«أردوغان» يربح.. وتركيا تخسر

كانت الآمال واعدة فى تركيا كدولة طالعة إلى الحداثة والتقدم، يمكن أن تقدم مثلاً ملهماً لعالمنا العربى والإسلامى، الذى يغرق معظمه فى التردى السياسى والاقتصادى والاجتماعى.

وانتعشت تلك الآمال حينما حقق الرئيس التركى رجب طيب أردوغان إنجازات ملموسة، لا ينكرها منصف، فى عقده الأول فى السلطة، حين كان رئيساً للوزراء، قبل أن تتلاعب به أوهام الخلافة والعظمة السلطانية، وتدفعه إلى منحى استبدادى واضح، يتوسل بنتائج الصناديق، ويغير الدستور، لكى يضمن بقاءه حاكماً بسلطات شبه مطلقة لعقود.

نجح «أردوغان»، كما حدث دائماً فى الانتخابات التى خاضها جميعها منذ 16 سنة، فى الفوز بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية التى جرت فى تركيا فى 24 يونيو الماضى، والتى شهدت أكبر نسبة مشاركة على مدى تسعة عقود، حيث بلغت 87% من إجمالى الناخبين، الذين يبلغ عددهم 56 مليون ناخب.

لقد فاز أردوغان مجدداً بمنصب رئيس الجمهورية، فى انتخابات مهمة واستثنائية، شهدت منافسة غير مسبوقة منذ عقدين، بين تيارات محافظة، وعلمانية، ويسارية، وقومية، وكردية، وإسلامية.

لم ينجح «أردوغان» فى حسم منصب الرئاسة، بعد فوزه بنحو 52% تقريباً من إجمالى أصوات الناخبين، فقط، ولكنه استطاع أيضاً أن يؤمن لحزبه (العدالة والتنمية) الأغلبية البرلمانية اللازمة للهيمنة على البرلمان، بعدما حصد الحزب ما يكافئ 42.5% من الأصوات، وهى نسبة سترتفع كثيراً، لتفوق النصاب المطلوب للهيمنة على المجلس بأغلبية مريحة، حين تضاف إليها المقاعد التى حصدها «حزب الحركة القومية» المتحالف مع أردوغان، ليكون مجموع ما حصده الشريكان نحو 343 من أصل 600 مقعد، بما يضمن هيمنة واضحة وحاسمة على المجلس النيابى.

لقد واجه «أردوغان» منافسة على موقع الرئيس من مرشح حزب الشعب الجمهورى، ذى الخطاب الشعبوى، محرم إينجه، ومرشحة حزب الخير ميريل أكشنير، ومرشح حزب الشعوب الديمقراطى، المسجون حالياً باتهامات أمنية، صلاح الدين دميرتاش، ومرشح حزب السعادة الإسلامى تميل أوغلو، وأخيراً دوغو بيرنتشيك مرشح الحزب الوطنى. لكن هؤلاء المنافسين لم ينجحوا فى زعزعة مكانته أو تعويق حصوله على الأغلبية المطلقة فى الجولة الأولى، بسبب عدم النضج الكافى لتجارب معظمهم السياسية، وتفتت الأصوات، والتمكن الذى بات يتمتع به أردوغان بعد نحو عقدين من العمل السياسى المثمر فى أعلى مراتب السلطة.

لقد فاز «أردوغان» فى انتخابات لا يمكن الإطاحة بصدقية نتائجها، لكن الأكيد أنه تغير، وأن تركيا تغيرت، وأنه بموازاة هذا الفوز، ستُمنى بلاده بخسائر كبيرة.

لقد ربح «أردوغان» المواجهة الأخيرة، لأنه استطاع أن يؤسس سلطة قوية، تحميها قاعدة سياسية، وتحظى بمساندة شعبية، مكّنته من إحراز تقدم ملموس فى ملفات اقتصادية وسياسية عديدة، فضلاً عن امتلاكه «ماكينة انتخابية» مدربة وذات ميراث وخبرات وموارد ضخمة، تستطيع أن تجبر فجوات المنافسة المناطقية والأيديولوجية لصالحه، فى ظل ضعف منافسيه وتفتت الأصوات بينهم.

لكن مع ذلك، فإن فوزه سيقترن بأربع خسائر كبرى، ستدفع تركيا ثمنها لسنوات طويلة.

يربح «أردوغان» الانتخابات، لكن بلاده تخسر طموحها الديمقراطى، فتركيا الآن تعيش ضمن حالة الطوارئ، التى فرضها فى أعقاب ما عرف بالمحاولة الانقلابية الفاشلة فى يوليو 2016.

بسبب حالة الطوارئ وإجراءات أردوغان الخشنة، تواصلت عمليات الاعتقال السياسى، حيث يقدر عدد المعتقلين لأسباب سياسية بنحو 50 ألفاً، وعدد المقالين من سلك القضاء، ومؤسسات أخرى، بنحو 110 آلاف مطرود من الخدمة، كما تتزايد أعداد المحبوسين والمبعدين فى القوات المسلحة والشرطة والتدريس والسلك الجامعى بشكل مطرد.

يفرض «أردوغان» إجراءات ويسن قوانين وينتهج ممارسات مقوضة لحرية الرأى والتعبير، حتى إن بلاده باتت «أكبر سجن للصحفيين فى العالم»، بحسب ما تقول منظمات حقوقية دولية مرموقة.

الخسارة الثانية التى تُمنى بها تركيا، بموازاة فوز الرئيس، تأتى فى المجال الاقتصادى، فبعد النجاحات التى حققها خلال رئاسة الحكومة، لم يشهد أردوغان سوى الإخفاقات الاقتصادية منذ بات رئيساً للجمهورية، وليس أدل على ذلك من تهاوى سعر الليرة التركية، وارتفاع الأسعار المطرد، وزيادة نسبة التضخم إلى 11%، مع الارتفاع المستمر فى أعداد العاطلين.

الخسارة الثالثة التى تُمنى بها البلاد تتعلق بصورة الدولة والحكم ووجاهته، فقد تورط الرئيس فى قضايا فساد، تم الكشف عن تفاصيلها فى أجواء صراعه مع جماعة «خدمة»، حيث تم الكشف عما قيل إنها وقائع فساد تورط فيها الرئيس ونجله بلال، وهى وقائع لا يبدو أن أردوغان نجح فى تبرئة نفسه منها حتى الآن.

أما خسارة تركيا الرابعة، فتتعلق بإخفاق النظام فى الحفاظ على علاقات جيدة ومتوازنة بدول الإقليم والعالم، وبدلاً من الطموح الجامح الذى لخصه أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية الأسبق، فى عبارة «صفر من المشاكل»، باتت تركيا تسبح فى محيط من المشاكل مع العراقيين، والسوريين، والمصريين، والخليجيين، والأوروبيين، والروس، وغيرهم.

«أردوغان» ربح معركة الانتخابات، لكن تركيا تخسر أربع معارك كبرى فى وجوده، وهى خسارة قد تقوده إلى خارج المسرح، وهو خروج لن يكون مشرفاً أو وجيهاً.

يحلو للبعض المقارنة بين أداء الدولة التركية تحت قيادة أردوغان عموماً وبين أداء عدد من الدول العربية والإسلامية الأخرى، ومعظم هؤلاء يجدون فى المقارنة ما يشير إلى تفوق حضارى واقتصادى وتنموى وسياسى كبير لتركيا على حساب الدول الأخرى التى توضع فى المقارنة معها.

وتأسيساً على هذا الواقع يسود الاعتقاد أن توجيه النقد إلى أردوغان، رغم هذا التفوق والنجاح الواضح، إنما يعبر عن انحياز وكراهية وعدم اتساق، لأن «الدول العربية الأقل حظاً فى التنمية والديمقراطية والمكانة أولى بالنقد».

لا يمكن توجيه اللوم إلى هؤلاء النقاد والمتابعين، لكن يجب تذكيرهم أن الحقائق المتعلقة بانهيار الدولة فى سوريا، أو مشكلة الحريات فى السودان، أو الأزمة الاقتصادية فى مصر، أو هيمنة الاستبداد على عدد كبير من الدول العربية، لا تمنع تناول الشأن التركى بشكل موضوعى ومتوازن.

تركيا بلد كبير، يرث إمبراطورية هيمنت لعقود على أجزاء واسعة من العالم، ويتمتع بموارد ضخمة، وقد بدأ تجربة تحديثية ديمقراطية واعدة، كان بوسعها إلهامنا، والآن تلك التجربة تتراجع، ويتم استغلالها لبناء هيمنة استبدادية جديدة، ونحن نشير إلى ذلك، وننتقده، كما ننتقد أنظمتنا ومجتمعاتنا العربية تماماً.