من وقائع الحرب السورية الثانية

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

لو اعتُبر السبب المباشر لعملية «غصن الزيتون» العسكرية التى بدأها الجيش التركى فى 20 يناير تجاه الشمال السورى هو إعلان الولايات المتحدة مؤخراً أنها بصدد تشكيل قوة «حرس حدود»، وفى قول آخر «جيش» قوامه 30٫000 جندى، لحراسة الشريط الحدودى ما بين الأراضى السورية والمحافظات التركية ذات الغالبية الكردية، فلا يوجد إذاً ما يمنع التعامل مع تلك الذريعة باعتبار أن هناك شبه اتفاق من كافة الأطراف فى الربط ما بين القرار الأمريكى والتوغل التركى. ثمة تباين فى المواقف بدرجة طفيفة إلى حد ما، لكن ظلت تلك الأطراف طوال أول أسبوع من العمل العسكرى تعتبرها الذريعة الافتراضية التى يجوز ضبطها على زاوية تحرك الصراع المقبل.

وحقيقة هناك ما يمكن أن يُروى عن هذا «الجيش»، أو بمعنى آخر القوات حديثة التشكيل، فالقوات الأمريكية التى وصلت إلى المناطق الكردية فى الشمال السورى، منذ نحو عامين تقريباً بغرض الحرب على «داعش» عمدت من البداية إلى الاعتماد على قوات «حماية الشعب الكردية». تمثّل هذا فى استنساخ الخبراء العسكريين الأمريكيين لنموذج «البشمركة» العراقية فى إنتاج طبعة سورية له عبر تجميع أكبر عدد من القادرين على حمل السلاح، وتحويلهم من فصائل ومجموعات متشرذمة فى محيط المدن الكردية فى الشمال السورى، تقوم بحماية سكانها من تغول عناصر «داعش»، إلى قوة شبه نظامية أُخضعت لتدريب عسكرى معقول، والأهم هو الإمساك بأنواع متطورة و«ثقيلة» من الأسلحة، وبعدها تطورت عملياً وسياسياً، فى الأولى بما خاضته ضد «داعش» على أراضى معارك الرقة، وفى الثانية عبر توسيع مكونها العربى وصياغة طموحها السياسى الفيدرالى.

على مضض تابعت تركيا تلك الأحداث، بل شكل البعض منها الوقود الذى بدّل معادلات التحالف ما بين أنقرة والآخرين. ففى الوقت الذى كانت فيه واشنطن تصل بتلك المجموعات إلى رقم 15٫000 مقاتل، كانت أنقرة وموسكو قد قطعتا معاً أشواطاً لا يستهان بها. منها على سبيل المثال أننا نتحدث عن «غصن الزيتون» باعتبارها العملية العسكرية التركية «الثانية»، بعد عملية «درع الفرات» الأولى صيف 2016، التى تسيطر بموجبها بقوات لم تخرج من سوريا على منطقتَى «جرابلس، والباب»، وكلا العمليتين نُفذت بسماح واتفاق روسى يضمن لتركيا توغلاً آمناً دون مضايقات، على الأقل ممن هم فى العهدة الروسية، والمقصود طهران والنظام السورى. السماح الروسى هذه المرة تم بسحب قوات عسكرية (روسية/ سورية) مشتركة من طريق القوات التركية قبل أن تتقدم قوات المقدمة تجاه «عفرين»، وقبل بداية القصف الجوى والمدفعى على محيطها. وربما هذا ما جعل الوزير جاويش أوغلو يفاجئ الجميع بتأكيده أن الحكومة التركية أعلمت الحكومة السورية كتابياً بنيتها دخول «عفرين».

لم يمض أسبوع واحد من «غصن الزيتون» حتى بدا أن تركيا قد اقتربت إلى حد كبير من تحقيق حلم «المنطقة الآمنة»، فالتصريحات المتبادلة على وقع المجنزرات بدأت تحدد عمق 30 كم فى أرض الشمال السورى، باعتباره يمثل ضمانة أمن للهواجس التركية. وهو حديث ما كان لينطلق من دون تمرير من قبَل المحور الروسى، فالقواعد العسكرية الروسية والقوات الإيرانية وميليشياتها المقبلة افتراضاً تحت مهمة الحفاظ على سيادة النظام على الأرض، يبدو أن إعادة إنتاج الطرح التركى تحقق لها رصيداً على خطوط تماس أخرى، وهو ما دفعها لإجبار النظام على الصمت الخجول. حتى صارت العملية العسكرية منذ بدأت وطوال أسبوعها الأول هى مشكلة (تركية/ أمريكية) أكثر من أى شىء آخر!

وعلى ذكر الجانب الأمريكى القابع بقواته فى محيط «منبج»، المحطة التالية بعد «عفرين» مباشرة، هذا يعيدنا لبداية القصة، وللقوات التى يراد تشكيلها لتسيطر على الشمال السورى. فعلى هذا الجانب الأمر ليس بأفضل كثيراً عن سابقه، فالقوات التى وصلت لـ15٫000 مخطط لها أن تكتمل لضعف هذا الرقم. المفاجأة أن ما استقرت الولايات المتحدة عليه هو أن تستكمل النصف الآخر بخمسة عشر ألفاً آخرين من مقاتلى «داعش» الذين يعاد تدويرهم فى الخفاء، وأن القائم على تلك المهمة هو ذاته «بريت ماكغورك»، مبعوث الرئاسة الأمريكية لقوات تحالف الحرب على «داعش»، وقد بدأ المبعوث الأمريكى فعلياً منذ شهور عملية دمج مقاتلى «داعش» القدامى مع «قوات سوريا الديمقراطية».

لن تقتصر مهمة المبعوث الأمريكى على الأرض السورية على حد تسلم مقاتلى «داعش» من رجال الاستخبارات الأمريكية، والقيادات الكردية التى أمّنت وصول المقاتلين إلى المناطق التى يعاد فيها تشكيلهم، فالمهمة التى وصل من أجلها أوسع بكثير، باعتباره مكلفاً بتأمين وجود أمريكى لأجل غير مسمى، على نحو (28%) من الأراضى السورية. ستتم تلك المهمة بالشراكة مع «قوات سوريا الديمقراطية» بحسب ما حددته الـ«فورين بوليسى» مؤخراً، كشريك سيتأهل ويتطور رغماً عن الصخب العسكرى التركى الذى له من الأعداء أكثر مما له من حلفاء، فواشنطن ليس أمامها هناك سوى استنزاف الآخرين من وجهة نظرها فى صراعاتهم الأصلية، فهى تراهم عالقين فى حربهم التقليدية التى تستهدف تثبيت نظام الأسد فى مواجهة الفصائل السنية المسلحة التى أصبحت تابعاً ذليلاً لتركيا بعد تحطم قدراتها جرّاء اليد الروسية الغليظة.

هناك استنزاف استراتيجى آخر تراهن عليه واشنطن يضمن لها استمرارية الصراع السورى للمدى الذى يجعلها تمضى قدماً للاستئثار مبكراً بنصيبها، هو أن الأطراف الأخرى لم تحل معادلات تنافسها مع أعدائها بعد. الأول ما بين تركيا والأكراد، والثانى سيظل بين إسرائيل وإيران وحزب الله، وروسيا تريد لعب دور الشرطى على أراضٍ متحركة، تتقاسم فيها نقاط النفوذ، وتتقاطع عليها مسارات المصالح، فهل ستتمكن طويلاً من الوفاء بفاتورة الكلفة التى تضمن لها حداً أدنى من القدرة على استثمار الدور؟!