أحمد سليمان يكتب: الجيزة.. قلب الوطن وأمل السياحة

كتب: أحمد سليمان

أحمد سليمان يكتب: الجيزة.. قلب الوطن وأمل السياحة

أحمد سليمان يكتب: الجيزة.. قلب الوطن وأمل السياحة

عندما القي النهر الخالد بآخر مالديه من مجري فضي مستقيم على الأرض المصرية، وتفرع هادرا بشرياني دمياط ورشيد ليشكل مثلث الدلتا بعد رحلة طويلة تمتد لآلاف الكيلومترات، عبر سهوب وصحاري إفريقيا، في تلك اللحظة الجغرافية الضاربة في جذور الزمن، والتي أورثت أغنى وأقدم الحضارات القديمة "الحضارة المصرية"، عند تلك النقطة "شمال الوادي"، ظهرت إلى النور مدينة الجيزة على الضفة الغربية للنيل.

الحاكم "نعارمر" والمعروف أيضا باسم "مينا"، كان أول حكماء السياسة الذي أيقن أن الحرب وحدها لا تجمع شمل الفرقاء في الوطن الواحد، وبعد أن آتى من الصعيد وأخضع بجيشه الشمال المنفصل، دعى نفسه "سيد الأرضين" واحترم عادات الشماليين وتقاليدهم ورتبهم العسكرية وارتدي تاج مطلي باللونين الأحمر والأبيض يرمز لإقليمي الشمال والجنوب، اختار الملك الموحد بقعه "جيزاوية" خصبه عند قرية ميت رهينة الحالية، وأسس أول عاصمة لدولة مركزية موحدة أطلق عليها "الحوائط البيضاء" ثم "من نفر" في عهد الفرعون بيبي الأول.الجيزة تتمتع بحضور تاريخي مبهر للزائرين من كل الثقافات، حيث تحتضن أهم معالم مصر الأثرية متمثلا في مجموعة أهرامات هضبة الجيزة وأبوالهول، كما أنها علي وشك أن تهدي العالم أكبر وأهم متاحفه علي الإطلاق، "المتحف المصري الكبير" الذي من المتوقع أن يضم - عند افتتاحه قريبا – ما يزيد على 100 ألف قطعة أثرية.

هي أيضا ثاني أهم المدن المصرية، وتتشابك في كرة من النسيج الجغرافي والبشري يصعب تمييز خيوطها لتصنع مع العاصمة "القاهرة" أهم اللحظات التاريخية في عمر الوطن، وتشكل أكبر أقاليمه "القاهرة الكبرى".وبالإضافة إلى 11 مدينة، و9 مراكز، و7 أحياء، تتمتع الجيزة بعمق ريفي متوغل في الوادي الخصب يمتد حتي الواحات البحرية، "قد يندهش البعض حين يعلم أن للجيزة ظهيرا صحراويا في الصحراء الشرقية إلى جانب الغربية بحكم التكوين"، فضلا عن رقعة زراعية شاسعة لتضرب بسهم وافر في إجمالي الناتج القومي من ثروة زراعية وحيوانية وثراء في البيئات الحاضنة للحياة، فهناك البدو والفلاحون وأبناء المدن الذين يشكلون أكثر من 7 ملايين نسمة هم سكان الجيزة، كل يتعايش تحت ظل وطني واحد في سلسال بشري متنوع وممتد عبر آلاف السنوات.

للجيزة من يبكي على حالها أيضا بعد أن نعمت طويلا بمن تغني بكنوزها وفترات ازدهارها من المؤرخين والأثريين والرحالة، فهي عضو في الجسد المصري يتأثر ببقية الأعضاء ويتداعى إليها، تحتاج مديتنا قيادات شابه بعقول مبدعة وعزائم شديدة، ترسم مستقبلا قابلا للتحقق يعتمد على رؤية مغايرة لإدارة المناطق السياحية لتصبح السياحة قاطرة تنمية تقتلع البطالة المستشرية بين أبناء المحافظة، بنسب منذرة بالخطر، قيادات قادرة على المبادرة والاستشراف، فضلا عن تساؤلات تبحث عن حل، منها، لماذا لا يتم الربط، مثلا، بين المتحف الكبير وهضبة أهرامات الجيزة ومنطقة سقارة بخدمة "تلفريك" تختصر المسافة وتوفر متعة أكبر للزائرين؟ لماذا لا يتم تطوير المنطقة المحيطة با أبوالهول وإقامة مسرح عالمي يقدم عروضا درامية كما كان يحدث في العصر الروماني؟الموسم السياحي المقبل يبشر بفرص واعدة وقد يستدعي إذا تحررت الإرادات واستنفرت الإدارات حلولا جذرية مستدامة تخفف معاناة أبناء الجيزة جميعهم وليس ضيوفهم فقط، مواقف السيارات "الميكروباص" صداع مزمن من الممكن التعافي منه بتوفير بدائل علي آلاف القطع الفضاء المتوفرة في الجيزة وبقية مدنها بالاستفادة من قانون نزع العقارات والأراضي للمنفعة العامة مع التعويضات العادلة ، بدلا من الركن العشوائي في الشوارع الحيوية المهمة، "التكاتك" أيضا تتسرب في جسد المدينة كخلايا سرطانية تستشري بشراسة وعشوائية، تشجع علي التسرب من التعليم وتعاطي المخدرات والعزوف عن تعلم الحرف والصنائع، كما أنها تمثل تحد معلن للنظام العام والقانون وربما مصالح غامضة لرجال نافذين يسيطرون على محابس ومفاتيح صناعة النقل واستيراد معداته.

وإذ تتداعي على الذهن هموم الجيزة ومعضلاتها واحدة في ذيل الأخرى عند العرض ومحاولة إيجاد الحلول، في هذه المساحة المختصرة، فان المرء يتساءل أيضا بكل ما يحمل من ضيق وكدر، كيف لعين ألا تدمع، وقلب ألا يجزع، وأمعاء أن تتمغص وهو يشاهد مجاري الصرف الزراعي والصحي تروي الحقول والحدائق ؟؟أقول، كيف لمسئول أن يهنأ بمنامه قرير العين بينما تفتك الميكروبات والجراثيم بأجساد المصريين ؟ إن الأمر ليحتاج إلى معالجة حاسمة لا تخلو من عقاب قاس لكل من يحمل وزر هذه الجريمة من أباطرة الفساد والإهمال.

قد تبدو الصورة عبثية، تختلط فيها أمجاد الماضي وآثاره الشاهدة على عظمة شعب من معدن نفيس، مع أوجاع وهموم راكمتها سنوات من عشوائية الفكر والإدارة، لكن يخطئ من يظن أن الركود هو القدر المحتوم، فالقاريء الجيد لتاريخ هذا الوطن يعي جيدا أنه طالما كان قادرا بأبنائه أن ينهض من الغياهب ويفيق من الغفلات، وأن الزمن دورات متتابعه يصنعها مد وجزر، ليل وفجر، اضمحلال وازدهار، فالمشهد مليء بخيوط الضوء المبشر، الم يخبرنا "ياقوت الحموي" في معجمه أن الجيزة معناها "أفضل موضوع في الوادي" ؟، الم ينجب الجيزة العظيم "محمود مختار" من صنع تمثال نهضة مصر بتبرعات المصريين من كل الطبقات؟، بشرنا أيضا أبناء نزلة "الشوبك" أن "جدار مدينتي لا تهدمه الحروب" كما كتب شاعر يوناني قديم على قدم أبو الهول ، حين هبوا منتفضين ليحصدوا بفئوسهم أكثر من خمسين جنديا من عساكر الاحتلال الإنجليزي في العام 1919عام الثورة المصرية المجيدة ؟ وقدموا بعده ثلاثة وعشرين شهيدا من ابنائهم قضوا تحت وابل من النيران الإنجليزية.


مواضيع متعلقة