«الروبيكى للجلود».. نهضة صناعية تشرق من بدر (ملف)

كتب: محمد سعيد الشماع

«الروبيكى للجلود».. نهضة صناعية تشرق من بدر  (ملف)

«الروبيكى للجلود».. نهضة صناعية تشرق من بدر (ملف)

على مدار سنوات طويلة، استقر عملهم فى وسط العاصمة داخل منطقة سور مجرى العيون بمصر القديمة، وكان قرار نقلهم إلى مدينة جديدة «الروبيكى» التى تبعُد عن القاهرة مسافة 55 كيلومتراً، كفيلاً بإثارة القلق والخوف لدى كل العاملين بالمدابغ بمقرها القديم فور علمهم بالقرار، هذا المصير المجهول الممزوج بحلم مدينة صناعية ضخمة للجلود تحول مع الأيام إلى واقع ملموس وبدأ بالفعل أكثر من 40 مدبغة فى التشغيل والإنتاج، مع أخرى ما زالت فى مرحلة التجهيز والتشغيل التجريبى، ليبدأوا جميعاً خطوة جديدة فى مجال دباغة الجلود فى مصر.

يواجه العامل البسيط صعوبات ومشقة يومية خلال رحلته من وإلى الروبيكى، سواء فى وسائل المواصلات وقضاء ساعات طويلة فى الطريق داخل أوتوبيسات النقل العام غير الآدمية، كما وصفوها، أو وعود بتسكينهم بالقرب من مقر عملهم، فى حين يجد أيضاً أصحاب المدابغ معوقات أخرى أهمها التكاليف الباهظة فى مرحلة بداية الإنتاج ونقل العمال، التى هددت بعضهم بتأجيل التشغيل، بالإضافة إلى معاناتهم فى استخراج التراخيص، والوضع الأمنى داخل المدينة.

انتقلت «الوطن» إلى «الروبيكى» التى تبعد عن «بدر» بـ10 كيلومترات، ورصدت طبيعة العمل فى المدينة الجديدة والوضع القائم فى الفترة الحالية بالمنطقة الصناعية مع أصحاب المدابغ والعمال، للوقوف على ما وصل إليه هذا المشروع الإنتاجى الضخم.

{long_qoute_1}

«البوابة دى مقفولة مش هتعرف تدخل من هنا، تقدر تمر من البوابة التانية اللى فى أول يمين»، هكذا يستقبل أحد العاملين بالمدينة الزوار أمام البوابة الرئيسية المُغلقة «خروج ودخول» بجذوع النخيل الضخمة لمنع مرور السيارات من خلالها، تلك البوابة العملاقة المُصممة بشكل مختلف، مكتوب عليها ببنط كبير باللون الأزرق «مدينة الجلود بالروبيكى» باللغتين العربية والإنجليزية، ليضطر بعدها قائدو السيارات للعبور من خلال بوابة أخرى فرعية ليس عليها أية لافتات تعريفية يجلس بها فرد أمن وحيد داخل غرفة صغيرة يحتمى بها من أشعة الشمس الحارة، يكتفى بمشاهدة السيارات المارة فقط دون السؤال عن الهوية أو سبب الزيارة، تاركاً البوابة مفتوحة للجميع، وهو ما شكا منه بعض أصحاب المدابغ بسبب تعرُّض البعض للسرقات، مما دفعهم إلى حماية ممتلكاتهم بالخفراء والكلاب كبديل أمنى داخل المنطقة الصناعية.

سور كبير غير مكتمل يُحيط بالمدينة الصناعية التى تقع على مساحة أكثر من 515 فداناً، وتبعد عن العاصمة مسافة 55 كيلومتراً، والمسافة بينها وبين مدينة بدر 10 كيلومترات، الهدوء يُسود شوارع «الروبيكى» المُمهدة بالأسفلت، لا يقطعه سوى مرور سيارات النقل المُحملة بالجلود لتنقلها إلى المدابغ، فيما انتشرت أعمدة الإنارة على جنبات الطرق، وطُليت غالبية الأرصفة باللونين الأبيض والأسود، عليها نخيل فى مراحله الأولية بمنتصف الطريق على مسافات ثابتة يُعطى الطريق لمسة جمالية، مع لافتات إرشادية للشوارع والمناطق داخل المدينة التى صُممت بطراز موحد وألوان ثابتة على مستوى المنطقة الصناعية تخرج فى شكل جميل، حيث النصف السفلى بناء رمادى اللون والجزء الآخر العلوى معدنى باللون الأزرق، كما جُهزت العنابر أو المدابغ بارتفاعات كبيرة ومساحات مختلفة تبدأ من 330 متراً للمدبغة وحتى 6500 متر للمدابغ الكبيرة، وصُممت المدابغ بتلك المساحات والارتفاعات حتى تستطيع احتواء المُعدات الضخمة والحديثة وخطوط الإنتاج الكبيرة.

وبالانتقال داخل المدابغ كان الوضع مختلفاً بشكل كبير، حيث انتهت حالة الهدوء التى كانت مُسيطرة خارج المدابغ، وظهر عالم آخر حيث المُعدات والبراميل الضخمة وخطوط الإنتاج الكبيرة والروائح الكريهة الناتجة عن دباغة الجلود، والتى تشتد كلما اقتربنا من مراحل تصنيعه الأوّلية، تلك الرائحة لم تكن منتشرة خارج المدابغ فى الروبيكى على عكس ما كان يحدث أثناء العمل بالمقر القديم بسور مجرى العيون بمصر القديمة، وأمام كل معدّة داخل المدبغة يقف العامل أو المتخصص المسئول عن تشغيلها أو العمل عليها، هنا عامل يرفع الجلود الحية فى مرحلتها الأوّلية من أعلى سيارة النقل على كتفه ليضعها فى مكانها المخصص لتبدأ عملية دبغها، وآخر يقوم بإزالة الطبقة السطحية للجلود، من ضمنها الشوائب والشعر، بمواد كيميائية أمام ماكينة حادة للغاية، وأمام أحد البراميل الضخمة يقف عامل يضع بدوره الجلود فيها، وهناك آخر ينتظر وصول دفعات من الجلود لوضعها داخل أحد الأجهزة لفردها وتجفيفها من السوائل، أما فى المرحلة الأخيرة فينتظر المُكلف بعملية فرز الجلود فى آخر المصنع من أجل تحديد المقاسات. {left_qoute_1}

ووفقاً لآخر بيان صدر عن وزارة التجارة والصناعة فإن إجمالى عدد المصانع التى بدأت التشغيل الفعلى والإنتاج بمدينة الروبيكى تعدى 40 مصنعاً أو مدبغة كبيرة تشغل 50% من إجمالى مساحة المرحلة الأولى من المشروع، التى تقع على مساحة 173 ألف متر، ويجرى فى الفترة الحالية الانتهاء من التشغيل بشكل تجريبى لـ12 مصنعاً، وعند بدء التشغيل الفعلى لتلك المصانع سيصل عدد المصانع المنتجة إلى 52 مصنعاً، وتُخطط الحكومة لإدخال 70 مصنعاً جديداً مرحلة التشغيل الفعلى قبل نهاية هذا العام، فى نفس الوقت الذى يتم فيه استكمال عمليات هدم وإزالة المنشآت فى منطقة سور مجرى العيون بمصر القديمة.

مع عدم تسلم العمال بالمدابغ الشقق السكنية التى وعدتهم الحكومة بها بالقرب من مقر عملهم الجديد بمدينة الروبيكى للتسهيل عليهم من بُعد المسافة والمواصلات اليومية، يواجه العمال صعوبات كبيرة، حسب ما أوضح «محمد حامد»، 34 عاماً، عامل بإحدى المدابغ بالروبيكى، سواء فى إرهاق المواصلات لعشرات الكيلومترات، أو نتيجة تعطل أوتوبيسات النقل العام التى تتحرك صباح كل يوم من أمام سور مجرى العيون وعددها 3 أوتوبيسات تتجه إلى الروبيكى، سعر تذكرة الأوتوبيس 5 جنيهات، يبدأ عملهم فى الساعة 9 صباحاً وحتى الساعة 4 عصراً حتى يستطيعوا اللحاق بأوتوبيس العودة مرة أخرى، انخفضت ساعات العمل عما كانت عليه، حيث كانوا يعملون 9 ساعات تبدأ فى 8 صباحاً وحتى 5 مساء، أما حالياً فإجمالى عدد ساعات العمل أقل من 7 ساعات تشمل ساعة راحة من 12 ظهراً فى كثير من المصانع، بل أيضاً يصلون إلى مقر عملهم فى حالة من الإرهاق نتيجة تكدس الأوتوبيسات وقلة عددها أمام أعداد كبيرة من العمال، فيما دفع بعض أصحاب المدابغ إلى تخصيص أوتوبيسات تحمل عمالهم بإيجار يومى.

مراحل مُتعددة تمر خلالها الجلود، تبدأ مع دخول سيارات النقل مُحملة بالجلود الحية إلى المدابغ، كما أوضح «حسين مصطفى»، 28 عاماً، مدير إحدى المدابغ بالروبيكى، حتى تخرج منتجاً تام الصنع، تليها مرحلة غسيل الجلود، ثم إزالة الشعر من عليها بمواد كيميائية، وتأتى مرحلة «التحنيط» وهى تُعطى حماية 10 أيام، ويدخل الجلد على ماكينات مُخصصة لحلاقته، وفيها تتم إزالة طبقة من الجلد بمعيار مُحدد، على سبيل المثال 2 ملم، وما يخرج من مخلفات يدخل فى صناعة الغراء، ثم «الكروم» وفيه يتم تحويل الجلود من المادة الحية إلى مادة معدنية «الكروم»، وهى تُعتبر أولى مراحل الدباغة، المرحلة التالية هى «العصارة» ويتم فيها «تجفيف الجلد وتنشيفه»، وبعدها مرحلة أخرى من «الحلاقة»، ولكن بشكل أدق، ثم تأتى «الصباغة»، وفيها يتم تحديد مواصفات الجلد على حسب المنتج، ثم مرحلة تالية مختلفة من ضمنها تعليق الجلود من أجل تجفيفها، وتفتيحها ومعالجتها، وأخيراً فرز الجلود وتحديد المقاسات النهائية وفقاً للمنتج المطلوب.

كانت هناك مشاكل كبيرة يواجهها أصحاب المدابغ فى طرق الصرف أثناء العمل قديماً بسور مجرى العيون، وهو ما اختلف نسبياً حتى الفترة الحالية، حسب ما أكد «حسين»، موضحاً أنهم خصصوا 3 أنواع للصرف فى الروبيكى، عام ومالح وكروم، ومن المفترض أن يتم إلقاؤه فى خزانات وتأتى السيارات تسحبه منها وتتم معالجته، على أن يسير نوعا الصرف الآخران إلى محطات المعالجة مباشرة، ولكن حتى الوقت الحالى لم تأتِ تلك السيارات لسحب الكروم، وبالتالى بدأ إلقاؤه فى العام والمالح، وينتظر الجميع حالياً بدأ صرف الكروم مع تشغيل محطات معالجة نوعى الصرف العام والمالح.

{long_qoute_2}

ما زال ينقص المدينة بعض اللمسات الأخيرة، سواء فى تمهيد بعض الطرق الفرعية أو طلاء بعض الأرصفة، أو شركة أمن خاصة تكون مهمتها الحفاظ على الوضع الأمنى على البوابات وداخل المدينة الصناعية، بسبب تكرار حوادث السرقة داخلها، وهو ما أكده «حسين»، موضحاً أن الوضع الأمنى داخل المدينة به قصور واضح، وأنه تعرّض من قبل لحادث سرقة من داخل المدبغة، كما تعرّض أيضاً، منذ أيام، لحادث سرقة غلايات من أمام المصنع.

نسبة الهدر من الجلود قلّت بدرجة كبيرة مع الانتقال للروبيكى، على عكس ما كان يحدث فى سور مجرى العيون، حسب ما أكد المهندس «عبدالرحمن الجباس»، عضو مجلس إدارة دباغة الجلود وصاحب مدبغة الرواد بمدنى الروبيكى، موضحاً أن أهم الأسباب هو قيام غالبية أصحاب المدابغ بتجديد الماكينات واستخدام مكاينات حديثة فى الفترة الحالية، وساعدهم فى ذلك تلك المساحة الأفقية للمدابغ، فيما كانت نسبة الهدر أكبر فى سور مجرى العيون لأن الماكينات والمعدات كانت متهالكة وبالتالى إنتاجيتها كانت أقل.

أما عن تكاليف المرافق كالمياه فأكد «الجباس» أنهم كانوا يحصلون عليها أثناء العمل فى سور مجرى العيون من خلال حفر الآبار نتيجة قربهم من نهر النيل، وبالتالى دون دفع مقابل مادى، لكن فى الروبيكى أصبحوا يدفعون مبالغ كبيرة، وأن هناك اتجاهاً حالياً لتطبيق طرق حديثة لدباغة الجلود توفر الكثير من كميات المياه أثناء التصنيع، موضحاً أن طن الجلد الخام يحتاج إلى 70 طن مياه حتى يخرج من المدبغة منتجاً تام الصنع، وكلما زادت المدبغة فى إنتاجها زادت تكلفتها فى المياه، أما الكهرباء فمعدل استخدامهم لها لم يتغير، سواء بالعمل فى مجرى العيون أو الروبيكى، وأن الزيادة طبيعية نتيجة زيادة أسعار شرائح الكهرباء على الجميع.

التوسع الأفقى للمدابغ فى الروبيكى كان من أهم المميزات داخل مدينة الروبيكى وهو ما أكده «الجباس»، مضيفاً أنه أفضل كثيراً من الرأسى فى المقر القديم، لأن «تداول الجلود أصبح أكثر سهولة ويُسراً، ويساعد على سهولة عملية الإنتاج، بعدما كنا نحمل الجلود ونصعد بها إلى الطوابق العليا ثم ننزل بها مرة أخرى، وبالتالى تنتهى مرحلة الإنتاج بشكل أسرع، مشيراً إلى تخصيص أماكن لنقل مخازن الجلود الخام، ومحلات الكهرباء، وغيرها مثلما كانت موجودة فى مجرى العيون، وهى ما يُسمى بـ«الخدمات المساعدة»، وهناك نحو 4 مطاعم وكافتيريات، بالإضافة إلى البنك الأهلى الذى يتم تجهيزه وتشطيبه حالياً، مع توافر كافة الخدمات الأخرى.

المخلفات أو نفايات المدابغ سيتم الاستفادة منها بطرق أفضل عما كان يحدث فى منطقة مجرى العيون، حسب ما أوضح «الجباس»، مؤكداً أن للنفايات أنواعاً مختلفة، من ضمنها «فرق تخانة الجلد» التى كان يُستخرج منها الغراء فى سور مجرى العيون، وهناك اتجاه فى الفترة الحالية داخل الروبيكى لإقامة مصنع لإنتاج الجيلاتين الطبى بدل الغراء، وذلك يُعتبر تطويراً مهماً للغاية فى تلك الصناعة، أما النوع الآخر من النفايات أو المخلفات فهو «بقايا الجلد»، وستدخل فى صناعات جديدة تُسمى «إعادة تدوير الكروم»، بدلاً من إلقائه فى الصرف الصحى أو الصناعى، وذلك مشروع هام للغاية لأن الكروم فى الأساس مادة سامة، بالإضافة إلى أنه يوجد بمدينة الروبيكى فى الفترة الحالية مدفن صحى خاص بها لدفن النفايات العادية، وهى عبارة عن بقايا الجلود المُعدة للتصدير.

 

 الموضوعات المتعلقة 

«الحلم يتحقق»: 40 مصنعاً جديداً تدخل مرحلة الإنتاج والتصدير رغم ضعف الخدمات

 

عمال المدابغ فى انتظار السكن وتحسين الخدمات: «بنضيّع عُمرنا فى المواصلات»

 


مواضيع متعلقة