وائل لطفى يكتب: الدعاة الجدد.. عشرون عاماً من الخداع (الحلقة الأولى)

كتب: وائل لطفى

وائل لطفى يكتب: الدعاة الجدد.. عشرون عاماً من الخداع (الحلقة الأولى)

وائل لطفى يكتب: الدعاة الجدد.. عشرون عاماً من الخداع (الحلقة الأولى)

بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً على ظهور الدعاة، الذين سُموا بالدعاة الجدد، تبقى تساؤلات عن مستقبل هذا النمط من الدعوة، وهل يمكن أن يتحول لحركة إصلاح دينى حقيقى تتجاوز حداثة الشكل لتطور المضمون، أم أنه يظل مجرد تغيير شكلى ذى أهداف تجارية واستهلاكية تهدف لتحويل الخطاب الدينى لمنتج تجارى يتم تسويقه وجنى العائدات من ورائه؟ ثم هل الخطاب المتعلق بالتشجيع على العمل وجنى الثروات لدى الدعاة الجدد، هو خطاب ذو وجه إيجابى يمكن أن يلعب الدور الذى لعبته البروتستانتية فى تحقيق التراكم الرأسمالى والتشجيع على قيمتى العمل والنجاح، أم أنه فى مجتمعاتنا العربية لا يعدو أن يكون دعوة للفساد وجمع المال بأى طريقة من تلك الطرق التى تشيع فى مجتمعاتنا، التى تغيب عنها الحوكمة والشفافية وسيادة القانون؟ والسؤال الأهم فى هذا الإطار: هل تخدم حركة التدين الفردى فكرة الديمقراطية أم تخصم منها؟ هل هى تقود لبناء مجتمع عصرى حديث أم تقدم جمهوراً جاهزاً لدعاة الدولة الدينية، وتنشر ثقافة سلفية اتكالية غيبية تلعب فيها دروس هؤلاء الدعاة دور المدرسة الابتدائية للتطرف، والمرحله التمهيدية له.

{long_qoute_1}

تمهيد تاريخى:

ظهر هذا النمط من الدعاة الجدد فى بدايات تسعينات القرن الماضى، وكان ظهورهم لافتاً، حيث لم يكونوا ينتمون لا لدعاة الأزهر بتعليمهم وزيهم التقليدى، ولا لدعاة السلفيين الذين يتميزون أيضاً بمظهر معين، وبخطاب ملىء بالزجر والتخويف والتركيز على فكرة (عمل الإنسان) كوسيلة لنجاته من النار، كان الدعاة الجدد مهنيين وأشخاصاً عاديين اكتسبوا الثقافة الدينية من خلال دروس البيوت وحلقات المساجد، وكانوا يرتدون زياً يشبه زى الجمهور الذى يستمع إليهم، ويتحدثون بلهجته (العامية البسيطة) أو اللغة البيضاء، التى تجمع بين الفصحى والعامية، وكانت هذه سمة أخرى تميزهم عن دعاة الأزهر من جهة، وعن الدعاة السلفيين من جهة أخرى.

ولم يدرك الكثيرون أن هذا الاختلاف فى الزى وفى اللغة وفى طبيعة التكوين كان يقربهم من رجال دين ينتمون إلى دين آخر تماماً، وهم الوعاظ البروتستانت، الذين ظهروا كصرخة احتجاج على الكنيسة الكاثوليكية أطلقها مارتن لوثر عام ١٥١٧، لم يكن التشابه فى جوهر الدين بكل تأكيد، لكنه كان تشابهاً فى طريقة صياغة الخطاب، وطريقة توصيله، وفى فهم دور الداعية أو رجل الدين وطبيعة علاقته بجمهوره.

كان من أهم سمات هؤلاء الدعاة الذين ظهروا فى التسعينات أيضاً أنهم يستهدفون الطبقات الجديدة الصاعدة فى مصر، أو الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، وقد شبه الداعية عمر عبدالكافى هذه الطبقات بـ(الملا) القرشى، أو النخبة من قبيلة قريش، وكأنه كان يراهم كفاراً يجب عليه هدايتهم، أما أجهزة الأمن فقد قالت إن استهداف هؤلاء الدعاة لهذه الطبقات كان ضمن خطة سمتها (خطة اختراق الصفوة)أطلقتها جماعة الإخوان المسلمين، وشارك فيها دعاة مختلفون من أعضاء الجماعة، مثل ياسين رشدى، وعمر عبدالكافى فى البداية، ثم عمرو خالد وآخرون فيما بعد.

وإذا انتقلنا للظرف الموضوعى سنجد أن هؤلاء الدعاة ظهروا فى وقت كانت فيه المواجهات بين الدولة والتنظيمات الإرهابية فى مرحلتها الأخيرة، وقد قدموا أنفسهم للدولة باعتبارهم قادرين على اجتذاب الشباب بعيداً عن دعوات التكفير العنيفة، وربما يقول قائل إن الظاهرة الإسلامية أعادت إنتاج نفسها مرة أخرى فى صورة معتدلة بعد أن فشل الخيار المسلح، خاصة أن جماعة الإخوان المسلمين كانت هى الحاضنة التى خرج منها الطرفان، الجهاديون من ناحية، والدعاة الجدد من ناحية أخرى.

بشكل أو بآخر، كان المناخ مهيأ لظهور هذا النمط من الدعاة، وساعد على ذلك أن أطرافاً فى الدولة المصرية كانت على استعداد لتشجيعهم اقتناعاً بفائدتهم، وساعد عليه أيضاً أن مراكز مؤثرة فى الإعلام السعودى رأت تبنى هذا النمط من الدعاة المختلف بكل تأكيد عن النمط الذى رعته المؤسسة الوهابية التقليدية، وصدر إلى مصر دعاة مثل محمد حسان، ومحمد حسين يعقوب، ومحمد إسماعيل المقدم، وغيرهم.

وإذا انتقلنا للجمهور نفسه، فإن الطبقة الوسطى المصرية ظلت منذ قيام ثورة ٢٣ يوليو، ثم هزيمة ٦٧ ووفاة جمال عبدالناصر بلا مشروع ثقافى ولا سياسى حقيقى، ففى مرحلة ما قبل يوليو كانت هذه الطبقة تصنع السياسة وتشارك فى الحكم، وفيما بعد يوليو تبنت مشروع جمال عبدالناصر وحلمت معه، لكن هزيمة يونيو لم تترك لهذه الطبقة سوى الفراغ، وكان هذا أحد أسباب إقبال المصريين عموماً على استهلاك الخطاب الدينى بشكل عام، وإقبال الشرائح العليا من الطبقة الوسطى على استهلاك خطاب الدعاة الجدد بشكل خاص.

فى هذا الإطار لا يمكن أبداً أن نغفل أن ثمة طبقة جديدة تشكلت فى مصر منذ بدايات التسعينات، مع سياسات التكيف الهيكلى، وحرب الخليج الأولى، واستدعاء نظام مبارك لعدد من المغتربين والمستثمرين، وأبناء الجيل الثانى من الأسر القديمة، ليشكلوا نواة ما عرف فيما بعد باسم كبار رجال الأعمال، وقد كان لهؤلاء اعتراضات واضحة على مؤسسات صياغة الوعى فى المجتمع المصرى، خاصة الدراما، كانوا يرون أنها معادية للرأسمالية ولصورة رجال الأعمال، وفى ظنى أن ظهور داعية مثل عمرو خالد يدعو للثروة، وللعمل، ولكافة القيم التى تبناها المذهب البروتستانتى، كان مرضياً ومتماشياً مع التغيرات الجديدة فى المجتمع، خاصة أن عدداً كبيراً من رجال الأعمال أقدم على تبنى هذا النوع من الدعاة إعلامياً، ومادياً، واجتماعياً.

لقد جرت فى النهر مياه كثيرة، ومرت ظاهرة الدعاة الجدد بتغيرات متعددة، وقد سمح لى الحظ أن أكون أول من وضع الظاهرة على بساط البحث من خلال كتاب ظاهرة الدعاة الجدد (٢٠٠٥)، الذى حاز على جائزة الدولة التشجيعية فى العلوم الاجتماعية (٢٠٠٨)، ويسعدنى اليوم أن أقدم هذا العمل الجديد الذى يستجلى التغيرات المتعددة التى مرت بها الظاهرة، وتأثيرات ثورتى يناير ٢٠١١، ويونيو ٢٠١٣ عليها، ويحاول الإجابة عن أسئلة عديدة، أهمها السؤال المتعلق بمستقبل هذه الظاهرة، وأرجو أن يكون لى على هذا أجران لا أجر واحد. وعلى الله قصد السبيل.

عمرو خالد.. من تغيير العالم

إلى إعلانات الدجاج:

نحن الآن فى عام ٢٠١٨، وقد مر عشرون عاماً تقريباً على ظهور عمرو خالد كداعية، رحلة طويلة جداً بدأها كعضو فى جماعة الإخوان، ثم كتلميذ لوجدى غنيم، وريث الشيخ كشك، ثم كداعية يلقى دروساً فى جماهير محدودة فى مسجد مغفرة، ويطور خطاباً مستوحى من الأخلاق البروتستانتية، خطاباً يدعو الناس إلى تكوين الثروة ويخبرهم أنهم سيصبحون مسلمين جيدين إذا كونوا ثروات كبيرة، كان هذا هو موضوع درسه الأشهر (الشباب والصيف)، الذى كان خليطاً يحتوى القليل من الدين والكثير من التنمية البشرية، لم يكن عمرو خالد يشبه سابقيه، قدم خطاباً تحتاجه الطبقات الصاعدة اجتماعياً فى مصر فى الوقت الذى بدأ فيه، وقدم خطاباً متأثراً بنمط الوعظ البروتستانتى على مستويات عدة، وكان هذا سراً من أسرار نجاحه.

كان ظهوره فى نفس العام الذى أعلن فيه تنظيما الجماعة الإسلامية والجهاد مبادرة وقف العنف، وكان بشكل أو بآخر نهاية أحلام التغيير الجماعى حتى ولو لم يدرك هو هذا، تبناه رجل الأعمال السعودى صالح كامل وعينه مستشاراً دينياً لقنواته، وحوّله من داعية محلى إلى نجم غير حياة الملايين، وحين بدا للسلطات المصرية أن أضرار وجوده باتت أكثر من الفوائد قررت منعه من الخطابة عام ٢٠٠٤ وألقى له الشيخ صالح كامل بالعصا السحرية، أخبره أنه يستطيع تقديم برنامجه على قناة «اقرأ» من أى مكان فى الكرة الأرضية، هكذا صار قرار المنع كأن لم يكن، نحن نتكلم عن داعية ذى أوجه متعددة، ومشروع مركب اشتركت فى تكوينه أطراف عديدة، جماعة الإخوان ورجال الأعمال المحافظون، والإعلام السعودى الراغب فى مقاومة المؤسسة الوهابية بنموذج أقرب لنمط الوعظ الأمريكى. {left_qoute_1}

نحن أيضاً إزاء محطات عديدة من الانتماء لجماعة الإخوان والتتلمذ على يد دعاة أعضاء بها أو قريبين منها، مثل وجدى غنيم، وممارسة الوعظ فى مساجد أصبحت بمثابة مراكز لحركة التدين الجديد فى مصر، إلى محطة أخرى هى الانضمام لقناة سعودية دينية هى «اقرأ»، والتأثير فى الملايين من خلالها، ثم مرحلة ثالثة هى السفر إلى لندن ونسج علاقات مع المراكز المهتمة بدعم نموذج إسلامى معتدل، مروراً بتأسيس روابط صناع الحياة، ثم العودة إلى مصر من بوابة تأييد أحد مرشحى الحزب الوطنى الديمقراطى فى انتخابات ٢٠١٠، هذا التأييد لم يمنع عمرو خالد من أن ينزل إلى ميدان التحرير ليشارك فى ثورة يناير ٢٠١١ باعتباره من أعداء نظام مبارك، وهذه المشاركة نفسها لم تمنعه من صياغة خطاب مهادن لسلطة المجلس العسكرى، الذى تولى حكم البلاد بعد سقوط مبارك، أما طموحه السياسى القديم الذى طالما تحدث عنه معارضوه ونفاه هو، فقد عبر عن نفسه حين ترأس حزباً سياسياً هو «حزب مصر»، وكل هذا لم يمنعه من تأييد ثورة ٣٠ يونيو التى أبقته فى حال أقرب إلى التجميد، حيث فقد المراكز الحليفة المؤثرة فى بنية السلطة، ولم يعد لمؤيديه التقليديين من رجال الأعمال نفس النفوذ الذى كان لهم فى عالم السياسة والإعلام، ولم يعد العصر ينظر بتسامح لأولئك الذين يحاولون اللعب على حبال السياسة المختلفة، أما الرأى العام فقد صارت له ألسنة حداد لا تتورع عن إلهاب ظهر أى داعية إن بدر منه تصرف يخالف المتوقع منه.

هكذا وجد عمرو خالد نفسه فى مواجهة أزمتين كبيرتين أولاهما فى موسم الحج الموافق عام ٢٠١٧ حين تورط فى موقف تمثيلى بدا فيه وكأنه يبكى أمام الكعبة المشرفة، ويطلب من الله الغفران لمتابعى صفحته على موقع «فيس بوك»، بدا الموقف تمثيلياً وفجاً، وساعدت تقنيات الفيديو على إيضاح الاصطناع والتمثيل فى المشهد الذى لعب بطولته عمرو خالد، لم يعد أحد على استعداد لابتلاع الخطايا، بدا الرأى العام وقد أنضجته الثورات والتغيرات والانفتاح على العالم، وبدت وسائل السوشيال ميديا مثل وحش قاس على استعداد أن يبتلع شعبية عمرو خالد فى لحظات.

{long_qoute_2}

الأزمة الثانية كانت أكثر عمقاً، وتفجرت فى شهر رمضان عام ٢٠١٨، حين ظهر عمرو خالد كبطل لإعلان عن شركة دجاج سعودية، وكانت الكارثة أنه أراد أن يربط الإعلان عن جودة الدجاج بأداء أفضل لصلاة التراويح، انهالت حمم وقذائف الإعلام بما لا طاقة له به، بدا الهجوم عنيفاً وقاسياً وجارحاً، وكأنه يسدد حساب سنوات منحه الناس فيها تقديراً لا يستحقه، أو توقفوا فيها عن نقده باعتباره داعية يتحدث باسم الدين.

بدا الناس مصدومين رغم أنه لم يكن هناك أى شىء جديد على الإطلاق، كان أول ظهور لعمرو خالد على شاشة التليفزيون المصرى عام ١٩٩٩ مرتبطاً بالإعلان، ولولا رعاية رجل الأعمال محمد جنيدى الإعلانية لما أتيح لعمرو خالد أن يظهر، وهو خلال رحلته كان قد قدم بضعة إعلانات لمنتجات سعودية منها عطور القرشى، الأهم أن رد الفعل الغاضب كان حساباً متأخراً على فعل حدث من عشرين عاماً كاملة، وهو تحويل ما هو (رسالى) وهو الدين إلى منتج تجارى، يتم بيعه وجنى الأرباح من ورائه، وإذا شئنا الدقة فإن هناك متغيرين، أولهما أن الرأى العام صار أكثر نضجاً ووعياً، وثانيهما أن شكل الاستغلال التجارى فى هذه المرة كان الأكثر فجاجة، لكن هذا لا يعنى أن عمرو خالد لم يكن ظاهرة تجارية تهدف للربح منذ ظهوره الأول، كان الرجل كذلك، وصنفته مجلة فوربس كأكثر الدعاة دخلاً فى عام ٢٠٠٩ وأعوام أخرى متتالية، وكان ما يجنيه من أرباح متسقاً مع ما يدعو إليه من ضرورة جنى الثروة كوسيلة لأن يصبح المسلم مسلماً صالحاً.


مواضيع متعلقة