الجيش المصرى والأزمة السورية

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

منذ أن نشرت صحف أمريكية تفاصيل مقترحة لتنفيذ فكرة الرئيس «ترامب» فى أن تحل قوات عربية، بما فيها قوات مصرية، محل القوات الأمريكية الموجودة فى شمال شرق سوريا، حيث يوجد الأكراد ومنظماتهم شبه العسكرية التى دعمتها واشنطن سابقاً لدحر «داعش» فى الرقة ودير الزور وشمال سوريا إجمالاً، وهناك محللون أمريكيون وبريطانيون ووسائل إعلام دولية موجهة بالعربية يتعاملون مع الأمر باعتباره قابلاً للحدوث. يتساءلون عن موقف وكأنه غير واضح بالنسبة لهم، وغالباً ما يتعامون عن الحقائق الدامغة. البعض يعتبر رغبة الرئيس «ترامب» بمثابة قرار وعلى الحلفاء أن يتجاوبوا دون نقاش، هؤلاء لا يهمهم مدى معقولية الفكرة أو مدى علاقتها بتحقيق تقدم حقيقى نحو إنهاء الحرب فى سوريا، ولا يهتمون أيضاً بكونها فكرة خارج نطاق الأمم المتحدة وأنها فعلياً ستزيد سوريا اشتعالاً وستؤدى إلى حروب جديدة ومعارك لا حد لها. هؤلاء يستغربون الموقف المصرى، دون أدنى محاولة لفهم أبعاده القيمية والسياسية.

والصنف الآخر يرى أن مصر لديها القدرة العسكرية، ولكن ليست لديها الرغبة فى المشاركة، وتلك يمكن تغييرها حسب ما يظنون من خلال ممارسة ضغوط مختلفة الأشكال والألوان. ويروجون أن الرئيس «ترامب» بارع فى هذا الأمر. هؤلاء لا يضعون فى اعتبارهم أن دولة كمصر لديها مؤسسات ورأى عام وقيم عروبية تحدد ما هو المقبول وما هو المرفوض، وهى على استعداد لمواجهة ما يناقض قناعاتها الرصينة والمستقرة فى الوجدان المصرى العام. هؤلاء أيضاً يتجاهلون أن العلاقات بين الدول هى فى الأصل عبارة عن ضغوط متبادلة، ومصر بدورها يمكن أن تمارس ضغوطاً مضادة حين تكون هناك ضرورة. وأنها كثيراً ما تفوقت على ضغوط كبرى من خلال التماسك والترابط الشعبى مع المواقف الرسمية.

والبعض الثالث يعتبر أن مصر لديها ظروف خاصة جداً، كمواجهة جماعات الإرهاب فى أقصى شمال سيناء وعلى الحدود الشرقية، ومن ثم من الصعب أن تتجاوب على الأقل فى اللحظة الجارية. وأقل ما يُقال هنا أن هؤلاء أصابوا جزءاً صغيراً من الحقيقة، فموقف مصر وجيشها من الأزمات العربية وعموم القضايا العربية تحكمه اعتبارات وقيم أكبر من ذلك بكثير. ويمكن القول أن الصنف الثالث من هذه التحليلات يُعد أكثر موضوعية نسبياً من سابقيه، ومع ذلك فهو لا يعالج الأمر فى حدوده الكلية؛ أى من خلال الرؤية المصرية الخاصة بسوريا، التى من أهم عناصرها تدعيم الجيش الوطنى ومساندته لدحر الجماعات الإرهابية والتشكيلات المسلحة الدخيلة على الشعب السورى، فضلاً عن الإصرار على أنه لا يوجد حل عسكرى، بل هو حل سياسى وفق مفاوضات شفافة تحت مظلة الأمم المتحدة، بين الحكومة السورية ومعارضة سورية سياسية محترمة وليست عسكرية وليست عميلة لأحد، على أن تتضمن خروج غير السوريين من الأراضى السورية، وتلك بدورها تتعلق بممارسة السيادة بمعناها القانونى المعترف به، فلا صلاحيات إلا لمن يختاره الشعب، وليس لمن يفرض نفسه بالسلاح والاستعانة غير المشروعة بقوى خارجية. وفى إطار هذه الرؤية المصرية المعلنة صراحة يصبح الحديث عن إبدال قوات عربية بقوات أجنبية أو أمريكية لا شرعية أصلاً لوجودها على الأرض السورية، مسألة غير منطقية وغير قابلة للاستيعاب لدى النخبة المصرية كما لدى الرأى العام. هذا من حيث المبدأ العام، الذى تدعمه مبادئ وأبعاد مهمة أخرى.

أول هذه الأبعاد أنه لا يمكن قبول أن ينتقل الجيش المصرى لمواجهة جيش عربى آخر على أرضه، وهو يقوم بمهمته فى الحفاظ على دولته وعلى مؤسساتها. المسألة هنا محسومة، فمصر وجيشها لا تحارب أشقاءها، بل تدعمهم وتقف بجوارهم حين يواجهون الإرهاب والجماعات العميلة كما هو حال الجيش السورى. تجربة مصر فى مواجهة الجماعات الإرهابية المدعومة دولياً وإقليمياً تؤكد لها أن الوقوف مع الجيوش الوطنية مبدأ لا جدال فيه، وفى هذا السياق فليس من المنطقى أن نؤمن بذلك ونطبقه حرفياً، ثم نأتى فى الحالة السورية ونطبق عكسه. شخصية مصر بمؤسساتها وشعبها سوية وليست مريضة.

وثانى هذه الأبعاد أن المهمة التى تطالب بها إدارة «ترامب» تصب فى سياق تقسيم الدولة السورية، وليس حمايتها، وهى مهمة تحقق أهداف الاستراتيجيتين الأمريكية والإسرائيلية اللتين تفعلان كل شىء من أجل إنهاك كل الجيوش العربية، ومن ثم تصبح دولهم هشة ومفككة وتقبل الخضوع والإذلال بلا أدنى مقاومة. ولا أتصور أن أى مصرى يقبل المشاركة فى مثل هذه المهمة الوقحة. نحن مع احتواء الأوضاع المتفجرة هناك، مع حماية سوريا والسوريين وليس قتلهم وتشريدهم وخراب دولتهم.

وثالث الأبعاد أن سوريا فى حالة حرب على المشاع، تشارك فيها قوى عديدة، منها دول ومنها جماعات إرهابية عابرة للحدود، ومنها مجموعات مسلحة تدعى كذباً أنها جزء من الثورة الشعبية السورية، والذهاب إلى هذا المعترك، انصياعاً لطرف سوف يخلى الساحة لاحقاً، ولا يهمه من يحارب من، يُعد من أكثر من المواقف غباءً واستغراباً فى السياسة الدولية، على الأقل من المنظور الشعبى المصرى.

ورابع الأبعاد أنه طلب يأتى خارج نطاق الشرعية الدولية، ولا علاقة له بنظام الأمم المتحدة، الذى يحدد كيفية إرسال قوات دولية لمواقع الصراعات بعد أن يتم التوصل إلى تسوية شاملة، بحيث تكون هذه القوات جزءاً من عملية حفظ السلام وبناء الدول وتأكيداً للأمن الإقليمى والعالمى معاً. وكثيراً ما قبلت مصر المشاركة فى مثل هذه المهام الأمنية الدولية تحت مظلة الأمم المتحدة تأكيداً على دورها فى حفظ السلام الدولى، ولديها سجل حافل ومحترم. ولا يمكن التضحية به تحت أى ظرف من الظروف.

وخامس الأبعاد أنه طلب يناقض ما هو مطلوب للإسراع بحل سياسى شامل والذى يقوم على مبدأ إخلاء الأراضى السورية من القوات غير الشرعية. وأخيراً، مصر لديها سياسة مستقلة تراعى مصالحها العليا، وتراعى مبادئها المستقرة والتى تتصادم مع فكرة أن تكون مصر تابعاً لهذا أو ذاك.

هذه الأبعاد الستة تؤكد أن الجيش المصرى كامتداد لسياسة الدولة المصرية لن يكون مشاركاً فى هذه العملية. قد تجد أطراف أخرى الأمور من منظور مختلف عن المنظور المصرى. وهذا حقها، كما هو من حقنا كمصريين أن نتعامل مع القضايا العربية وفقاً لمصالحنا العليا، وما نؤمن أنه يحقق أيضاً المصالح العربية من المحيط إلى الخليج.