زراعة اليأس والإحباط
- أحمد مظهر
- أكثر تميزا
- أم كلثوم
- التواصل الاجتماعى
- الشخصيات العامة
- النوايا الحسنة
- حمد عبدالوهاب
- خصوصيات الناس
- سقوط الشعر
- سى فى
- أحمد مظهر
- أكثر تميزا
- أم كلثوم
- التواصل الاجتماعى
- الشخصيات العامة
- النوايا الحسنة
- حمد عبدالوهاب
- خصوصيات الناس
- سقوط الشعر
- سى فى
فرحت بفقرة مبثوثة عبر شبكة التواصل الاجتماعى، تحمل عنواناً مغرياً عن النغم، مشفوعاً بصور محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وباقى حبات العقد الفريد الذى أتحفنا سنين طوالاً، وتزف إلينا أغنية محببة للمطرب الشعبى المحبوب محمد عبدالمطلب، صاحب الصوت المميز، والأداء الأكثر تميزاً، والفن الأصيل.
أما الأغنية المحببة، فهى أغنيته الشهيرة: «ودع هواك وانساه.. عمر اللى فات ما هيرجع تانى». نفضت الكرى، وجلست أستمع شغفاً بهذا الطرب الجميل الرائع، ولتسجيلٍ أبدع فيه «عبدالمطلب» إبداعاً خاصاً متميزاً.
بيد أنه انتزعنى من الإغراق الممتع، صورٌ متتالية جعل الشريط يعرضها تباعاً لكبار الموسيقيين، والمطربين والمطربات، وقمم الطرب والغناء، وصور قمم الفن والتمثيل من الفنانين والفنانات، والممثلين والممثلات، وعدد منتقى من الأدباء والشعراء، ومن الشخصيات العامة.
لماذا هذه الصور؟ هنا تكمن مأساة زراعة اليأس والإحباط!
كل صورة مزدوجة أو ثنائية، تنطوى على صورتين، إحداهما أيام الشباب والصبا والجمال والإشراق، والأخرى للشيخوخة بعد بلوغ أرذل العمر، والآثار والتضاريس التى حفرتها السنون، وذهبت ببريق وجمال الصبا والشباب، وأحلت محلها التهدل والمشيب أو سقوط الشعر، والتجاعيد والأخاديد التى امتدت من الوجوه إلى الأعناق، وإلى الصدر والأكتاف، ولا بأس من صور تبرز عمليات تجميل أخفقت أو زال أثرها، وأخرى لمرضى ومريضات فى الفراش بقرب الاحتضار.. شاهدت صوراً صادمة ومؤثرة توجع القلب، لا تنشر هكذا إلاَّ بضمير ميت موتاً تاماً، وإحساس معدوم بالمسئولية وبأوجاع وآلام وخصوصيات الناس، وتدمر كل قيم الإنسانية.. وتزرع اليأس والإحباط. وكلما تتابع الصور، تصاحبها «تيمة» النغمة والشطر الأساسى فى الأغنية: «عمر اللى فات ما هيرجع تانى»، وكأنها تُخرج لسانها لمن أكلتهم الشيخوخة وأتت على شبابهم ونضارتهم!
هذه الأغنية لم تكن مصوغة لبث اليأس والإحباط فيمن يتقدم بهم العمر، بل هى مصوغة للمحبوب عن هوى انطوت صفحته وأفل وغاب، تناشده أن يودع هواه، وأن ينساه، لأن ماضى الهوى الذى فات لن يعود وقد جفت ينابيع الحب.
ولكن الصور المتتابعة، حولت هذا المعنى العاطفى إلى آخر شرير، ممعن فى الشر، يقول لمن لا يزالون أحياءً من أصحاب وصاحبات الصور، وتقول لكل مشاهد مستمع، إن الشباب لن يعود وكذلك الصحة والعافية، وأن الجمال انقضى وولى ولا سبيل إليه، وأنه لم يعد باقياً إلاَّ هذه الصور الحزينة التى تثير إشفاق كل من يشاهدها، وتثير شجن وقلق بل وفزع كل من أشرف أو أشرفت على الشيخوخة.. إن هذا هو المصير المحتوم، ولتتحول أيامهم الباقية فى الدنيا إلى هم وحزن ويأس وإحباط!
لم أستطع أن أحذف هذه الأغنية من صفحتى، فالأغنية رائعة، وصوت وأداء «عبدالمطلب» تحفة، ولكننى وجدت نفسى أكتب تحتها تعليقاً لأعرف سلفاً ما أنا مقدم عليه إذا فكرت فى الاستماع إليها، كتبت: «غناءٌ رائع، وصور محزنة!».
فكرت طويلاً ما الذى حدا بمعدى هذا الشريط إلى هذه الخطة الجهنمية؟ وما الهدف من إيذاء مشاعر الأحياء وأهالى وأصدقاء وأحباب الأموات؟ وما الغاية من إحباط كل من تقدم أو تقدمت به أو بها العمر، وأشرف أو أشرفت على الشيخوخة.. هل المطلوب أن ينتحروا يأساً وقنوطاً، أم يعيشوا نهباً لهذا الحزن الموجع الأليم؟!
ولأن الشر هو الأساس، لذلك عزف معدو الشريط عن إيراد صور من كانت شيخوختهم أقل تأثّراً بالحفائر والتضاريس، بل وربما أكثر جمالاً فى بعض الأحيان.. كان المرحوم يحيى شاهين أكثر جمالاً حين تقدم به العمر، وكذلك عماد حمدى، وأحمد مظهر.. وقد بذل معدو الشريط جهداً جهيداً لإيجاد ما يشوه صورة أحمد مظهر فى شيخوخته، ولكنهم لم يفلحوا وجاءت الصورة ناطقة بجمال الشيخوخة، على عكس المراد!
ظنى أن الإحباط لا يصيب فقط المعرَّض بهم بهذه الصورة المزدوجة، التى تجرح وتسىء بغض النظر عن التغلّف بالنوايا الحسنة، وإنما هو إحباط يصيب الجميع، فما من أحدٍ أياً كان عمره اليوم، وإلاَّ سَتَرِد عليه الشيخوخة بحفائرها وعلاماتها وآثارها، وشىء مؤلم لكل إنسان أن يتهيب أن يكون عرضه فى آتى أيامه إنْ امتد به العمر لهذا التعريض المؤسف الذى خلا من الأدب واللياقة، ومن الاحترام!
الطاعن أو الطاعنة فى السن، أحوج ما يكون أو تكون للتعويض بمزيد من التوقير والإجلال والرعاية والمحافظة على المشاعر من أن تُصاب بأذى، فضلاً عما يجب للشيخوخة ذاتها من احترام، وحاجة إلى المساندة والتشجيع.
ولا شك أن الناس تتفاوت فى استقبال حفائر ومعالم الشيخوخة، وتكون الحساسية لدى الإناث أكثر منها لدى الذكور، ولدى نجوم الفن رجالاً ونساءً الذين كانت «الصورة» جزءاً لا يتجزأ من رصيدهم ومن أدائهم فى السينما أو المسرح أو الغناء وما إليها، هؤلاء قد التصقت صورهم بشخصياتهم، وكثيراً ما يحرصون على إخفاء تضاريس الزمن، إما بالتدخل للتخفيف، وإما بالاحتجاب الكلى كما فعلت الفنانة الرائعة ليلى مراد.
لماذا عدم احترام خصوصيات الناس، وإدماء القلوب والمشاعر والأحاسيس؟!
من المعروف أن عدداً ممن تقدم بهم العمر، وترك فيهم حفائر وأخاديد، قد احتجبوا عمداً عن الظهور.. رغبةً منهم فى ترك صورتهم القديمة هى الحية فى وجدان من أحبوهم من المتلقين.
كان مصطفى كامل وأترابه، يبثون فى الناس أنه «لا يأس مع الحياة»، فإذ بمعدى هذا الشريط يبثون أنه لا حياة بغير يأس!
فمن الذى أعطى معدى هذا الشريط الشرير، الحق فى هتك خصوصية هؤلاء، ونشر صورٍ لهم عساها قد التقطت عفواً، وحرصوا طوال حياتهم على حجبها وإخفائها؟
ثم ما الحكمة الشيطانية التى حدت إلى تصوير الاحتضار، وكلنا سيلاقيه يوماً؟!
هل لم يعد للخصوصية محل ولا احترام ولا اعتبار، وهل صار الإنسان وخصوصياته نهباً لانتهاك أصحاب الشر والأغراض الملبوسة.
لماذا كل هذا الشر؟!
وأين ضمير من أساغ لنفسه القيام أو المساهمة فـى هذا العمل الكريه، وبث هذا الشريط؟!
إن الأمل قاطرة الإنسانية، والأسوياء يزرعون الأمل.
فماذا يزرع هؤلاء، إلاَّ الإيذاء، واليأس، والقنوط والإحباط؟!
إن الأمل قاطرة الإنسانية هو القوة الدافعة للأمام.. هو أساس الصبر والطمأنينة والمثابرة، والتصميم والإصرار والجلَد، والعزم والإرادة والمضاء.. هو الفارق بين الاطمئنان الوادع وبين الخوف والجزع، بين الصمود وبين التراجع والخذلان، وهو باعث الثقة، وحافز الطموح لا الإحباط.
الثقة هى قاطرة الأمل، والأمل هو قاطرة الإنسانية. القوة الباعثة لكل إنجاز إنسانى.. فردى أو جمعى أو مجتمعى..
من المحال أن يحيا الإنسان بغير أمل يسنده ويشد أزره ويقويه..
والرجاء لا اليأس والإحباط عدة الإنسان الملازم لوعيه، ولحياته..
إطفاء جذوة الأمل، وبث الإحباط، جريمة فى حق الناس جميعاً.. وفى حق الإنسانية!