إلى مسئولى «57357».. أَخْرِسونا بالله عليكم

انشغلت كثيراً بالنقاش الذى دار خلال الأيام الماضية حول مستشفى 57357، وأثار لدىّ أفكاراً تتعلق بهذا المستشفى الذى ارتبطنا به وجدانياً، وبمنظمات العمل المدنى القائمة على جمع التبرعات فى مصر عموماً. ولقد صدمتنى فى الحقيقة ردود الفعل على بعض التساؤلات المشروعة التى تدور فى أذهان كثير من المصريين، رغم أن قليلين هم من يجرؤون على البوح بها.

كانت الردود عنيفة، وعصبية، وآلت فى أغلب الأحيان إلى السباب والإساءة الشخصية والتخوين، وهذا ما دفعنى إلى ما رأيته واجباً من الإدلاء برأيى فى الموضوع، لا يتهم ولا يدين طرفاً بقدر ما يتساءل عن طريق لإقناع الناس بالحقيقة، وهذا لا يتحقق بالسباب أو إنكار الاتهامات، بل بدحضها بالدليل والبرهان. وعلى الرغم من أن الموضوعية تبدو أمراً عسيراً فى ظل غياب المنطق عن أجواء النقاش العامة فى مصر، وسيادة الشخصنة والتربص، فإننى فى هذا المقال أدلى برأيى والرزق على الله.

باختصار، ليت كل القضايا التى نواجهها فى مصر تكون بسهولة قضية مستشفى سرطان الأطفال 57357. والموضوع فى كلمتين: لدينا معلومات أو اتهامات محدَّدة، طرحها كاتب له وزنه وتاريخه الوطنى، حول الطريقة التى يُنفق بها مستشفى 57357 التبرعات التى يقوم عليها عمله كاملاً، وحول شبكة العلاقات العائلية القائمة بين كبار الموظفين فى هيكله الإدارى. وهذه الاتهامات إما أن تكون صحيحة وإما أن تكون خاطئة، والفيصل فى ذلك هو المستندات والوثائق الرسمية التى نفترض أنها لا بد أن تكون موجودة.

وبِناءً عليه، فإذا كان الأستاذ وحيد حامد قد وجَّه اتهاماته جزافاً وأثبتت الوثائق كذب ادعاءاته فلن نحزن كثيراً إذا انتصف القضاء لسمعة المستشفى منه. أما إذا كان الرجل مُحقاً فيما كتبه فليتحمل المستشفى وإدارته المسئولية الأخلاقية والقانونية عما ورد فى المقال من معلومات.

أهناك ما هو أبسط من ذلك؟

خلصانة.

اهتمام الناس انصبّ على بنود الصرف، ونصيب كل بند منها، ولم يهتموا كثيراً بالشبكة العائلية التى قال الأستاذ وحيد حامد إنها تحكم المستشفى. ويبدو أن المصريين أصبحوا يتسامحون مع فكرة الاحتكار العائلى للمؤسسات «العامة» ولا يجدونها مبرراً للغضب، على الرغم من أن طبيعة العلاقات العائلية تجعل احتمالات التكاتف من أجل تهوين الأخطاء أو التعمية عليها أو ترتيب الصفقات والمصالح أو التغطية على الفساد (إذا وُجد) أكبر، فقد خلق الإنسان ضعيفاً، قابلاً للاختراق من نقاط ضعف عديدة.

عدم التوازن بين بنود الإنفاق كان مشكلة الناس. فإنفاق 16.4٪ من إجمالى التبرعات فقط على المرضى أقرب إلى مطرقة تهوى مفاجئة على الرأس. زلزلت الضربة المتبرعين الذين اقتطع كثير منهم -راضياً وسعيداً- من نقوده الشحيحة جنيهات أو أكثر لصالح الأطفال المرضى، ليجد أن ما وصل إلى جيب نجوم الإعلان يكاد يقارب ما حصل عليه المرضى، وما وصل إلى جيب العاملين فى المستشفى أكثر. ولا جدال فى حق هؤلاء العاملين فى الحصول على مقابل ملائم لجهودهم، لكن هل هذا التوزيع منطقى؟

المصروفات الإدارية فى كيان مثل مؤسسة ميليندا وبيل جيتس الخيرية لا تزيد على 10%، وهى النسبة الأفضل فى العالم، ولا نريد أن نصل إليها بالطبع. ويمكننا أن نقبل نسبة 20% أو 25% أو حتى 30%، ليذهب 70% من التبرعات إلى الطفل المريض. يا أخى خليهم 65% أو 60%، لكن أن يكون نصيب الطفل المريض 16.4%!! بأى منطق؟! أفحمونا بالمستندات يا إدارة المستشفى أكرمكم الله، يا رب تُفحمونا وتُخرسوا ألسنتنا. ليت أنَّا نفترى عليكم، فأخْرِسونا. وسنُقبِّل الأقدام ونبدى الندم ولن نزور وحيد حامد (بدون الأستاذ) فى سجنه حين يقتص منه القضاء العادل.

أَخرِسونا يا سادة، فالمصرى الذى تصفعه الخطوب كل يوم يتوازن مع نفسه ومع ارتباكه باقتطاع قروش من جيبه لفعل الخير. داخل كل مصرى، ومهما بدا من سيئاتنا التى نجلد أنفسنا بها، تكمن الرغبة فى المساعدة وفعل الخير. هذا موروث التدين والإنسانية فينا، وهو أقوى من أن تهزمه النوازل. وفى آلاف القرى فقراء يعولون فقراء، ومعدمون يقتطعون من قوتهم لقمة للجار الذى يتصورونه أكثر بؤساً. وصاعقة 57375 تضرب موروثهم هذا فى الصميم، وتنهى ثقةً جاهدوا لإبقائها داخل أنفسهم فى بعض مؤسسات مصر.

فلوس الدولة واعتدنا استحلالها ممن لا ضمير لهم، ولله الأمر. أما فلوس التبرعات، فلا. منطق معيب؟ نعم، لكنّ له وجاهته.

الحالة العامة التى رصدتُها تميل غالباً إلى تصديق اتهامات الأستاذ وحيد حامد (أو مزاعمه إذا أردتم)، وليس ذلك من فراغ، فقد كان هناك فأر يلعب فى عبّ كثيرين، ولكنهم كانوا يضعون المصيدة فى العبّ الضيق ويستعيذون بالله من بعض الظن الذى هو إثم، ويلوذون بتفكير هو إلى التمنى أقرب. وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، وإعلاناً بعد إعلان، ونجماً بعد نجم، تكاثرت الفئران فى العبّ. وفى رمضان الأخير لم تعد الفئران تلعب، بل تنهش. وحين كتب وحيد حامد كان أغلب الناس جاهزين لقول «آمين».

يُفترض فى العمل الخيرى يا سادة أن تكون له ضوابطه الأخلاقية المستمدَّة من روحه، وليس البذخ فى الإنفاق على التسويق المستفز، مثلاً، من بين الأعمال التى تتفق وروح العمل الخيرى. والرد على الأستاذ وحيد حامد بالسباب ليس منها أيضاً. وإذا كانت 57357 قد توسلت بالإعلانات فى البداية طريقاً، فإن من الخطأ أن تعتبرها الإدارة سر نجاحها، لأن الأساس كان الرسالة التى بدأ بها المستشفى، والأطفال الذين يعالجهم من مرض قاتل ومخيف.

التسويق، يا سادتنا، فى 57357 أقرب إلى الملح الذى يفيد استخدامه فى الطعام بمقدار ضئيل، أما أن يصبح الملح أساساً للوجبات فإنه يجعل منها عقوبة مؤذية، وربما قاتلة. ونحن نزدرد من تسويقكم، يا سادتنا، مِلحاً أجاجاً منذ وقت ليس بالقليل. وإن من فتح الأبواب يغلقها، فأغلقوا باب التوجس والتشكك.

لعلنا مخطئون فأخْرسونا، لأن الأمر لم يعد يتعلق بمستشفى، بل بثقة المصريين فى مؤسسات بلدهم. لقد ارتبطوا بالمستشفى رمزاً، وسقوط الرموز مدوٍّ ومرير.

الحديث عن 57357 يتصاعد للأسف، وتُتناقل حكايات عن مناقصات تفوز بها شركات بعينها، وعن مكافآت وأموال تدخل بعض الجيوب وفقاً لقواعد لا يعلمها إلا واضعوها. وربما يختلط الصدق بالكذب فى ظل أجواء التخمينات والرجم بالغيب، وتتضخم الحكايات، فأَخْرِسوا الشائعات بالوثائق، والحقائق.

ومن قبل ذلك وبعده فإن الدرس بسيط يا سادة: المؤسسة التى تقوم على تبرعات الناس يجب أن تكون حساباتها متاحة للناس. هذا حقٌ لهم بوصفهم مساهمين، لكنهم لا ينتظرون أرباحاً من شركتهم، بل استخدام تبرعاتهم على نحو ملائم. وكلُّ أموال تُنفق دون رقابة عُرضة للشبهة.

ليس تجاوزاً فى حق أحد أن يطالب أى مصرى مهتم بالشأن العام بعرض القوائم المالية المفصلة بالإضافة لملاحظات المحاسب القانونى، ووضع ضوابط تضمن عدم تعارض المصالح، والإعلان عن كل المناقصات والمزايدات وضمان إجراءات شفافة للمتقدمين، ووضع معايير واضحة لشغل الوظائف بمختلف مستوياتها، والتأكد من سلامة كل الإجراءات فى المستشفى. وهذه كلها أمور بديهية.

فلنضع الضوابط الرقابية المُحكمة، ولنُسند المهمة إلى جهات قادرة على ممارسة عملها بكفاءة ونزاهة، ولنستعِدْ ثقة الجماهير التى تترنح الآن. ولنبدأ ذلك سريعاً، أياً كانت النتيجة التى ستنتهى إليها القضية الحالية.