سمير أمين: «السيسى» اكتسب شعبيته من الاستجابة للشعب.. و«الببلاوى» يتبنى «سياسات فجة» تدمر مصر

سمير أمين: «السيسى» اكتسب شعبيته من الاستجابة للشعب.. و«الببلاوى» يتبنى «سياسات فجة» تدمر مصر
قال المفكر المصرى البارز سمير أمين إن قرار واشنطن الأخير بتجميد المساعدات العسكرية لمصر ابتزاز هدفه الأساسى إجبار قادة الجيش على الاستمرار فى سياسة التبعية لواشنطن، موضحاً أن الوقت حان للاستغناء عن هذه المعونة بالتعاون مع القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا وغيرهما. وأكد عالم الاقتصاد المقيم فى باريس منذ نحو نصف قرن أن الهدف الأساسى لسياسات أمريكا وحلفائها هو نهب ثروات شعوب المنطقة بفرض «الليبرالية الجديدة» التى رحّب بها «السادات» وكرّسها «مبارك» وقَبِل بها «مرسى»، وهم يحاولون الآن إرغام الجيش عليها. ورأى «أمين» أن جماعة الإخوان -التى اعتبرها جزءاً من نظام «مبارك»- سقطت للأبد بعد أن كشفت للشعب عن وجهها القبيح، وأن وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسى اكتسب شعبيته بالاستجابة لمطالب الشعب بإزاحة «مرسى» الذى تصور وجماعته أنهم قادرون على البقاء فى الحكم طويلاً بـ«إذن من الله» ودعم من واشنطن والدوحة. وتابع رئيس المنتدى العالمى للبدائل بالعاصمة السنغالية داكار، فى حواره لـ «الوطن»، قائلاً إن الأيام المقبلة وحدها ستكشف عن مدى استعداد «السيسى» للانحياز الكامل لمصالح الشعب، والمعيار الأساسى فى ذلك هو رفض سياسات الليبرالية الجديدة المتوحشة (الخصخصة وتحرير الأسواق.. وغيرهما)، مؤكداً أنه من المؤسف أن تتبنى حكومة «الببلاوى» نفس هذه السياسات التى دمرت مصر ومهدت الطريق للانفجار الشعبى فى 25 يناير 2011.
مشكلة الإخوان أنهم اعتقدوا أنهم قادرون على البقاء بـ«إذن» من الله -كما يتخيلون- وبدعم من واشنطن وبعض دول الخليج كقطر، ولذلك ذهب مرسى إلى أبعد مدى، ليس فقط فى محاولة أسلمة المجتمع ولكن أخونته، والتجربة أثبتت أن الإسلام السياسى رجعى والأمريكان كانوا يدركون أن تمكين الإخوان يكفى لتدمير البلد وتغييب مصر تماماً من خريطة الدول القادرة على تحديات العصر. لاحظ أن شعبية الإخوان ارتبطت بتدهور المجتمع الناتج عن تبنى نظامَى السادات ومبارك لنظام العولمة الليبرالية ما أدى لانتشار أنشطة القطاع غير المنظم فى الحياة الاقتصادية والاجتماعية، التى أصبحت المصدر الرئيسى لدخل أغلبية السكان فى مصر، ويملك تنظيم الإخوان قدرة حقيقية على العمل فى هذه الظروف، وبدوره أدى نجاح الإخوان فى هذه المجالات إلى المزيد من تضخم تلك الأنشطة، ومن ثم ضمان إعادة إنتاجها على نطاق أوسع. وتتصف الثقافة السياسية التى يقوم الإخوان بنشرها بتبسيط شديد، إذ تضفى هذه الثقافة فى مضمونها «المشروعية» على مبدأ الملكية الخاصة وعلاقات السوق «الحرة».
ملايين المصريين فى مظاهرة لتفويض الجيش بالقضاء على الإرهاب
■ هناك تغيرات كبيرة فى منطقة الشرق الأوسط، ويتردد أن هناك مخططات غربية لإعادة تقسيم المنطقة فيما يعرف بـ«سايكس بيكو جديدة»، هل ترى ذلك وما هذه المخططات؟
- المقارنة بين الأوضاع الراهنة والأجواء السائدة بعد الحرب العالمية الأولى، والتى أدت لاتفاقية سايكس بيكو عام 1916 غير قائمة. بعد الحرب العالمية الأولى كانت هناك قوى استعمارية (بريطانيا وفرنسا) فى حالة صراع، لذلك سعت لتقسيم بلادنا إلى منطقة نفوذ بريطانى وأخرى للنفوذ الفرنسى. أما الآن فالوضع مختلف تماماً، فقد أصبحت القوى الاستعمارية (أوروبا واليابان تحت قيادة الولايات المتحدة) متآلفة ومتوحدة ويشكلون قوى «استعمار جماعى»، أى أن جبهة الاستعمار موحدة، وبالتالى لا مجال لتقسيم الدول الضعيفة فيما بينها. وبدلاً من ذلك، هم يسعون لفرض سيطرتهم على هذه الدول لتحقيق أهدافهم المشتركة.
■ وما هى هذه الأهداف؟
- مشروع الولايات المتحدة وحلفائها اقتصادى بالأساس، ويهدف للسيطرة العسكرية على الاقتصاد العالمى من خلال فرض «الليبرالية الجديدة» المتوحشة (الخصخصة وتحرير الأسواق والانفتاح الاقتصادى.. إلخ) والتى تسعى لنهب موارد دول الجنوب حتى يظل الغرب يراكم ثرواته وتستمر شركاته العملاقة فى تكديس أرباحها. لكن هذا المشروع واجهته بعض التحديات، فهناك دول عارضت المشروع بقدر استطاعتها وبدرجات متفاوتة وعلى رأسها الصين والبرازيل والهند، وهذه الدول دخلت فى تناقض مع حلف واشنطن وربما يصل الأمر لصراع عسكرى فى مرحلة لاحقة لأن أمريكا لن تسمح بسهولة بصعود هذه القوى. وهناك دول قبلت الليبرالية الجديدة تماماً دون قيد أو شرط (ومنها مصر)، ما قادها إلى كارثة تمثلت فى زيادة الفقر وظلم فى توزيع الناتج القومى وبطالة وتدهور فى الخدمات العامة... إلخ. وأدت هذه الكارثة لانفجارات فى إندونيسيا والبرازيل وفنزويلا والفلبين ومالى، وثورات الربيع العربى فى 2011 كانت فى جوهرها صرخة احتجاج على الفقر وسوء الأوضاع الاجتماعية، والنتيجة أن انتفاضة الشعوب الفاشلة ومعارضة الدول الرافضة لليبرالية الجديدة اضطرت واشنطن وحلفاءها لاتخاذ مسار آخر عنيف لفرض رؤيتها، والخيار العسكرى أحد ملامح هذا المسار.
■ كيف يمكن أن نفهم عملياً ما يجرى فى المنطقة فى هذا الإطار؟
- ما يحدث فى المنطقة تطبيق واضح لهذه السياسة، لكن علينا أن نفهم أولاً أن الاستعمار الجماعى طوّر استراتيجيات مختلفة من بلد لآخر من أجل السيطرة، فمثلاً سعت واشنطن -فى بعض البلاد- لفرض ديكتاتوريات وحشية كما هو الحال فى البحرين وإلى حد ما اليمن، ودعموا صعود الإسلام السياسى الرجعى (مثل الإخوان والسلفيين) كما هو الحال فى مصر بعد ثورة 25 يناير، علماً بأن هذا التيار يرحب بتنفيذ المشروع الأمريكى، وسياسة الرئيس السابق محمد مرسى تثبت ذلك تماماً. وعندما فشلت واشنطن «مؤقتاً» فى هذا الاتجاه كما هو الحال فى مصر وسوريا، لجأت إلى تدمير الدولة والمجتمع الذى رفض التكيف مع هذا المشروع، وهذا ما حدث فى العراق الذى دمرته أمريكا وفى ليبيا التى دمرها «الناتو»، وهذا ما يحدث الآن فى سوريا وقد يحدث فى مصر مستقبلاً (هناك مخططات لتفتيت مصر تهدف لفصل سيناء ومنطقة القناة).
■ ما وضع مصر فى ظل هذا التصور العام؟
- بإيجاز شديد، أرسى الرئيس جمال عبدالناصر فى الخمسينات نظاماً اقتصادياً واجتماعياً -رغم مثالبه- متسقاً، لأنه راهن على التصنيع وتوزيع للدخول يعمل لصالح توسيع الطبقات المتوسطة دون إفقار الطبقات الكادحة، لكن السادات ومبارك من بعده تبنيا نظام «الليبرالية الجديدة» الفجة القائم على تفكيك المنظومة الإنتاجية، وأحلا محلها نظاماً مبنياً تماماً على ربحية الشركات التى أصبح معظمها مجرد مقاولين من الباطن للاحتكارات العالمية، أما معدلات النمو الاقتصادى المرتفعة التى امتدحها البنك الدولى على مدى الـ30 عاماً الماضية، فلم يكن لها معنى على الإطلاق، ذلك لأنه كان نمواً هشاً إلى أقصى حد، وصاحبه ارتفاع مذهل فى مستويات البطالة واللامساواة، ما أدى فى النهاية للانفجار الشعبى فى 25 يناير، وصاحب التراجع عن مشروع التنمية فى عهد عبدالناصر تراجع مماثل للدور الإقليمى فى مصر لصالح كل من السعودية وإسرائيل، وصعود الإسلام السياسى، وأصبح خطاب المسجد وخطاب السلطة هما الخطابان الوحيدان المسموح بهما فى مصر، وتستطيع أن تقول إن الولايات المتحدة استطاعت أن تحكم مصر فى عهدى السادات ومبارك من خلال نظام سياسى يضم المؤسسة العسكرية ورأسمالية المحاسيب وجماعة الإخوان.
■ هل تعتبر جماعة الإخوان جزءاً من نظام مبارك؟
- بالطبع، فالإخوان لم يكونوا أبداً حزباً معارضاً، بل كانوا حليفاً تابعاً يقبل بقيادة العسكريين للبلد. والحقيقة أن النظام السياسى فى عهدَى السادات ومبارك دمج الإسلام السياسى الرجعى فى بنية السلطة، بمنحه السيطرة على التعليم والقضاء ووسائل الإعلام الرئيسية، فكانت الخطب العامة الوحيدة المسموح بها هى خطب السلفيين فى المساجد، ما سمح للإسلاميين بالظهور بمظهر «المعارضة». هذه المرحلة انتهت تماماً فى ثورة 25 يناير التى أسقطت مبارك وليس نظامه. فى هذا الظرف لجأ الأمريكان لتجديد أسلوبهم فى مصر، فاتجهوا للتحالف مع الإخوان، ولعب خيرت الشاطر دوراً كبيراً فى إتمام هذا التحالف، وبذلت واشنطن جهداً كبيراً لدعم الإخوان، الذين ردوا الجميل وخلال عامهم الوحيد فى الحكم واصلوا تبنى الليبرالية الجديدة على نفس طريقة «مبارك»، وسعى «مرسى» لتكريسها بديكتاتورية فجة، لذلك تدهورت الكارثة الاجتماعية وساءت أحوال الناس، ما أدى لتبلور الحركة الشعبية التى أسقطت مرسى فى 30 يونيو، ولم يكن سقوط مرسى مفاجئاً بل كان متوقعاً فحملة «تمرد» كانت نذيراً واضحاً بقرب سقوط مرسى، وكل الناس كانت مقتنعة أن «30 يونيو» ستكون قوية وقادرة على إزاحة حكم الإخوان.[FirstQuote]
■ ما مصلحة واشنطن فى تغييب مصر؟
- الولايات المتحدة والخليج وإسرائيل لهم مصلحة فى ذلك، فالأمريكان يخشون من الشعب المصرى والوطنية المصرية ولم ينسوا صحوته فى حقبة عبدالناصر، ويدركون أن وقوف مصر على قدميها سينعكس سلباً على مصالحهم فى قارة أفريقيا ودول أخرى من العالم، وأحد دوافع السياسة الأمريكية هو تخريب مصر تماماً سياسياً واقتصادياً، وحكومات الخليج تدرك أن نفوذها، الذى يقوم على المال والإسلام السياسى الوهابى، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بعجز مصر، كما أنه من مصلحة إسرائيل الإبقاء على مصر كياناً ضعيفاً، ما يمكنها من استكمال مشروعها الاستعمارى لابتلاع سيناء والجولان وغيرهما.
■ من أسقط مرسى، الجيش أم الشعب؟
- الشعب وليس الجيش هو من أسقط مرسى فى 30 يونيو، كما أسقط مبارك قبله فى 25 يناير، لكن المؤسسة العسكرية استطاعت أن تستفيد من نقاط الضعف فى الحركة الشعبية واستعادت سيطرتها على الجانب السياسى فى النظام. نزول 33 مليون مواطن للشارع فى 30 يونيو يعنى أن البلد كله نزل ليحتج ضد مرسى، ومع هذا العدد الضخم، الذى يضم قوى كثيرة لها تصورات مختلفة للمستقبل، يستحيل التوافق على بديل مشترك لعدم وجود أهداف مشتركة، وأتصور أن المرحلة القادمة ستشهد صراعاً بين اليمين (ممثلاً فى الجيش ورأسمالية المحاسيب وبعض فلول النظام السابق) والقوى التى تمثل مطالب الشعب (العدالة الاجتماعية والديمقراطية والكرامة والسيادة الوطنية).
■ أنت تضع كل دول الخليج فى سلة واحدة، لماذا إذن اعترفت أمريكا والسعودية بالتغيير مع تباين الموقفين القطرى والسعودى؟
- هذا سؤال صعب، وليس لدى إجابة جاهزة عنه، فالسعودية وقطر شىء واحد، والخلافات بينهما خلافات ثانوية، فالقطريون اختاروا الإخوان والسعوديون دعموا السلفيين ضد الإخوان الأغبياء الذين أغضبوا الجميع وتصوروا أنهم قادرون على احتكار السلطة وحاولوا حتى إخراج قادة الجيش والبرجوازية من المعادلة السياسية. قطر «مش حاجة» ووجود أكبر قاعدة عسكرية أمريكية فى قطر يجعل هامش تحركات قطر محدوداً، وكل تصرفاتها تتم بمباركة أمريكية تامة، وبدافع من الغيرة من دور مصر التى تمثل دولة ومجتمعاً وإدارة، ودول الخليج عموماً ما زالت تراهن على عودة الإسلام السياسى لأن من سقط هم الإخوان فقط. وتقديرى أن السعوديين -مثل الأمريكيين- دعموا التغيير فى 30 يونيو لأنهم لم يفقدوا الأمل فى أن يستمر النظام المصرى الجديد فى نظام التبعية، وسياسة الببلاوى (الليبرالية الفجة) لا تختلف عن مبارك ومرسى. وهناك احتمال لظهور تكتل يمينى (جزء من قادة الجيش وفلول النظام ورأسمالية المحاسيب وتيار الإسلام السياسى الرجعى من إخوان وسلفيين) يقبل بالمشروع الأمريكى. ورأيى أن الإخوان انتهوا تماماً بعد أن كشفوا للناس عن وجههم الحقيقى القبيح، لكن نهاية الإخوان لا تعنى نهاية الإسلام السياسى الذى يمثل تياراً يتمتع بقاعدة شعبية.
■ كيف ترى موقف القوات المسلحة فى التطورات الأخيرة منذ 30 يونيو؟
- القوات المسلحة لعبت بالقطع دوراً وطنياً، إذ كان أمامها خياران: الأول الانحياز لنظام مرسى الفاشل وقمع الشعب، والثانى الانحياز للشعب فاختاروا الشعب، لذلك أقول إن ما حدث فى 3 يوليو ليس انقلاباً كما يروّج الإخوان، لكن هل يستمر قادة الجيش فى الانحياز للشعب كما حدث فى الخمسينات أيام عبدالناصر أم يقبلون باستمرار التحالف مع الخليج وواشنطن؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة مع تسليمى بأن الجيش المصرى مؤسسة وطنية فى النهاية. قيادة الجيش ساندت حتى الآن الحركة الشعبية وأسقطت نظام مرسى لكن على الجانب الآخر يواصلون تبنى النظام الليبرالى الضار بمصالح الشعب، والموقف النهائى الآن غير واضح.[SecondQuote]
■ ما رأيك فى افتتان المصريين بشخصية الفريق السيسى والحملة التى تريد دفعه للترشح للرئاسة؟
- السيسى على وجه اليقين اكتسب شعبيته باختياره دعم مطالب الشعب فى الإطاحة بمرسى، لكن هل يستمر فى انحيازه للشعب، وهو الأمر الذى يعنى أن تتخلى «حكومته» عن سياسات الليبرالية الجديدة، التى تبناها السادات ومبارك ومن بعدهما مرسى؟ حتى هذا اليوم لا يبدو أنه اتخذ هذا القرار، لأن الببلاوى يسير على نفس السياسة التى دمرت المصريين.
■ كيف تفسر قرار الولايات المتحدة الأخير بتعليق المساعدات لمصر؟
- هذا ابتزاز يهدف لضمان استمرار استجابة قادة القوات المسلحة للمطالب الأمريكية، وعلى رأسها تبنِّى سياسات الليبرالية الجديدة مثل الخصخصة والانفتاح، لكن بغضّ النظر عن أهداف أمريكا لماذا نستمر فى الاعتقاد بأن مصر بحاجة لهذه المعونة؟ المعونة تعنى أننا عاجزون عن حل مشاكلنا وبالتالى نظل تابعين ومعتمدين على غيرنا فى حين أن لدينا خيارات أفضل إذا تعاونت مصر مع القوى الصاعدة مثل الصين، ما سيُخرج مصر من حالة الشلل الراهن الناتج عن ربط مصيرنا بالمعونة الأمريكية.
■ هل تعتقد أن روسيا فى وضع يؤهلها لتحل محل واشنطن وتوفر لمصر بديلاً عن المعونة الأمريكية، ولعب نفس الدور الذى كانت تلعبه فى الخمسينات والستينات؟
- ليس تماماً، فالأوضاع الآن مختلفة لكن روسيا بلد يمكنه أن يصبح قوة صاعدة رئيسية مثل الصين.
■ إلى أى حد أنت متفائل بمستقبل مصر؟ وما أكثر ما يقلقك فى الأوضاع الراهنة؟
- بالنظر إلى المستقبل القريب يبدو أن مصر ستغرق فى مزيج من التنمية الرثّة والخضوع لسيطرة النظام الإمبريالى العالمى، وسيتواصل النضال الشعبى بحثاً عن مخارج من هذا الطريق المسدود، لكنى متفائل بالمستقبل البعيد، وشاهد ما يُكتب على جدران القاهرة حتى تفهم ما أقصد. بعض الشباب كتب «الثورة غيرت الوجوه ولم تغير النظام» ما يعنى أن الشعب يدرك أن جهوده يجب أن تسفر عن نتائج حقيقية، ولن يقبل باستمرار الفساد والظلم والخيانة. أكثر ما يقلقنى هو الصعوبة التى تجدها الحركة الشعبية فى التوحد حول أهداف استراتيجية مشتركة، وأخشى أن يقع البعض منهم فى خطأ التحالف الانتخابى مع القوى الرجعية، سواء للنظام السابق أو غيره.
■ بعيداً عن مصر، ماذا يحدث فى سوريا؟
- قبل الثمانينات، كان النظام قريباً من نظام عبدالناصر القريب من الشعب ومطالبه، لكن نفس الطبقة الحاكمة -وحرصاً على البقاء فى السلطة- تبنّت الليبرالية المتوحشة بداية من حافظ الأسد ثم بشار، والنتيجة أن السوريين بدأوا يعانون، تماماً مثل المصريين تحت حكم مبارك من الفقر والبطالة، كل هذا أنتج انتفاضة شعبية تطالب بالعدالة الاجتماعية، لكن تعنّت «بشار» ورفضه التجاوب مع مطالب شعبه بإصلاح جزئى للأوضاع الاجتماعية أعطى الولايات المتحدة وحلفاءها الوهابيين فرصة لإذكاء الصراع الذى تحول الآن إلى ما يشبه حرباً أهلية.
■ ماذا تريد واشنطن وحلفاؤها من سوريا؟
- تدمير الدولة بتفتيتها إلى 5 دول على أسس عرقية ومذهبية، لأن الدويلات الجديدة ستكون عاجزة عن تهديد مصالح أمريكا التى هددها إصرار النظام فى سوريا على التحالف مع خصومها (إيران وروسيا والصين)، وهى الدول الرافضة لمشروع السيطرة العسكرية الأمريكية. أما بالنسبة للسعودية وقطر فهما ترغبان فى تأمين خطوط النفط التى تمر عبر سوريا إلى أوروبا. والدويلات الصغيرة التى يخططون لظهورها على أنقاض الدولة السورية ستكون أكثر حرصاً على إرضاء السعودية وقطر وأقل قدرة على تهديد مصالحهما. هذه الاستراتيجية فشلت مؤقتاً حتى الآن فى مواجهة الفيتو الصينى والروسى، لكن واشنطن وحلفاءها مستمرون فى هذا الصدد، ولا بديل فى سوريا عن دخول الطبقة الحاكمة فى تفاوض مع القوى الشعبية لعزل المجموعات المسلحة والمتطرفة بكل السبل ومنها طبعاً استخدام القوة.
■ ما دلالة الأزمة المالية الأخيرة فى أمريكا والتى أدت لإغلاق الحكومة الفيدرالية وتسريح آلاف الموظفين، واضطرارها أخيراً لرفع سقف الدين العام فوق 17 تريليون دولار؟
- مبدئياً الأزمة الأخيرة ليست جديدة، وتكررت نحو 17 مرة فى الخمسين عاماً الماضية، وهى فى الواقع تمثل قمة جبل الثلج وتخفى تحتها أزمة أعمق بكثير بسبب العجز فى الموازنة الأمريكية المستمر منذ 30 عاماً، لأن الولايات المتحدة تعيش فوق قدراتها اعتماداً على فوائض الدول الغنية مثل الصين وألمانيا واليابان والخليج، وقدرتها على جذب هذه الفوائض نجاح من ناحية لكن من ناحية أخرى يمثل نقطة ضعف. والحقيقة أن أمريكا أصبحت عملاقاً مفلساً، لكنه إفلاس تستطيع أن تعيش رغم وجوده لأكثر من 20 عاماً مقبلة، وسببه الرئيسى أنها دولة تعيش فوق إمكانياتها ولا تقبل التغير الحادث الآن فى موازين القوة فى العالم.
■ كيف يمكن أن يؤثر ذلك علينا؟
- إفلاس أمريكا أزمة خطيرة، فدولة تمتلك هذا الترسانة الهائلة من السلاح يمكن أن يدفعها للجنون وتتجاوز الحروب الصغيرة التى تشعلها هنا وهناك إلى حروب كبيرة بهدف السطو على ثروات غيرها من دول العالم، ولا بديل أمام الشعب الأمريكى سوى أن يقبل بالواقع ويتكيف مع شكل جديد للعولمة تكون واشنطن فيه أحد أطرافه وليس الطرف الوحيد، سينعكس ذلك بشكل إيجابى على الأمريكان، لأن المصروفات العسكرية المهولة -على سبيل المثال- سيجرى توفيرها لصالح أهداف التنمية المختلفة.