بالصور| مشاهد الوداع الأخير للأنبا إبيفانيوس.. "القدر" يلاحق البابا

كتب: مصطفى رحومة:

بالصور| مشاهد الوداع الأخير للأنبا إبيفانيوس.. "القدر" يلاحق البابا

بالصور| مشاهد الوداع الأخير للأنبا إبيفانيوس.. "القدر" يلاحق البابا

في 31 يوليو 1988، سيم وجيه صبحي باقي، راهبًا بدير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، بعد أن ترأس البابا شنودة الثالث، صلاة التجنيز عليه، في دلالة على موته عن العالم ودخوله سلك الرهبنة، طبقًا لطقس الرهبنة القبطية والمعروفة برهبنة "الكفن"، وصار اسمه الراهب ثيؤدر الأنبا بيشوي، وقتها لم يدر بخلد الشاب الذي يؤمن بـ"القدر" أنه سيقف في نفس هذا اليوم بعد 30 عامًا، وقد صار بطريركا للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، يحمل اسم البابا تواضروس الثاني، ليصلي صلاة التجنيز أيضًا، ولكن تلك المرة ليست على ملتحقين بالرهبنة، بل على راهب صار أسقفًا على يده ورئيسًا لأكبر الأديرة القبطية في مصر والذي يرجع تاريخه إلى القرن الرابع الميلادي، وهو الأنبا إبيفانيوس، أسقف رئيس دير أبو مقار بوادي النطرون.

فمع دقات الساعة الثانية عشر من ظهر اليوم الثلاثاء، دقت أجراس دير أبو مقار معلنة وصول البابا وبدء صلوات الجنازة، على الأسقف الذي عثر عليه مقتولًا صباح الأحد الماضي، على بعد أمتار من قلايته وفي أثناء توجهه للصلاة في كنيسة الدير.

{long_qoute_1}

"تواضروس" الذي اختاره القدر يوم ميلاده الستين ليكون بابا للكنيسة، دخل الكنيسة متكئا على "عصا الرعاية" لتساعده على تحمل آلام الجسد والنفس، وبمقلتين تحجرت فيهما الدموع، وبصوت مبحوح، وقف أمام صندوق خشبي مغلق على جسد الأسقف، تعلوه ورود على هيئة صليب، موضوعًا على طاولة يتقدمها شمعتان موقودتان، ويتراص حول الصندوق رهبان وكهنة وأساقفة بملابسهم السوداء، يرددون ألحان وصلوات التجنيز، أمام هيكل الكنيسة الأثرية بالدير، التي ضاقت جدرانها بالموجودين فيها، واستعانت الكنيسة بـ"المراوح الكهربائية" لتلطيف حرارة الطقس.

وخلال ترديد أساقفة الكنيسة، الإنجيل خلال الجنازة، ورفع بخور الصلاة، اتخذ البابا، كرسيًا بجوار الجثمان ليرتاح عليه فهو يعاني من انزلاق غضروفي في الظهر خضع بسببه العام الماضي لجراحة في ألمانيا، قبل أن يأخذ البابا في توزيع نظرات عينيه تارة إلى الأسفل تأثرًا، وتارة إلى الصليب الخشبي الذي يحمله في يده، وبينهما إلى الصندوق المغلق على جثمان الأسقف الذي رسمه رئيسًا لدير أبو مقار في 10 مارس 2013، ولم يعتقد أنه بعد 5 سنوات سيصلي عليه صلاة التجنيز بعد أن يتعرض للقتل في جريمة هزت الكنيسة وتمت في جنح الليل، ووسط ظلمة الكون، في الساعات الأولى من يوم الأحد الماضي، إذ تلقى الأنبا إبيفانيوس، ضربة بآلة حادة على مؤخرة الرأس هشمت الجمجمة وجعلت جزء من "المخ" يخرج منها، حسب تحريات الشرطة الأولية، وتمت الجريمة خارج "قلايته" –مكان سكن الرهبان- وهو في طريقة ذاهب لصلاة تسبحة الليل وصلاة باكر التي تسبق صلوات قداس الأحد.

أخذ البابا يردد الصلاة الربانية حتى وصل لـ"لا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير"، فتجارب عدة خاضها البابا الذي يلاحقه القدر فهو من واجه الإخوان الإرهابيين وشارك في ثورة 30 يونيو وواجه حرق الكنائس واستهداف الأقباط، ولكن إيمانه بأن "الله ضابط الكل" دومًا يشعره بأن من اختاره للكرسي البابوي على غير رغبته في 2012، سينجيه من "الشرير".

وعلى أنغام الألحان الحزينة، التي أخذ يرددها الرهبان وراء معلم الألحان الكنسية إبراهيم عياد، جلس تلاميذ الأسقف الراحل ورهبان الدير البالغ عددهم 150 راهبًا، على الأرض بعد أن لم تتسع مقاعد الكنيسة لجلوسهم، وبدأ عليهم الحزن والتأثر، وهم من تركوا الدنيا بزخرفها والتصقوا بالدير طمعًا وتقربًا للرب، يحيون على نذر الرهبنة "الطاعة والفقر الاختياري والتبتل".

وتعد تلك هي الجريمة الأولى في تاريخ الكنيسة التي تتم داخل أسوار الدير، إذ تمت في السابق محاولات قتل لأساقفة ومطارنة ولكنها خارج أسوارها وقيدت ضد مجهول، ما زاد الغموض حول ملابسات تلك الجريمة التي دفعت الكنيسة للجوء للنيابة والشرطة للتحقيق، وتشريح جثمان الأنبا إبيفانيوس في مشرحة مستشفى دمنهور العام، لبيان سبب الوفاة.

ومنعت الكنيسة الأقباط من حضور الجنازة، بعد أن أغلقت أبواب الدير على الكهنة، ولم يحضر سوى أسرة الأسقف الراحل الذي ترجع جذوره إلى مدينة طنطا بمحافظة الغربية فهو من مواليد 27 يونيو 1954، وحصل على بكالوريوس الطب قبل التحاقة بالدير في 17 فبراير 1984، وكان يشرف على مكتبة المخطوطات والمراجع بكل اللغات في الدير، ويعد من تلاميذ الأب متى المسكين، وهو أشهر رهبان الكنيسة في العصر الحديث.

وعلى غير المعتاد حسب طقوس الكنيسة، لم يرى أحد وجه الأسقف بعد وصوله من المشرحة، ولم يلقى أبنائه عليه نظره الوداع كما هو معتاد في صلوات التجنيز -حسب الاعتقاد المسيحي- نظرًا لما تعرض له من عملية تشريح، إلا أن هذا لم يمنع البابا من تقبيل الصندوق الخشبي الذي وضع بداخله جثمان الأسقف، فيما وقف الحارس الشخصي للبابا خلفه خلال الصلوات من أجل تأمينه وخشية تعرضه لأي مكروه.

{long_qoute_2}

وبعد الصلوات وقف سكرتير المجمع المقدس -الهيئة العليا بالكنيسة-، الأنبا دانيال أسقف المعادي، يشكر المسؤولين بمحافظة البحيرة على الاهتمام الذي أبدوه نحو تداعيات الحادث، وخاصة الأجهزة الأمنية والمخابرات والأمن الوطني، قائلا: "قضوا 3 أيام في الدير للتحقيق في الحادث والتحقيقات لم تنته بعد".

وخشية من حدوث فتنة أو انقسامات داخل الدير بعد مقتل الأسقف الذي سبق وأوصاه البابا حينما رسمه في 2013 بـ"لم شمل الدير"، وجه الأنبا دانيال رسالة للجميع: "نرجو عدم استباق الأحداث ونشر الشائعات، فلا توجد اتهامات واضحة، والتحقيقات مستمرة، والكنيسة تطلب الصلوات لهدوء الدير".

أما البابا، بعيونٍ باكية، ألقى كلمة بعد أن وقف مواجها الصندوق الخشبي الذي يحمل جثمان الأسقف، رافعًا عينيه صوب الحاضرون من رجال الكنيسة، مؤكدًا أن الراحل كان "كوكب مضيء استضاء به المسكونة، وتميز بغزارة المعرفة ووداعة الحكمة وبساطة الحياة"، قائلًا: "إننا أمام هذا المصاب الجلل، نعلم أن الله يضبط الحياة وليس أحد بعيد عن هذا، ونؤمن أن الله يضبط حياتنا بكل تفاصيلها ويضبط ميلادنا ورحيلنا من هذه الحياة، ونؤمن أنه صانع الخيرات، ويظهر شمسه على الأبرار والأشرار، وهو محب للبشر وحتى الخطاه حتى يتوبوا ويستيقظوا قبل فوات الآوان".

وأضاف البابا: "أخونا الحبيب الذي غادرنا بهذا الرحيل المفاجئ، كنا نرى فيه نموذجا مشرقا وكنت استشيره في الكثير من القرارات التي اتخذها، رغم أنني لم أعرفه قبل سيامته أسقفا".

وفي رسالة لقاتليه، قال البابا: "رحيله والمصاب الذي أصاب كنيستنا أمر ليس يسيرًا، لقد اختطف من بيننا، وذهب بعيدًا عن كل أطماع الأرض، فماذا ستجني من وراء الشهوات سوى تراب الأرض".

وخوفًا على الدير الذي تعرض لانقسامات من قبل في عهد البابا شنودة الثالث والصدامات الفكرية بين الكنيسة والأب متى المسكين الأب الروحي للدير، وجه البابا رسالة للرهبان، قائلًا: "أنتم أبناء القديس مقاريوس الكبير ولستم أبناء أحد آخر، احفظوا سلامكم، واحفظوا رهبنتكم، واخرجوا منكم أي انحراف بعيد عن الرهبنة، واحفظوا السلام والهدوء بينكم، ونحن ننتظر نتائج التحقيقات، ولم نصل إلى شيء، وابتعدوا عن أي شائعات، وليس من حق الرهبان الظهور الإعلامي بأي صورة من الصور، فقد انقطعتم عن العالم".

{long_qoute_3}

وبعد انتهاء البابا من عظته، حمل الرهبان "أبيهم" على أعناقهم، يرافق البابا موكبه حتى وضعوه في مستقره الأخير في "طافوس الرهبان" وهي المقبرة التي يدفن بها رهبان الدير الذي تبلغ مساحته 11.34 كم2 شاملة المزارع والمباني التابعة له.

وعند قبره ألقى البابا وصية الأسقف الأخيرة لتلاميذه: "لا تتوانوا عن خدمة الله، اتعبوا في الصلاة، احفظوا ألسنتكم من الوقيعة، أطلب إليكم يا أولادي الأحباء احفظوا أجسادكم طاهرة للرب ولا تتركوا مصابيحكم تنطفئ، وأصنعوا مخافة الله في قلوبكم، الله يشهد أنّي لم أخف شيئًا عنكم من علم الله، وها أنا الآن رحلت عنكم ولم أعد أرى وجوهكم، وصلوا من أجلي في القداسات، وأسال الرب أن يقيم لكم راعيًا يسوس أموركم ويرعاكم".

وكان جثمان الأنبا إبيفانيوس وصل إلى الدير، من مشرحة مستشفى دمنهور العام، صباح اليوم، بعد أن تم تشريحها طبقًا لقرار النيابة العامة بعد العثور عليه مقتولًا يوم الأحد الماضي، وأقيمت قبل صلاة الجنازة، صلاة القداس الإلهي بحضور الجثمان بالكنيسة الأثرية، والتي تولى خدمته بعض أساقفة الكنيسة.

ومن المقرر، أن تجرى انتخابات لاختيار خليفة الأسقف الراحل بين رهبان الدير، تمهيدا لسيامته في نوفمبر المقبل، بالتزامن مع احتفالات الكنيسة بالعيد السادس لتجليس البابا تواضروس على الكرسي البابوي.


مواضيع متعلقة