مشكلات الأسرة فى عيادات الطب النفسى: ما خفى أعظم

كتب: آية صلاح

مشكلات الأسرة فى عيادات الطب النفسى: ما خفى أعظم

مشكلات الأسرة فى عيادات الطب النفسى: ما خفى أعظم

يجلس بمفرده، فى عيادته الخاصة الكائنة بمنطقة العباسية، الساعة تتجاوز الواحدة صباحاً بقليل، ينظر إلى كومة الملفات المتراصة على أرفف مكتبته، وما تحويه من ملفات عن مرضاه خلال عشر سنوات قضاها الدكتور كريم درويش، فى العمل كإخصائى للطب النفسى والأعصاب، يسترجع منها حالات عدة كان العامل المشترك بينها هو السلوك الخاطئ فى التعامل بين الأبوين وطفلهما، مما يتسبب له بالتكرار، فى عقدة نفسية ويزداد الوضع سوءاً، بل تكبر معه عقدته بعد النضوج.

«لن أنسى تلك الحالة»، قالها سارداً قصة شاب يبلغ من العمر 25 عاماً، جاءه حاملاً اعترافاته، بدأها من صالون منزلهم الراقى ذى الأثاث الفاخر، الذى يستقبل والداه ضيوفهما فيه، لكن سرعان ما تسود الأجواء حالة من التوتر والاستياء، بعد اختفاء بعض مقتنيات الضيوف، مما يسبب لأفراد أسرته الحرج الشديد: «أنا اللى كنت باسرق الحاجات دى يا دكتور، وقاصد أحطهم فى الوضع المحرج ده». لم يقتصر الأمر على ذلك، بل امتد فعل السرقة ليطال حاجيات والديه نفسيهما، رغم عدم انتفاعه المباشر بهذه الأشياء، إلا أنها تشفى بداخله غليلاً، وتروى لديه ظمأ إلى الانتقام، وكانت تلك وسيلته الأكثر سلاماً، فَطِن الطبيب حينها إلى أن المشكلة تكمن فى الطفولة وسافر مع مريضه إليها، حتى علم بعدها أن ذلك الشاب تعرّض للمعاملة السيئة من والديه وتوجيه مستمر للانتقادات والسخرية والتهكم على معظم تصرفاته مقابل معاملة لطيفة ودودة مع أقرانه، مما ولّد لديه الحنق والغضب والحقد عليهم جميعاً: «كان بيعمل كده علشان يفرغ غضبه، ومش قادر يتخلص من العادة دى». ملفات لمرضى كثيرين كان فيها السلوك غير الواعى فى معاملة وتربية الطفل سبباً رئيسياً فى ظهور مشكلة مستقبلية حقيقية، لا يقدر دوماً على حلها، منها أشخاص مصابون بـ«التهتهة»، رغم بلوغهم العشرينات من العمر، وبدأت الشرارة الأولى لذلك فى سنوات الطفولة المبكرة، فى أول ست سنوات من عمر الطفل، نتيجة التعنيف الزائد أو القسوة فى التعامل.

{long_qoute_1}

«البنت اللى مش شبعانة من أبوها، دى الحالة الأكثر تكراراً فى عيادتى»، قالها الدكتور هانى الزغندى الطبيب النفسى، فى جلسات الأصدقاء، خاصة البنات منهم، تتعالى الضحكات والقهقهات وتتردّد جمل السخرية التى تنال من إحداهن: «دى عندها حرمان عاطفى»، لتعتزل حينها تلك البنت الجلسة، وتنهار فى نوبة من البكاء، باحثة عن يد ممدودة للمساعدة، تتردّد فى طريقها إلى طبيب نفسى، لكن تحسم قرارها بالذهاب: «مش هاخسر حاجة، على الأقل ضامنة أنه لن يسخر منى».

66% من ملفات الحالات لدى «هانى»، لسيدات يشتكين من أزواجهن، لصفات صعبة فى شخصياتهم أو معاملة ظالمة أو إهمال قاتل يتعرضن له، فى كثير من الحالات ترسو سفينة الخلافات فى ميناء الطلاق الصامت، تأتيه إحدى السيدات بملابس أنيقة تنبئ عن رفاهية فى مستوى المعيشة، تجلس أمامه، وفجأة تنهمر دموعها بسبب زوجها، الذى يتركها مع الأطفال، ويسىء معاملتها ويضربها، وفى حال طلبها للطلاق يهدّدها بخطف الأولاد وحرمانها منهم: «أم فى الوضع والمأساة دى، مستحيل تبقى سوية وتربى أطفال أسوياء، الناس مش فاهمين أن الضرب جريمة»، بعد أن يستمع إلى شكواها، التى تتكرر على مسامعه من سيدات كثيرات يعترف: «فيه نسبة من الرجالة فضحانا، لا بيوافقوا يطلقوا الست ولا بيرضوا يدولها حقوقها»، ثم يبدأ معها رحلة طويلة من محاولة إعادة بناء ثقتها بنفسها وأنها مخلوق حر لا يستحق الإهانة، حتى يتحقق من تكامل إمكانياتها الشخصية، ويوجّه النّصح لكل الفتيات من سن 21 عاماً، بضرورة الاهتمام بخلق مسيرة وظيفية ناجحة تكسبها الاحترام لدى زوجها، وتكون المعين لها فى حال استغنائه عن إعالتها وأطفالهما.

{long_qoute_2}

٤٠ عاماً كاملة، هو مجموع خبرات الدكتور محمود أبوالعزايم فى الطب النفسى، تكررت لديه حالات غريبة كثيرة تطور بعضها ليصل إلى مرحلة الجريمة، من أغربها كانت حالة الأستاذ الجامعى الذى قتل خاله الذى كان يتبنّاه، مما يبرهن على أن المرض النفسى لا يفرّق بين جاهل ومتعلم ومثقف، ربما يجذبه الفقر وكثرة الضغوط، لكن رفاهية المعيشة لا تمنعه، اكتسب «أبوالعزايم»، مناعة ضد الدهشة مما يسمعه من حكايات، فهناك ذلك الأب الذى يحضر بيديه المخدرات لأولاده ويتعاطاها معهم، ويرسلهم هم أحياناً لشرائها، واستمع إلى الزوجة التى اعترفت أمامه أنها حاولت أكثر من مرة قتل ابنها دون قصد منها بسبب فرط الغضب أثناء ضربه، كل هذه الفظائع لم تنسِه حالة خاصة لديه، عندما دخلت عيادته فى أحد الأيام طفلة رائعة الجمال بصحبة والديها اللذين يشكيان من تأخرها الدراسى مع بعض أعراض البلاهة ونقص الانتباه، قائلين بخجل: «أوقات بيجى لها تبول لا إرادى يا دكتور»، متشككين فى إصابتها بتأخر فى النمو أو خلل فى قدراتها العقلية، بحكمة طبيب طلب الانفراد بالبنت، وبعد عدة جلسات مطولة اكتشف سلامتها عقلياً وذهنياً، بل إنها تتسم بذكاء فى الردود، لكن يتملكها خوف رهيب، وبعد أن بنى الطبيب جسراً من الثقة بينه وبين الطفلة بدأت تشتكى من أقارب لها تدّعى سوء معاملتهم لها، إلا أنه فى نهاية المطاف اكتشف تعرّضها لعدد متكرر من التحرّشات الجنسية المصحوبة بتهديدات غاية فى الغلظة بالصعق بالكهرباء وغيرها إن باحت بالأمر، ولاحظ بكاء الطفلة الشديد عندما يذكر لها أحد أنه سيجلب لها قالباً من الشيكولاتة لأنها كانت وسيلة «متحرشها الرخيص» لمكافأتها على صمتها، وحالة شبيهة كان الضحية فيها طفلاً ولداً، والتصقت به تلك الشبهة رغم كبر سنه، وأصبح يكررها مع أطفال آخرين، ثم يجلس وحيداً فى غرفته يُشرّح جسده بآلة حادة ندماً وإحساساً بالذنب، ثم يخرج بين الناس تتملكه حالة من الغضب تجاه طفل تبدو عليه ملامح السلام النفسى، وبعد أن تتهيّأ الظروف لإتمام فعلته، يعود أدراجه للمنزل باكياً، فقد أضاف ضحية جديدة لقائمة ضحاياه.


مواضيع متعلقة