الكتاب الأبيض الصينى.. والصراع التجارى بين «بكين وواشنطن»

عاطف سالم

عاطف سالم

كاتب صحفي

اعتادت وزارات خارجية أو إعلام الدول إصدار الكتب البيضاء كوثائق تاريخية لتسجيل حدث ما أو اتفاقية مهمة أو عرض قضايا سياسية واقتصادية، تتناول فيها بالشرح والتفسير هذه القضية مع طرح مواقفها منها.

وقد أصدرت الصين مؤخراً فى 24 سبتمبر 2018 كتاباً أبيض تحت عنوان «الحقائق وموقف الصين إزاء النزاع التجارى الصينى الأمريكى» وقبل الخوض فى أهم مرتكزات الكتاب الأبيض الصينى، وجب سرد بدايات هذا النزاع، الذى بدأ مع الحملة الانتخابية للرئيس دونالد ترامب، حيث تعهد خلالها باتخاذ التدابير اللازمة لاستعادة الوظائف الأمريكية المفقودة بسبب التغلغل الصينى -على حد تعبيره- وفرض ضرائب على المنتجات الصينية، وممارسة المزيد من التدقيق فى استثمارات الشركات الصينية العاملة فى الولايات المتحدة. ساند عدد من أعضاء الكونجرس هذا المطلب مقترحين فرض رسوم جمركية بنسبة 27٫5٪ على المنتجات الصينية، كما دعم كل من الممثل التجارى الأمريكى، ومستشار الرئيس «ترامب» وغيرهما، هذا التوجه ومبدأ الانفصال الاقتصادى عن الصين.

طالب الرئيس «ترامب» فى موضع آخر، الصين بوضع حد للممارسات التجارية غير النزيهة، وانتقد سياسة إرغام الشركات الأمريكية الراغبة فى الدخول إلى الصين على تقاسم خبراتها التكنولوجية مع الشركاء الصينيين المحليين، كما اتهم الصين بالتعدى على حقوق الملكية الفكرية.

ارتبط هذا التوجه الأمريكى مع رواسب متراكمة فى العلاقات بين البلدين ومنها مسألة حفاظ الصين على قيمة غير حقيقية للعملة الصينية «اليوان»، الذى ترى الولايات المتحدة أن هذا السلوك الصينى يجعل العملة أقل بنسبة 40٪ من قيمتها الحقيقية إذا ما تُركت لتفاعل قوى السوق، كما ارتبط أيضاً بالمخاوف الأمنية وعدم الثقة فى الصين، وبالتالى عدم تصدير تكنولوجيا عسكرية متقدمة إليها، أو مواد وتكنولوجيا لها استخدام مدنى وعسكرى.

فى إطار التنفيذ، وقع الرئيس «ترامب» مذكرة فى 22 مارس 2018 بفرض رسوم جمركية على السلع الصينية بقيمة 50 مليار دولار أمريكى (بنسبة 25٪ على 1300 منتج صينى)، وذلك بموجب المادة 103 من قانون التجارة الأمريكى لعام 1974، وهى المادة التى تتناول الممارسات التجارية غير العادلة، وسرقة حقوق الملكية الفكرية، اتهمت وزارة التجارة الصينية الولايات المتحدة بمحاولة شن حرب تجارية وتوعدت بالرد بالمثل، وجاء الرد الصينى فى اليوم التالى بداية بفرض رسوم بقيمة 3 مليارات دولار على منتجات أمريكية، تبعتها إجراءات أخرى بفرض رسوم فى 2 أبريل على 128 منتجاً أمريكياً بنسبة 15٪، ورسوم إضافية على 106 منتجات أمريكية بنسبة 25٪ لتصل فى النهاية إلى 60 مليار دولار.

أعلن البيت الأبيض مجدداً فرض رسوم بقيمة 200 مليار دولار أمريكى على واردات الصين.

صدر الكتاب الأبيض الصينى لتوضيح الموقف وتفنيد النزاع وتوثيق الرؤية، وكانت أهم المرتكزات الواردة فيه:

- إن العلاقات التجارية والاقتصادية مع الولايات المتحدة لها أهمية كبيرة بالنسبة للبلدين، ولاستقرار وتنمية الاقتصاد العالمى.

- إن أساس الحل يكمن فى كيفية تعزيز الثقة المتبادلة، وتحفيز التعاون، وإدارة الاختلافات فى إطار روح المساواة، وإعمال العقل، والالتقاء فى منتصف الطريق، والاستعانة بآليات الاتصال والتنسيق بين البلدين.

- إن الصين تجاوبت مع مخاوف الولايات المتحدة بالصبر وحسن النية، وذلك من منظور المصالح المشتركة للطرفين ونظام التجارة العالمى، آخذة فى الاعتبار مبدأ حل النزاعات بالحوار والتشاور، إلا أنها ملتزمة وبشدة بحماية كرامتها الوطنية ومصالحها الأساسية، فهى لا تريد حرباً تجارية ولكن لا تخشاها، وستحارب إذا اقتضى الأمر.

- تسعى الإدارة الأمريكية الحالية إلى تشويه سمعة الصين حيث تتهمها «بالعدوان الاقتصادى» و«التجارة غير العادلة»، وسرقة حقوق الملكية الفكرية، وأن هذا تحريف كبير للحقائق.

سوف تؤدى الإجراءات الحمائية الأمريكية فى النهاية إلى الإضرار بالمصالح الأمريكية ذاتها، كما أنها ستقوض النظام الاقتصادى العالمى.

إن الولايات المتحدة تستخدم سياسة «الولاية القضائية طويلة الذراع»، وتفرض عقوبات ضد دول أخرى استناداً إلى قوانين داخلية أمريكية، حيث إنها تضفى طابعاً دولياً على قضايا داخلية، وطابعاً سياسياً على قضايا تجارية واقتصادية.

وقد أطلقت الحكومة الأمريكية شعار «أمريكا أولاً» وتخلت عن المعايير الأساسية لتوجيه العلاقات الدولية، والمتمثلة فى الاحترام المتبادل والتشاور المتكافئ.

من جانب آخر سارع وزير خارجية الصين فى كلمته أمام المجلس الأمريكى للعلاقات الخارجية «نيويورك»، لتوضيح الموقف وإجلاء الحقائق وإزالة المخاوف الأمريكية تجاه مستقبل الصين، حيث أكد أن بعض الأمريكيين يعتقدون أنه عندما تنمو الصين فإنها ستسعى إلى الهيمنة بل وتحدى قيادة الولايات المتحدة للعالم والسعى للحلول محلها، مشيراً إلى أن هذا سوء تقدير استراتيجى كبير، وهو الذى يخلق الخلافات.

وأضاف أن الصين ستسلك مساراً للتنمية مختلفاً عن قوة تقليدية، وهذا المسار ذو خصائص صينية مما يحدد أن الصين لن تكرر المسار القديم الذى تسعى فيه قوة عظمى للهيمنة، وأن الصين لن تصبح ولايات متحدة أخرى ولن تتحداها أو تحل محلها.

لم تكتف الولايات المتحدة بالإجراءات الحمائية ضد الصين، بل طبقت عقوبات على هيئة تطوير المعدات بوزارة الدفاع الصينية بموجب قانون كاتسا (مواجهة أعداء أمريكا عبر العقوبات لعام 2017) وذلك بسبب شراء هذه الإدارة معدات وأسلحة من مؤسسة روسية «روسو بورن إكسبورت» مدرجة على لوائح «كاتسا» لدعمها النظام السورى بالأسلحة.. وتتضمن العقوبات تجميد أصول هذه الإدارة، وحظر تعاملاتها المالية الخاضعة للنظام الأمريكى.

كما وجهت واشنطن انتقادات حادة للصين على خلفية الانتهاكات بحقوق أقلية اليوجور المسلمة فيها.

هذا فضلاً عن إعلان الولايات المتحدة أنها ستبيع أسلحة لتايوان بقيمة 330 مليون دولار.

تجدر الإشارة إلى أنه طبقاً للأرقام المنشورة، فإن حجم اقتصاد البلدين؛ الصين والولايات المتحدة معاً، يشكل ثلث الاقتصاد العالمى، كما أن حجم التجارة بينهما يمثل خُمس تجارة العالم.. وأن الصين هى أكبر شريك تجارى للولايات المتحدة، والأخيرة ثانى أكبر شريك تجارى للصين، وأن حجم التجارة بينهما عام 2017 بلغ 583٫7 مليار دولار أمريكى بفائض ضخم لصالح الصين، كما أن حجم الاستثمارات المتبادلة بينهما 170 مليار دولار.. وتعمل 68 ألف شركة أمريكية فى الصين باستثمارات تزيد على 83 مليار دولار.

إن ما سبق يؤكد سعى الإدارة الأمريكية -بموجب القوانين الداخلية- إلى معالجة العجز التجارى الضخم مع الصين من خلال إنهاء مفهوم أن الصين هى «مصنع العالم» وأنه يمكن اللجوء إلى بدائل أخرى خلال السنوات المقبلة لتعديل هذا الوضع وفرض الرؤية.. إلا أنه من جانب آخر يؤكد التاريخ أن الصين لديها أيضاً القدرة على التعامل مع المواقف الصعبة والمعقدة.

وختاماً، فالنزاع التجارى بين البلدين سوف يعكس آثاره على العديد من العوامل الأخرى بين البلدين وعلى أوضاع العمل فيهما وإسهامات كل منهما فى اقتصاد الأخرى، كما سيفتح أبواباً لدول أخرى أمام المستورد الأمريكى، والمستثمر الأمريكى أيضاً، بعد رفع أسعار المنتج الصينى.