ياسر رزق.. حامل نوط الشهامة

أحمد عاطف

أحمد عاطف

كاتب صحفي

بين أبناء جيله ورفاق مسيرته، يبقى الأستاذ ياسر رزق، اسماً مضيئاً وحالة صحفية استثنائية، بقدر ما أخلص لمهنته، وبقدر ما تفانى فى العمل النقابى وخدم الجماعة الصحفية.

بصورة أخرى، تبدو تجربة الكاتب الكبير موزعة على 3 جبهات، الأولى مهنته وأدواته، والثانية مصادر معلوماته ودوائر علاقاته، والثالثة جماعته الصحفية وأبناء مهنته. والجبهات الثلاث لا تنفصل عن همِّه الوطنى المقيم بين ضلوعه وقرب قلبه المعتل ذى الدعامات.

بمعايير المهنية الصحفية وامتلاك أدوات التميز، لا يختلف اثنان على تفوقه، فرئيس التحرير الذى قاد 3 تجارب كبرى فى «الإذاعة والتليفزيون، والأخبار، ثم المصرى اليوم، فالأخبار مرة أخرى رئيساً لمجلس إدارتها» ما زال، بحماس الشباب، ينافس ويقتنص الجوائز، مثلما تُوِّج مؤخراً بجائزة الصحافة العربية عن حواره فى «المصرى اليوم» مع الرئيس عبدالفتاح السيسى، عندما كان وزيراً للدفاع. زد على ذلك وصوله لما يتمناه كل صحفى لنفسه، أن يكون «خبيراً فى ملفه» ومصدراً للمعلومات، لا مجرد متلقٍّ أو ناقل لها.

أما علاقته بمصادره «الحساسة رفيعة المستوى»، كمحرر عسكرى ورئيس تحرير، واتساع دوائر علاقاته التى لا تقل أهميتها للصحفى عن دور الشرايين بالجسد، يبدو الأستاذ ياسر رزق صاحب أداء مختلف، فهو بتعبير الشاعر محمود درويش «لا يقترب حد الاحتراق ولا يبتعد حد الافتراق»، وظلَّ «بين بين»، حاجزاً لنفسه موقعاً خاصاً قرب دوائر صناعة القرار، ففُتحت أمام أمانته خزائن الأسرار وكنوز المعلومات، وتعامل مع المسموح منها بنشره كحبات اللؤلؤ، يوزعها ببراعة على مقالات ينتظرها من يشتهون خلطته المبهرة التى تجتمع فيها «المعلومة والخبر وتقدير المستقبل، مع السياق المصاحب والخلفية الضرورية واستدعاء التاريخ والصور البلاغية».

إلى ذلك لم ينفصل «رزق» يوماً عن الجماعة الصحفية، ولا يُذكر اسمه فى تجمع للصحفيين، إلا وتسمع موقفاً أو حكاية عن دوره فى حل أزمة أو فض نزاع، بخلاف جهوده فى لجنة الإسكان بالنقابة أثناء ترؤسه لها.

تربطنى بالأستاذ ياسر أواصر محبة من العبق الحميمى الذى يفيض به على من يعرفه أو يقترب منه، حتى لو كان قُرباً عابراً كحالتى، فقد تعرفت عليه فى انتخابات نقابة الصحفيين «أكتوبر 2011»، ودار حوار أذكره هنا لأول مرة.

كنا جماعة من الصحفيين أمام مبنى النقابة، عندما أقبل علينا الأستاذ ياسر رزق بطلّته البشوشة، يسأل عن أحوال الانتخابات وأجواء المنافسة، ثم سأل عن صحفى اسمه «أحمد عاطف»، صاحب الفيديو الذى ظهر فيه المشير محمد حسين طنطاوى، القائد العام للقوات المسلحة، رئيس المجلس العسكرى «الحاكم» آنذاك، فى وسط البلد، مرتدياً «بدلة مدنية»، بدون حراسة. ضحك الجميع، لسؤال الأستاذ ياسر، لأنه يقف أمام من يسأل عنه.

كان الرجل شغوفاً بمعرفة حقيقة ما حدث، فشرحت له أن الواقعة بدأت يوم 26 سبتمبر 2011 مصادفة فى شارع «قصر النيل» ليلاً، حيث فوجئت بتجمع للمارة وأصحاب المحلات، وعندما اقتربت وجدت المشير طنطاوى أمامى، ففتحت كاميرتى الخاصة على الفور وصورت تحركاته حتى استقل سيارته مُغادراً، ثم أبلغت زميلى الإعلامى علاء أبوزيد بما حدث، فعرض علىّ أن أكون ضيفاً بعد 30 دقيقة فقط فى برنامج «مباشر من مصر» الذى يرأس تحريره فى «الفضائية المصرية»، وكنت موفقاً فى قبول الدعوة لأن زملاء صحفيين كانوا بصحبتى أثناء الجولة، ومؤكد أن من يسارع بالنشر سيكون له السبق. وبعد دقائق من ظهورى فى «الفضائية» وعرض الفيديو، لم تتوقف مداخلات القنوات الفضائية معى، وفى المقابل انطلق سيل من التعليقات والتحليلات، طغى عليها التشويه والتضليل وإنكار أن ما حدث مصادفة وتوفيق من الله لصحفى شاب، دون ترتيب مسبق مع القوات المسلحة أو التليفزيون.

كان الهدف الأول للتشويه هو «المشير طنطاوى»، وصوّره الإخوان على أنه راغب فى الترشح لرئاسة الجمهورية، زاعمين كذباً أن «الجولة المفاجئة» مُقدمة لجسّ نبض الشارع، وتردد وقتها أن المشير كان فى مناسبة اجتماعية بمنطقة «عابدين»، حيث مسكنه القديم وبعض أقاربه، وقرر التحرك فى الشارع بشكل مفاجئ، للاطمئنان على أحوال الناس فى دقائق، دون ترتيب مسبق أو حراسة أو بروتوكول، فقد كان وقتها فى موقع «رئيس الجمهورية» بالفعل كرئيس للمجلس العسكرى الحاكم.

وقد نلت نصيبى من التشويه واتهامى بأنى «مأجور»، لكنى اعتبرت ذلك صدى للانفراد المدوى، فيما أنصفنى أساتذة وزملاء كثيرون، منهم جمال زايدة، الكاتب الصحفى بالأهرام، الذى أشاد بالانفراد أثناء استضافته بعدى فى «الفضائية»، ونشر خبر الجولة فى الأهرام فى اليوم التالى، ونسب لى الانفراد بتصويرها. وفى اليوم السابع كتب الأستاذ سعيد الشحات مقالاً بعنوان «زيارة المشير وأحمد عاطف»، وكتبت بنفسى خبر وكواليس الجولة فى جريدة التحرير، وأرسلت لزملائى فى «الشروق» صوراً تصدّرت صفحتها الأولى، وتكرم الصديق جورج أنسي بإجراء حوار صحفي معى بمجلة صباح الخير عرضت فيه الحقائق كاملة.

كل هذا كان فى كفة، وما قاله لى الأستاذ ياسر رزق، وأثلج به صدرى، كان فى كفة مقابلة. فقد أنهى حديثه معى قائلاً: «المشير طنطاوى قال لى: أنا شفت الصحفى اللى صورنى فى وسط البلد على التليفزيون، الولد ده أمين وصادق فى كل اللى قاله».

هذه الشهادة للبطل الحقيقى لهذه الواقعة المهمة فى حياتى المهنية، كانت وما زالت بالنسبة لى «الجائزة الكبرى» التى كفتنى وعوضتنى عن التشويه الذى تعرضت له، وسأظل ممتناً لها باعتبارها وساماً إنسانياً رفيعاً طوقنى به. فمعنى أن يصفك «القائد العام للقوات المسلحة المصرية» بـ«الأمانة والصدق» ليس هيناً.

وكذلك سأبقى مُمتناً لشهامة وأمانة الأستاذ ياسر رزق، وحرصه على دعم صحفى شاب وجد نفسه فجأة فى دوامة تأويلات واتهامات، لمجرد أنه أدى عمله بكفاءة.

وهذا لم يكن غريباً على ابن الدفعة المميزة من خريجى كلية الإعلام عام 1986، التى ضمت أسماء عديدة، صارت نجوماً فى الصحافة والإعلام، منهم الأساتذة مجدى الجلاد وعماد الدين حسين وعادل السنهورى وعمرو أديب.

الأستاذ ياسر رزق يعيش حالياً أجواء، يسميها الأطباء «فترة نقاهة»، بعد إجرائه جراحتين فى القلب بباريس، لكنها بالنسبة له «يومين إجازة إجبارية»، فقد أجرى جراحتين سابقتين بالقلب، ورغم خطورة حالته، يبدو متصالحاً مع قلبه المتعب، غير ناقم عليه، كما هو متصالح مع كل ما حوله، راضياً بقضاء الله وقدره. فليست هذه أول مرة تحل فيها الدعامات الصناعية بقلبه، يقول لنفسه، ولا أول مرة يخالف نصائح الأطباء بالإقلاع عن التدخين، حتى مع تحذيره بكل اللهجات العنيفة واللطيفة من خطورته على قلبه ورئتيه وحياته بالطبع، وليست آخر مرة يقول لنفسه أيضاً: طالما يجرى النفس فى الصدر والحبر فى القلم، فإن فى العمر بقية.