخرى».
■ ■
المادة 146 من دستور 2012 كانت تسمح لرئيس الجمهورية بإعلان الحرب، وإرسال القوات المسلحة إلى خارج الدولة، بعد أخذ رأى مجلس الدفاع الوطنى، وموافقة مجلس النواب بأغلبية عدد الأعضاء، عدّلها دستور 2014 لتكون الموافقة بثلثى عدد أعضاء مجلس الشعب، ضماناً لعدم الاندفاع فى مغامرات تؤيدها الأغلبية البسيطة.
■ ■
أعطت المادة 149 من دستور 2012 الحق لرئيس الجمهورية فى «العفو عن العقوبة أو تخفيفها».. إطلاق هذا الحق للرئيس أدى إلى قيام «مرسى» بالعفو عن إرهابيين محكومين بالإعدام فى جرائم قتل واغتيالات، وكذا تجار مخدرات ومهربين، انتقلوا إلى سيناء ليردوا الجميل بعمليات إرهاب فى مواجهة عناصر ومنشآت الجيش والشرطة، ومؤسسات الدولة السيادية، وقد تم ضبط هذا الحق فى دستور 2014 بتعديل النص ليكون «لرئيس الجمهورية، بعد موافقة مجلس الوزراء، العفو عن العقوبة أو تخفيفها».. إشراك مجلس الوزراء، وبالتالى وزارة الداخلية والجهات الأمنية التابعة لها فى المسئولية، يعطيها حق الرفض عندما يتعارض هذا العفو مع أمن الدولة ومصالحها.
■ ■
المادة 195 من دستور 2012 نصت على أن «وزير الدفاع هو القائد العام للقوات المسلحة، ويُعين من بين ضباطها».. وزير الدفاع -كممثل للمجلس الأعلى للقوات المسلحة- هو الذى تصدى لكل خطط الإخوان التى هدّدت أمن مصر القومى، من تنازل عن التراب الوطنى فى سيناء وحلايب وشلاتين وإقليم القناة، إلى فتح الباب على مصراعيه لتجميع منظمات وعناصر الإرهاب الدولى بسيناء، مروراً على تمكين ميليشيات الجماعات المتأسلمة من السيطرة على الشارع وقمع المعارضة المدنية، بخلاف التصدى لموافقة الرئاسة على العرض الأمريكى الذى يسمح بدخول شركات الأمن الأمريكية -وفى مقدمتها شركة بلاك ووتر- للأراضى المصرية، بحجة حماية المؤسسات والمرافق الحيوية، وأخيراً تأييد وحماية ثورة الشعب فى 30 يونيو.. نجاح أىٍّ من محاولات الإخوان المتكررة لعزل وزير الدفاع -أسوة بما تم مع «طنطاوى»- كان يعنى تمكنهم من تمرير مخططاتهم، لذلك من الطبيعى أن يتم كفالة نوع من التأمين لمنصب وزير الدفاع لفترة انتقالية حتى زوال المخاطر نهائياً، وهو ما يفسر النص فى المادة 171 من دستور 2014 على أن وزير الدفاع يُعيّن من بين ضباط القوات المسلحة «بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة».
■ ■
المادة 197 من دستور 2012 تضمّنت اختصاصات مجلس الدفاع الوطنى فى مناقشة موازنة القوات المسلحة، لكن «مرسى» سبق أن اصطحب المهندس أسعد شيخة، نائب رئيس ديوان الرئاسة، ليشارك فى اجتماعات مجلس الدفاع الوطنى والحكومة وسط دهشة الأعضاء، إذ إن «شيخة» هو مسئول الاتصال بين الرئاسة ومكتب الإرشاد والتنظيم الدولى للإخوان ومنظمة «القاعدة»، كما أن موازنة الدولة كانت تعرض على مجلسى الشعب والشورى بكل أعضائهما من الإخوان والجماعات الإسلامية ذوى الارتباطات بأجهزة مخابرات وتنظيمات دولية.. أدق أسرار الدولة وقواعد بياناتها اخترقها الإخوان وسرّبوها للتنظيم الدولى ولجماعات الإرهاب، وكان ذلك وراء اغتيال ضباط الأمن الوطنى، واختطاف واستشهاد عشرات الجنود المصريين، لذلك كان من الطبيعى أن تنص المادة 173 من دستور 2014 على أن موازنة القوات المسلحة «.. تُدرج رقماً واحداً فى موازنة الدولة»، حماية لأسرار الجيش.
■ ■
تنص المادة 221 من دستور 2012 على أن «يحدد القانون عَلَم الدولة، وشعارها، وأوسمتها، وشاراتها، وخاتمها، ونشيدها الوطنى».. على مدى حكم الإخوان كانت بعض الجماعات ترفع أعلام «القاعدة»، وأخرى أعلام السعودية، وثالثة ترفع أعلاماً عليها شعارات دينية وسياسية، وفى أعقاب 30 يونيو رفع الإخوان أعلام ما يسمى «رابعة»، بل إن بعضهم أحرق العلم المصرى لأول مرة فى تاريخ الحياة السياسية المصرية، لذلك لم تكن مفاجأة ألا تحيل لجنة الخمسين أمر العلم الوطنى إلى القانون، بل حرصت على أن تنص فى متن المادة 186 من دستور 2014 على أن «العلم الوطنى لجمهورية مصر العربية مكون من ثلاثة ألوان: هى الأسود والأبيض والأحمر، وبه نسر مأخوذ عن (نسر صلاح الدين) باللون الأصفر الذهبى».
■ ■
كل حرف، بل كل كلمة من دستور 2014 تعكس تخوّفاً من تجربة مريرة هددت الأمن القومى للوطن، وأمن المواطن، تحت حكم الإخوان، وتشكل تحسّباً لمنع تكرارها.. احتياطات ربما يراها بعض الفقهاء تزيّداً فى الحيطة، لكن من يدرك حجم المخاطر، هو الأقدر على أن يتفهم أهمية التحوطات.