الرؤية الاستراتيجية لحلقات الحصار التركى (2/2)

جمال طه

جمال طه

كاتب صحفي

مقالنا السابق تناول حلقات الحصار التركى «قطر، الصومال، السودان، وإثيوبيا»، لنستكمل باقى حلقاته، قبل تحليل أبعاد دائرة الحصار، ومواجهتها.

اتفاقية أنقرة بين بريطانيا والدولة العثمانية، مايو 1926، أعطت الأخيرة حق التدخل شمال العراق، لحماية الأقلية التركمانية.. اتفاق التعاون وأمن الحدود بين العراق وتركيا، 1983، سمح للأخيرة بالتوغل 10كم داخل الحدود العراقية.. تركيا دفعت بقواتها لمعسكر بعشيقة بمحافظة نينوى، ديسمبر 2015، حولته لقاعدة تدريب للبشمرجة الأكراد، بالاتفاق مع حكومة «برزانى»، وتمددت بعدة مناطق شمال دهوك.. مع بداية معركة تحرير الموصل تفجرت الأزمة نتيجة إصرارها على المشاركة، بحجة تأمين التركمان ضد تجاوزات الحشد الشعبى، تفاقمت الأزمة، وتم سحب السفراء، ثم توصلتا لاتفاق لسحب القوات التركية يناير 2017.. لكن شمال العراق سيظل رهينة لأطماع تركيا، حتى تستعيد الدولة وحدتها الوطنية، وقوتها العسكرية، وثقلها الإقليمى.

تركيا حاولت استغلال الأزمة السورية لاحتلال الشريط الحدودى، متعللة بإنشاء منطقة عازلة، لكنها فشلت نتيجة للتوازنات الإقليمية والدولية، فخاطرت لتعديلها؛ أسقطت الطائرة su-24 فكادت تشتعل الحرب مع روسيا، شنت «درع الفرات» ففرضت وجودها العسكرى على الأرض، وخاضت مواجهات مع أمريكا وأوروبا، انتهت باعتبارها طرفاً رئيسياً فى مباحثات أستانا، وضامناً لاتفاقات الهدنة بمناطق خفض التوتر، وكلفت بالمسئولية عن محافظة إدلب، الملاصقة لحدودها.. حاولت استغلال الموقف، لتأمين وجود عسكرى دائم، بإقامة مجموعة قواعد عسكرية، بحجة المراقبة، استكملت الأولى بقمة جبل الشيخ بركات بريف حلب الغربى، وتحاول استكمال الباقى بالتعاون مع «هيئة تحرير الشام»، وهو ما وصفته الحكومة السورية بـ«الاحتلال»، ما يفسر عمليات خرق الهدنة التى يقوم بها الجيش السورى، لمنعها من إنشاء مرتكزات لوجودها الدائم.

مع تراجع المد الإرهابى فى سوريا والعراق، وبدء تهريب فلوله لسيناء، سعت تركيا لاستعادة العلاقات مع إسرائيل، التى قُطعت خلال أزمة السفينة «مرمرة» 2010، وأثناء المفاوضات طالبت بنفوذ داخل القطاع، يصل إلى حد تفويضها فى إدارته، العلاقات استؤنفت مع بدء معركة تحرير الموصل منتصف 2016، تركيا دعمت أنشطة «حماس» المعادية لمصر من خلال قيادات الحركة الذين تستضيفهم على أراضيها، وسعت لاستثمار مشاركتها فى مشاريع البنية التحتية والإعمار، بما تتطلبه من مواد بناء، للمطالبة بما سمته رفع الحصار، لتسهيل عمليات التهريب والتسلل لسيناء.. مصر كانت الغائب الحاضر، ولولاها لتحولت غزة إلى قاعدة عثمانية.. تركيا شكلت مع السعودية مجلساً للتعاون الاستراتيجى، وعرضت إنشاء قواعد عسكرية على أراضى المملكة منتصف 2017، «سلمان» اعتذر مؤكداً أن دور القوة الجوية السعودية بقاعدة إنجيرليك يشهد بقدراتها.. نفس العرض قدمته أنقرة للكويت، ولكن الدبلوماسية الكويتية تمتص بهدوء مثل تلك السخافات.

تكامل الحلقات المكونة لطوق الحصار التركى من سوريا، العراق، قطر، إثيوبيا، الصومال، السودان، شمال قبرص، قد يصيب بالإحباط، لكن الوجه الآخر للحقيقة يغير الصورة، مصر وجهت ضربة قاصمة لتركيا، بإسقاط الإخوان، وإضاعة فرصة تسوية كادت أن تتم لترسيم الحدود البحرية، خلافاً لقواعد القانون الدولى، مما كان يمكِّن تركيا من السطو على غاز المتوسط.. إنشاء محور استراتيجى بين مصر وقبرص واليونان، وترسيم الحدود بينها، وجه ضربة قاصمة للمصالح التركية، وفرض حصاراً محكماً عليها.

الخط السياسى لمصر يتطابق بشكل شبه كامل مع نظيره الإماراتى.. سياسة الأخيرة وتطلعاتها تعكس رؤية ونضج قوة إقليمية مؤثرة، وقدراتها المالية تمكنها من امتلاك أدوات التأثير، لكن قصور عناصر القوة الاستراتيجية للدولة يمثل قيوداً تفرض توسيع نطاق تحالفها الاستراتيجى مع مصر، على النحو الذى يكفل مصالحهما المشتركة، فعلى صعيد الأضرار ستُستخدم جزيرة «سواكن» كمنفذ لترحيل الإرهابيين قبل توجههم لليبيا ومصر وشمال أفريقيا ودول الساحل والصحراء، ما يضر بمصر.. وبناء منطقة لوجيستية لتموين وتخريد وإصلاح السفن بعائداتها التى تقدر بـ100 مليار دولار سنوياً، بقدر ما تضر بمشروعات تنمية القناة، فإن أضرارها أكبر على أنشطة موانئ الإمارات.. أما على صعيد الفائدة فإن حصول شركة موانئ دبى على حق إدارة موانئ بربرة «أرض الصومال»، ومصوع وعصب «إريتريا»، و«جيبوتى»، وإطلاقها مشروع تطوير ميناء بربرة بتكلفة 440 مليون دولار، وإنشاء دولة الإمارات قاعدة بربرة العسكرية 2015، ومركز تدريب مقديشيو، يفسر انحياز ثلاثة أقاليم صومالية «جلمدج، بلاد بنط، وهرشبيلى» لرباعية مكافحة الإرهاب، بمجرد اندلاع أزمة قطر، رافضة انحياز مقديشيو لتركيا.. تلك إحدى ثمار التعاون المصرى الإماراتى، فما بالك لو تطور إلى تحالف استراتيجى؟!.

اتفاق التبادل فى استخدام القواعد الجوية والمطارات بين مصر وروسيا يشكل إجراءً بالغ التأثير على التوازن الاستراتيجى بالمنطقة، معظم التهديدات الموجهة للمنطقة تأتى من تركيا وإيران، دولتى الأطراف، المتحالفتين مع موسكو، الدور الروسى، على المستويين الإقليمى والدولى، يحتاج لحوار ومراجعة، فلا يمكن أن تظل موسكو هكذا؛ تقيم محوراً مع تركيا وإيران، وتخطب ود السعودية، وتؤسس مصالح مع مصر، وتطمع فى ليبيا.. لا يمكن أن تظل ثانى أكبر قوة دولية هكذا، تجمع المتناقضات، وتلعب على كل الأحبال، وتمارس الرقاعة السياسية، موسكو ينبغى أن تحدد نطاقاً لتحالفاتها، وآخر لدبلوماسيتها، وإلا فسوف تفقد نفوذها، وتؤسس عداوات، يستغلها العملاق الأصفر، الذى يعبّد طريق الحرير لانتشار يكتسح الكبار.. اتفاق التبادل فرصة منحتها مصر لروسيا، لإعادة التموضع بالمنطقة.. وعلى نفس مستوى العلاقات الخارجية فإن مصر ينبغى أن تدرك أنه فى السياسة لا حدود للتحالفات سوى ما تفرضه المصالح، الوجود العسكرى التركى فى الصومال والسودان يمس أمن البحر الأحمر، ويثير قلق إسرائيل، لتهديده ممر تواصلها البحرى والجوى مع أفريقيا وآسيا، ما يفرض على القاهرة العمل على دفعها كطرف فاعل لمواجهة الأنشطة التركية.

التمدد التركى يتطلب إنفاقاً لا يتناسب ومحدودية مواردها، ما يفسر رفض حزب الشعب الجمهورى، أكبر أحزاب المعارضة، لاتفاق سواكن، وحرصهم على تجنب المواجهة مع مصر، التى عززت قواتها البحرية حتى أصبحت السادسة عالمياً، وتقدمت قواتها الجوية للمرتبة الثامنة، وتنشئ خمس قواعد عسكرية جديدة، بينها أكبر قاعدة متكاملة فى أفريقيا، بحلايب وشلاتين، لتكون مركز متابعة وإدارة العمليات المسئولة عن البحر الأحمر وشرق ووسط أفريقيا، حلقات الطوق التركى بالنسبة لها مجرد أهداف منعزلة يسهل اصطيادها وتصفيتها.. «أردوغان» لا يجيد قراءة التاريخ، الإمبراطورية العثمانية تحولت إلى «الرجل المريض» عندما تمددت بصورة لا تتناسب وعوامل القوة التى تمتلكها، القوة العسكرية المصرية كانت المسئولة عن فرض نفوذها على الولايات التابعة، وتأديب الخوارج، عندما انقلبت عليها دخلت بجيوشها لتأسر رستم باشا، رئيس الوزراء التركى، ١٨٣٢، ما دفع الدول الأوروبية للتدخل قبل خضوع تركيا لسيادة محمد على، حاكم المحروسة.. متى تستوعبون التاريخ؟!.