العقوبات الأمريكية.. أسلحة فتاكة تقتل ولا تريق دماء

كتب: سيد جبيل

العقوبات الأمريكية.. أسلحة فتاكة تقتل ولا تريق دماء

العقوبات الأمريكية.. أسلحة فتاكة تقتل ولا تريق دماء

 باتت كلمة «العقوبات الاقتصادية» واحدة من أكثر الكلمات تكراراً وتداولاً فى نشرات الأخبار بعد أن توسعت إدارة الرئيس الأمريكى «ترامب» فى استخدامها لإخضاع كل من يتخذ قراراً يتعارض مع مصالحها، حتى لو كانت هذه الدولة حليفاً للولايات المتحدة مثل الاتحاد الأوروبى وكندا. كيف تحولت العقوبات للسلاح المفضل لواشنطن لتركيع أعدائها وإرهاب حلفائها؟ وكيف تحولت هذه الأداة، التى استخدمها كفار قريش ضد رسول الله ومن آمنوا به فى العام السابع من البعثة عام 617 ميلادياً، إلى سلاح دمار شامل قادر على ارتكاب «إبادة جماعية» فى بعض الحالات؟ ولماذا تنفرد الولايات المتحدة، التى قررت مؤخراً فرض عقوبات جديدة على الصين وروسيا وإيران والإبقاء على عقوباتها على كوريا الشمالية، بالقدرة على فرض العقوبات على كل دول العالم؟ ولماذا لا تعاقبها إحداها؟ أسئلة نحاول الإجابة عنها فى التقرير التالى.

 {long_qoute_1}

مفهوم العقوبات الاقتصادية، التى تعنى ببساطة حصار دولة بهدف تجويعها وتركيعها، موجود على الأقل منذ عهد الإغريق، عندما فرضت «أثينا» حظراً تجارياً على جارتها «ميجارا» فى عام 432 قبل الميلاد.

كما أن قبائل قريش التى لم تؤمن برسالة الإسلام لجأت إلى سلاح المقاطعة للمسلمين فى العام السابع من البعثة، أى نحو عام 617 ميلادياً، ولمدة 3 سنوات، حتى أكلوا ورق الشجر، وجلود البعير. وقال ابن عباس: فحُصرنا فى الشعب ثلاث سنين، وقطعوا عنا الميرة (أى الطعام ونحوه مما يُجلب للبيع)، حتى إن الرجل منا ليخرج بالنفقة فما يبايع حتى يرجع، حتى هلك منا من هلك». ويقول د. نعيم أسعد الصفدى، أستاذ فى الجامعة الإسلامية فى دراسة بعوان «الصبر والثبات فى مواجهة الحصار.. دراسة تطبيقية على حصار قريش للنبى ومن معه»: «وكانت المقاطعة للنبى ومن معه من بنى هاشم وبنى المطلب شاملة لجميع النواحى الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، حيث كان من بنودها: ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يؤووهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، وأن لا يكون بينهم وبينهم شىء، وقطعوا عليهم الأسواق، فلا يتركون طعاماً يدنو من مكة ولا بيعاً إلا بادروا إليه ليقتلهم الجوع، ولا يُدخلوا إليهم شيئاً من الرفق، وقطعوا عنهم الأسواق ولم يتركوا طعاماً ولا إداماً ولا بيعاً إلا بادروا إليه واشتروه دونهم، ولا يناكحوهم ولا يقبلوا منهم صلحاً، وتضوروا جوعاً وعطشاً وعُرياً ولحقتهم مشقة عظيمة، وقد سُمع أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب. ومن شدة الجوع لم يجد الصحابة ما يأكلونه إلا ورق الشجر، وبعضهم وجد قطعة جلد بعير فقوى بها ثلاثة أيام».

لكن استخدام العقوبات يتزايد بشكل ملحوظ نتيجة تحول العالم إلى قرية صغيرة يحتاج فيها كل بلد البلدان الأخرى، فقد فرض مجلس الأمن العقوبات الاقتصادية مرتين فقط فى الفترة بين عامَى 1945 و1990، (روديسيا الجنوبية وجنوب أفريقيا)، لكنه فرض عقوبات 27 مرة فى الفترة من 1990 وحتى 2007 على دول منها العراق وليبيا وهايتى والسودان ويوغوسلافيا، وجهات غير حكومية مثل الخمير الحمر فى كمبوديا، وطالبان فى أفغانستان، وجماعة يونيتا فى أنجولا. ومنذ أوائل التسعينات، فرضت الولايات المتحدة وأوروبا وغيرهما من الاقتصادات المتقدمة، وفقاً لـ«موقع وورلد فاينانس»، عقوبات على الدول الأخرى أكثر من 500 مرة. وظلت الولايات المتحدة أكثر دول العالم استخداماً لهذا السلاح. ووفقاً لدراسة صادرة عن الدكتور «مايكل بى ما لوى»، من جامعة المحيط الهادئ، فرضت أمريكا العقوبات 125 مرة ضد 47 دولة فى الفترة بين 2002 و2006. وفى الفترة من 2001 إلى 2006 زاد الاتجاه لفرض عقوبات على أفراد وجماعات وليس دولاً. وزاد استخدام العقوبات بشكل مطرد منذ التسعينات، وهى الفترة الذى سُميت «عقد العقوبات».{left_qoute_1}

تاريخياً، استُخدمت العقوبات من قبَل مجلس الأمن لتحقيق عدة أهداف لخصها الباحث الجزائرى «قردوح رضا» فى رسالة أعدها لنيل الماجستير من جامعة باتنة، بعنوان «العقوبات الذكية.. مدى اعتبارها بديلاً للعقوبات الاقتصادية وعلاقتها بحقوق الإنسان»، منها «محاولة تعديل سلوك عدوانى، كما حدث فى العراق وفى هايتى للمساعدة على استعادة القادة المنتخبين ديمقراطياً، وضد حركة طالبان فى أفغانستان لمعاقبة وردع الإرهاب، وضد حركة يونيتا لإجبار المتمردين على الامتثال لاتفاق السلام فى جمهورية الكونغو الديمقراطية، وفى روديسيا الجنوبية وجنوب أفريقيا والصومال وغيرها لفرض تغيير فى السياسات الداخلية للدول وحثّ حكوماتها على التخلى عن سياسات التمييز العرقى ووقف الجرائم ضد الإنسانية وحماية حقوق الإنسان ومنح الشعوب حق تقرير المصير، فى حين نجد أن القضية الليبية ذات طابع فريد، فكان الهدف من العقوبات هو إجبار القيادة الليبية على تسليم مواطنَيها المشتبه فيهمها فى قضية تفجير طائرة أمريكية وتخليها عن دعم الإرهاب».

وتوسعت الولايات المتحدة والدول الكبرى، وفقاً لـ«قردوح رضا»، فى استخدام العقوبات لتحقيق أهداف سياساتها الخارجية، فاستخدموها بعيداً عن مجلس الأمن لـ:

1- تغيير سياسات الدول المستهدَفة بالعقوبات تغييراً جذرياً، وذلك بإجبارها على الانتقال من توجه سياسى وأيديولوجى إلى توجه آخر، أو إعادة تشكيل النظام السياسى برمته. استُخدمت العقوبات نحو 15 مرة من الحرب العالمية الأولى لتغيير النظام أو الضغط عليه. وبالفعل ساهمت العقوبات فى الإطاحة بالرئيس البرازيلى «جواو جولار» 1964 والرئيس التشيلى سلفادور ألليندى فى العام 1973، ولكنها فشلت أمام فيدل كاسترو فى كوبا الذى قاوم لـ4 عقود بسبب دعم أطراف عدة.

2- تغيير سياسات الدول المستهدَفة بالعقوبات تغييراً جزئياً، كمنع دولة ما من امتلاك سلاح نووى. وقد فرضت أمريكا وكندا فى سبعينات وثمانينات القرن الماضى عقوبات على باكستان والهند لمنعهما من تطوير سلاح نووى، وفشلت العقوبات فى تحقيق هذا الهدف، لكنها نجحت فى إثناء دول أخرى مثل كوريا الجنوبية.

3- كثيراً ما استخدمت الولايات المتحدة العقوبات بذريعة حماية حقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب، ومن أمثلة ذلك العقوبات التى فُرضت على ليبيا وسوريا والعراق واليمن الجنوبى وكوبا وكوريا الشمالية وإيران والسودان وأفغانستان. وفى أعقاب هجمات 11 سبتمبر فرضت عقوبات على شبكة واسعة من كيانات إرهابية وليست دولاً.

4- إجهاض مغامرات عسكرية، حيث تم تسجيل 11 حالة بين عامَى 1914 و1940 أسفرت عن نتائج متفاوتة، حيث نجحت فى إجبار اليونان على التراجع عن غزو بلغاريا فى 1925، لكنها فشلت فى إجبار إيطاليا على الخروج من الحبشة فى الثلاثينات، وبقيت القوات التركية فى قبرص منذ غزوها فى 1974. وفى عام 1956 ضغطت الولايات المتحدة بسلاح العقوبات على الفرنسيين والبريطانيين لسحب قواتهما من منطقة قناة السويس.{long_qoute_2}

5- القضاء على القدرات العسكرية للدولة المستهدفة، حيث فرضت الولايات المتحدة والغرب تقييد الصادرات الاستراتيجية للاتحاد السوفيتى والصين لمنع، أو تأخير، التقدم التكنولوجى لأسلحتهما، وكذلك العقوبات الاقتصادية للعراق 1990، ثم لاحقاً العقوبات الاقتصادية على إيران.

6- إجبار بعض الدول على تسليم مطالبات اقتصادية محددة لها أو لبعض رعاياها، فاستخدمت الولايات المتحدة العقوبات لهذا الغرض 9 مرات فى الفترة بين 1945 و1990 منها العقوبات التى فرضتها على إثيوبيا فى 1976 والعقوبات التى فرضتها مع بريطانيا ضد إيران فى عهد حكومة مصدق فى أوائل الخمسينات.

فلسفة العقوبات، أوضحها الرئيس الأمريكى الأسبق ودرو ويلسون فى خطاب له فى مدينة إنديانابوليس عام 1919 قائلاً: «الأمة المعاقبة هى أمة سائرة إلى الاستسلام. بتطبيق هذا العلاج الاقتصادى السلمى، الصامت، القاتل لن تكون هناك حاجة لاستخدام القوة، فهو علاج رهيب لا يكلف حياة خارج الأمة المستهدفة، ولكنه يضع الضغط على هذه الأمة. وفى رأيى، لا توجد دولة حديثة يمكنها أن تقاومه».{left_qoute_2}

وتوضح أستاذة العلوم السياسية الأمريكية «جوى جوردن» فى كتابها «الحرب الخفية.. الولايات المتحدة والعقوبات المفروضة على العراق»، أن العقوبات كانت تُعد طريقاً وسطاً، فهى أداة ضغط، أكثر قوة من الدبلوماسية وأقل عدواناً من الحروب العسكرية، لكن العقوبات ظلت، على قسوتها، محدودة الأثر لتعدد الأقطاب فى العالم، ما يعنى وجود اختيارات أمام الدول المُعاقبة، فمثلاً عانت كوبا تحت الحظر والعقوبات الاقتصادية الأمريكية لفترة أطول من أى بلد آخر على هذا الكوكب، إذ فرضت إدارة الرئيس أيزنهاور مجموعة من العقوبات الاقتصادية على هذه الجزيرة الصغيرة فى عام 1960 بعد أن نجحت الثورة الكوبية فى إسقاط حكومة «فولجنسيو باتيستا» التى تدعمها الولايات المتحدة، ورد الثوار بتأميم الشركات والمؤسسات الأمريكية التى كانت تعمل فى كوبا. ساءت العلاقات بين هافانا وواشنطن بعد عامين عندما تحدى فيدل كاسترو واشنطن وأقام علاقات وثيقة مع الاتحاد السوفيتى. ورداً على ذلك، فرضت إدارة كيندى عقوبات اقتصادية كاملة لأكثر من 40 عاماً. هذه العقوبات على قسوتها كانت محدودة الأثر، فضلاً عن فشلها فى الإطاحة بكاسترو، بسبب دعم الاتحاد السوفيتى له.

لكن مع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى فى بداية التسعينات، انفردت الولايات المتحدة بحكم العالم، ما حوّل العقوبات إلى أداة قاتلة بعد اختفاء أى بديل من الممكن أن تلجأ إليه الدول المحاصرة. وكانت العراق أوضح مثال على دموية العقوبات الأمريكية فى عالم القطب الواحد. كانت تجربة العراق نقطة فاصلة فى نظرة العالم لهذه الآلية. قبل العام 1990 كان الرأى العام العالمى يؤمن لفترة طويلة بأن العقوبات وسيلة غير ضارة لإجبار دولة ما على تغيير سلوكها.

فى كتابها «الحرب الخفية» كشفت أستاذة العلوم السياسية الأمريكية «جوى جوردن» فساد الاعتقاد السائد بأن العقوبات وسيلة سلمية وغير مؤذية، وهو ما أدى لشعور بعدم اللامبالاة تجاه أدلة متزايدة على الظلم الناتج عن معاقبة شعب كامل على تجاوزات قادته. وتوضح الكاتبة: لم يتخيل أحد أن تنتهك العقوبات الاقتصادية حقوق الإنسان وتصبح شكلاً من أشكال الإبادة الجماعية، عندما فُرضت العقوبات لأول مرة على العراق عام 1990. إذا فرضت الدول ذات الأحجام المماثلة عقوبات على بعضها البعض، كما كان الحال مع الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، فإن التأثير يكاد يكون رمزياً. وإذا فرضت الولايات المتحدة عقوبات على دولة صغيرة، مثل كوبا، عندئذ يمكن للأمة المستهدَفة أن تحول تجارتها إلى الكتلة السوفيتية. وبالتالى، فإن العقوبات الاقتصادية خلال الحرب الباردة لم تكن أبداً مدمرة. وكان يُنظر للعقوبات على أنها «طريق وسط» بين الحرب والدبلوماسية.

وتتابع «جوردن» فى كتابها: «لم تكن العقوبات فقط تبدو غير ضارة، لكن بدت جذابة بعد نجاحها فى إنهاء مأساة السود فى جنوب أفريقيا. فى هذه التجربة الفريدة طالب السكان السود بفرض عقوبات على جنوب أفريقيا، رغم أنهم الأكثر تتضرراً منها، كعمل من أعمال التضامن الدولى معهم، فى كفاحهم ضد نظام الفصل العنصرى. ومع تزايد الضغوط استجاب هذا النظام فى النهاية وأفسح الطريق للديمقراطية. أكسبت هذه التجربة سلاح العقوبات احتراماً وتقديراً وقبولاً عالمياً. لكن جنوب أفريقيا كانت استثناء فى كل شىء، لأنه من النادر أن يدعم مواطنون عقوبات تُفرض على بلدهم، ونادراً ما تنجح العقوبات فى إقناع دولة ما بتغيير ممارساتها. على العكس من ذلك، فإن الاستجابة الأكثر شيوعاً للعقوبات هى العناد والتفاف الشعب حول قادته وعلَم بلاده فى مواجهة ما يعتبرونه عدواناً من قوة أجنبية. علاوة على ذلك، وجدت أكثر الدراسات تفاؤلاً بالعقوبات فى القرن العشرين أن نسبة نجاح العقوبات فى تحقيق أهدافها لا تتجاوز الثلث، أى نحو 30%. وإذا نظرنا إلى عدد الحالات التى كانت فيها العقوبات بوضوح العامل الحاسم فى تغيير سياسات الدولة، فإن النسبة لا تتجاوز 5٪».

ومع ذلك، وفقاً لكتاب «الحرب الخفية»، ظل تأثير نجاح العقوبات الاستثنائية فى قضية جنوب أفريقيا كبيراً، إذ بات العالم ينظر للعقوبات الاقتصادية على أنها أداة فعالة وغير عنيفة نجحت فى إحداث تغيير ديمقراطى. ومن هذا المنطلق، تحمّس للعقوبات كل من عارض التدخل العسكرى لإجبار صدام حسين على الانسحاب من الكويت التى احتلها فى العام 1990. لكن الكثيرين ممن دعوا لهذه الوسيلة غيّروا رأيهم فى وقت لاحق، ليس فقط لأنهم رأوا العقوبات قد سببت معاناة هائلة لشعب العراق فى وقت لاحق، ولكن أيضاً لأنه بدا، فى وقت لاحق، أن إدارة جورج بوش الأب فرضت العقوبات فقط كإجراء وسيط، أى لوضع الأساس للغزو العسكرى. لقد غيرت العقوبات المفروضة على العراق وجهات نظر العديد من نشطاء السلام والمنظمات التى بدأت تراها «مصيدة للحرب» وليس «عتبة للسلام».

{long_qoute_3}

كانت العقوبات ضد العراق مختلفة عن كل ما كان يُرى من قبل. كانت شاملة من كل الوجوه. ولأن هذه العقوبات فرضها مجلس الأمن، فقد كانت ملزمة لكل عضو فى الأمم المتحدة، ولم يكن أمام العراق خيار تحويل التجارة إلى كتلة أخرى. ولم تقتصر العقوبات على الأسلحة أو السلع الاستراتيجية، ولكنها أثرت على الاقتصاد بأكمله. ولأن العراق كان يعتمد، إلى حد كبير، على صادرات النفط فى دخله، وعلى الواردات لكل جزء من اقتصادها وخدماتها الاجتماعية، فقد كان عرضة لهذه التدابير بشكل خاص. ووفقاً لشهادة وليام ويبستر، مدير وكالة الاستخبارات المركزية (سى آى إيه) أمام الكونجرس فإن العقوبات «أدت إلى وقف أكثر من 97% من الواردات و90% من الصادرات. كانت جهود العراق للتغلب على العقوبات غير ناجحة إلى حد كبير». تشير التقديرات إلى أن العقوبات كانت مسئولة بشكل مباشر عن وفاة مليونَى شخص، نصف مليون منهم من الأطفال بحسب منظمة اليونيسيف. ولم تُرفع العقوبات إلا بعد الغزو الأمريكى البريطانى للعراق عام 2003.

اتجه المجتمع الدولى، كما يؤكد قردوح رضا فى كتابه، فى أعقاب تجربة العراق القاسية وبداية من نهاية التسعينات إلى تطبيق ما يُعرف بالعقوبات الذكية. لم يفرض مجلس الأمن العقوبات الشاملة منذ العام 1994 ومن غير المرجع أن يستخدمها مرة ثانية، إذ حلت محلها العقوبات الذكية. فمثلاً فى أفغانستان تم تجميد الأصول وحظر استخدام الأسلحة، وفى السودان خلال أزمة دارفور حظر سفر وحجز الأرصدة والودائع المالية والأسلحة، وفى كوريا الشمالية تم استهداف الزعيم الكورى وبرنامجها النووى وتجميد الأموال والأصول والموارد الاقتصادية للأفراد والأسر المرتبطة بأسلحة الدمار الشامل. أحدث محاولة لمجلس الأمن لإقرار العقوبات الذكية كانت ضد إيران فى 2007 وتم تجديدها فى 2010 لرفضها تعليق أنشطتها النووية.

ويشرح الباحث الجزائرى فى كتابه: مع تزايد إدراك المجتمع الدولى للآثار الخطيرة للعقوبات الاقتصادية فى أواخر التسعينات، خصوصاً فى الحالة العراقية، بدأ التفكير فى مفهوم العقوبات الذكية، والمقصود به حصر آثار العقوبات على زعماء الدول ومن يعاونهم وتقليل الأثر على الشعوب. جاءت استعارة تعبير «العقوبات الذكية» من الأسلحة الذكية التى تصيب الأهداف بدقة من دون تأثير على أشخاص أو أهداف ليست مقصودة بالعقوبات أصلاً، لذلك العقوبات الذكية مثل «القنابل الذكية التى تهدف إلى تركيز أثرها على القادة والنخب السياسية وشرائح المجتمع التى يُعتقد أنها مسئولة عن السلوك المكروه مع الحد من الأضرار الجانبية على السكان بصفة عامة»، وعادة ما تتمثل العقوبات الذكية فى التدابير التالية:

- تجميد أصول الأموال الخاصة بالحكومة وبأعضاء النظام الحاكم.

- تطبيق حظر تجارى على الأسلحة والسلع الكمالية غالية الثمن وما شابهها.

- فرض عقوبات أو حظر سياسى بهدف وصم الدولة المستهدفة بالعار وفرض عزلة دبلوماسية عليها.

- الحرمان من السفر إلى الخارج وتأشيرات الدخول وفرص التعليم لأعضاء النظام وأسرهم.

- منع أو الحد من الوصول إلى الأسواق التجارية والمالية العالمية فى الخارج.

- تعليق أو وقف القروض والمساعدات من الحكومات الوطنية والمنظمات متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة والبنك الدولى وصندوق النقد، وتقييد أو منع الوصول إلى الأسواق المالية الدولية وفرض حظر على تدفقات رؤوس الأموال الراغبة فى الاستثمار فى الدول المستهدفة.

{left_qoute_3}

ومع تولى الرئيس دونالد ترامب الرئاسة اتجهت الولايات المتحدة للإسراف فى استخدام العقوبات حتى ضد حلفائها مثل الاتحاد الأوروبى وكندا والمكسيك. لكن تأثير العقوبات يكون كارثياً فقط مع الدول الضعيفة، لأن الدول القوية أقل احتياجاً لغيرها. ووفقاً لتقرير مطول لموقع «وورلد فاينانس»، فإن العقوبات الاقتصادية أثبتت نجاحها فى حل عدد من القضايا السياسية ذات الأهمية العالية. على سبيل المثال، لعبت العقوبات الاقتصادية دوراً حاسماً فى جلب إيران إلى طاولة المفاوضات حول طموحاتها النووية وإقناع القيادة الإيرانية بالامتثال للحدود المفروضة على برنامج تخصيب اليورانيوم.

قال ديفيد كورترايت، مدير الدراسات السياسية فى معهد كروك لدراسات السلام الدولية، لـ«وورلد فاينانس»: وعلى الرغم من هذه النجاحات، فإن العقوبات لم تحقق أهدافها فى مناسبات عديدة. من الصومال ورواندا فى أوائل التسعينات إلى القيود الحالية على كوبا وروسيا، أثبتت العقوبات الاقتصادية فى نهاية المطاف أنها غير فعالة عندما تكون المشاركة الدولية محدودة فى التدابير. وأوضح كورترايت: «فى الحالات التى يكون فيها البلد المستهدَف لديه خيارات تجارية أخرى (وهو ما يحدث دائماً فى الوقت الحاضر) مع نمو حجم التجارة والاستثمار العالميين، لا يكون للتدابير الانفرادية أى تأثير حقيقى... فالعولمة تعنى أن الدولة المستهدَفة يمكنها ببساطة تحويل تركيزها الاقتصادى إلى أسواق جديدة وشركاء تجاريين، وتجاوز العقوبات والحفاظ على مستوى صحى من التجارة. وقد أدى هذا الموضوع من عدم المشاركة إلى تقويض العقوبات الغربية الحالية المفروضة على روسيا إلى حد كبير، حيث إن البلاد لا تزال حرة فى التجارة مع بعض أكبر الاقتصادات الآسيوية».

وتابع: «على الرغم من أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى يدعمان العقوبات، هناك العديد من الاقتصادات الكبرى الأخرى -مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية- التى لا تشارك فى العقوبات». وقال كريستوفر ديفيس، المحاضر فى السياسة الروسية فى شرق آسيا، وأستاذ الاقتصاد فى جامعة أكسفورد: «حساباتى هى أن المشاركين فى العقوبات لديهم إجمالى ناتج محلى يبلغ 42 تريليون دولار، فى حين أن غير المشاركين لديهم إجمالى ناتج محلى يبلغ 31 تريليون دولار». بفضل هذه الشراكات التجارية الآسيوية المزدهرة، أنشأت روسيا فعلياً حصناً اقتصادياً ضد العمل الغربى، لكن تظل المشكلة كبيرة للدول الأضعف اقتصادياً، إذ تم استهدافها حتى بعقوبات ذكية. ووفقاً للباحث الجزائرى فإن العقوبات الذكية تسببت أيضاً فى نتائج كارثية للشعوب. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، منها زيمبابوى، التى فُرضت عقوبات ذكية على أعضاء الحكومة والحزب الحاكم (الجبهة الوطنية) فيها منذ 2001 لاتهامهم بانتهاك حقوق الإنسان وحقوق الملكية وعدم احترام سيادة القانون. ألزمت هذه العقوبات صندوق النقد والبنك الدولى والبنك الأفريقى للتنمية بعدم تقديم أى قروض أو ضمانات حكومية دون موافقة رئيس الولايات المتحدة، ما أثر بشدة على قدرة الحكومة على إعادة جدولة قروضها، ما أدى لمزيد من الضرر للاقتصاد، وانعكس ذلك على المواطن العادى الذى لم يتمكن من مواجهة مستويات التضخم التى ارتفعت على مدار الساعة لتصبح واحدة من أكبر حالات التضخم فى التاريخ بحلول عام 2005، واضطرت الحكومة لتعليق العمل بالدولار الزيمبابوى بداية من 2009 لأنه أصبح لا قيمة له وأعلنت عن استخدام الدولار الأمريكى والراند الجنوب أفريقى، واضطر المواطنون لاستخدام أسلوب المقايضة لندرة هاتين العملتين (كان الطلاب مثلاً يسددون الرسوم بالفول والسكر وغيرهما من السلع)، وتراجع إنتاج الغذاء بنحو 60%، وأصبح ما يقرب من 75% من سكان زيمبابوى (نحو 12 مليوناً) يعيشون على المساعدات الغذائية بعد 8 سنوات من العقوبات الذكية.

فى حالة كوريا الشمالية قفزت معدلات وفيات الرضع والأمهات بأكثر من 30% من 1993 إلى 2008، وانخفضت متوسطات الأعمار بمقدار ثلاث سنوات. وأكد برنامج الأمم المتحدة للغذاء العالمى أن واحداً من كل 3 أطفال تحت سن الخامسة هناك يعانون من سوء التغذية، وأن الحالة الاقتصادية تسير من سيئ لأسوأ. وتعانى إيران من عقوبات أمريكية منذ ديسمبر العام 2006، ولاحقاً من عقوبات فرضتها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى 2010، فمع زيادة عائدات النفط ظل النظام فى مكانه، بينما «العديد من الشركات متعددة الجنسيات غادرت البلاد والشركات المحلية من القطاع الخاص تجد صعوبة بالغة فى العمل فى بيئة عمل غير مستقرة والبعض منها على حافة الإفلاس بسبب تقلبات كبيرة فى قيمة العملة الوطنية، فالعقوبات عملت على خنق بيئة الأعمال التجارية فى إيران نتيجة هروب رأس المال الخاص والركود إضافة للتضخم وعدم كفاية احتياطات النقد الأجنبى».

ووفقاً لهانى منصوريانا، الأستاذ بجامعة كولمبيا الأمريكية، فى مقال بعنوان «التكلفة الإنسانية للعقوبات المفروضة على إيران» فإن «تاريخ العقوبات يوضح أن الحكومات غير الديمقراطية من غير المرجح أن تدفعها الضغوط الاقتصادية إلى خفض الإنفاق فى المجالات التى تراها ضرورية للحفاظ على سلطتها مثل برامج الدفاع والاستخبارات، بل ستتجه عادة نحو تخفيضات اقتصادية فى قطاعات مثل التعليم والرعاية الصحية، والاقتصاد الإيرانى غير قادر على خلق فرص العمل بالمعدل اللازم لتلبية الطلب المتزايد، والعقوبات لن تؤدى إلا إلى تفاقم هذا الوضع».

ويبقى السؤال: لماذا لا تبادر دول العالم الأخرى بمعاقبة الولايات المتحدة؟ الإجابة ببساطة أن أمريكا هى صاحبة أكبر اقتصاد فى العالم، وبالتالى لا يستطيع إلا عدد محدود جداً من الدول الكبرى، مثل الصين، أن تجاريها فى قدرتها على الرد بالمثل، فضلاً عن المبادرة بفرض العقوبات. والإجابة الأكثر تفصيلاً عرضتها مجلة «تايم» الأمريكية تحت عنوان «هذه هى الأسباب الخمسة وراء بقاء الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة فى العالم»: الاقتصاد الأمريكى هو الأكبر فى العالم، ويمثل حجر الأساس للنظام المالى العالمى. ويتم تنفيذ أكثر من 80٪ من جميع المعاملات المالية و87٪ من معاملات سوق العملات الأجنبية فى جميع أنحاء العالم بالدولار. ولا يزال التفوق العسكرى لأمريكا لا مثيل له. ويبلغ نصيبها من الإنفاق العسكرى العالمى 37٪ بأرقام العام 2013، وتنفق أكثر من 4 أضعاف ما تنفقه الصين على جيشها. وتهيمن الولايات المتحدة عسكرياً على العالم عبر البر والبحر والجو والفضاء. وما زالت أمريكا أكبر مانح للمساعدات الخارجية فى العالم، ففى عام 2013، قدمت الولايات المتحدة مساعدات مالية بقيمة 32.7 مليار دولار. تمتلك الولايات المتحدة أقدم دستور وطنى عام فى العالم، بالإضافة إلى مؤسسات قوية وسيادة القانون. وتُظهر الأرقام جاذبية دائمة لهذا النظام: فهناك 45 مليون شخص يعيشون فى الولايات المتحدة اليوم وُلدوا فى بلد أجنبى، ما يعنى أن أمريكا تظل المكان المثالى لبدء حياة جديدة. من بين أكبر 9 شركات تكنولوجيا فى العالم، يوجد 8 فى الولايات المتحدة. وأمريكا اليوم هى المنتج الأول فى العالم للنفط والغاز الطبيعى. وتُعد الجامعات والمؤسسات العلمية الأمريكية الأفضل فى فئاتها.

غلاف كتاب «الحرب الخفية»

ترامب وكيم جونج أون فى لقائهما بماليزيا

قطع بحرية أمريكية تشارك فى تنفيذ العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية

مؤتمر الأمم المتحدة لفرض عقوبات على إيران 2010 «صورة أرشيفية»


مواضيع متعلقة