غض البصر عن الخطر

فى مسلسل «حديث الصباح» مشهد آسر يستحق التأمل، وهو مشهد زيارة داود باشا للزعيم محمد فريد فى سجنه ليعتذر له بالنيابة عن ابنه القاضى عبدالعظيم باشا الذى ألقى به وراء القضبان بحكم جائر. عندما سمع «فريد» كلمات الاعتذار تتلعثم على لسان «داود»، رد عليه قائلاً: ابنك هذا عبقرى، وإنى أتوقع لأمثاله مستقبلاً باهراً. فقد استطاع أن يغمض عينه عما يراه الجميع ثم يحكم بالعدل. كان الزعيم يقصد أن «عبدالعظيم داود» أهمل معطيات الواقع وأغمض عينه عن فساد الخديو وخطايا الاحتلال الإنجليزى التى ثار ضدها «فريد» واكتفى بتطبيق القانون «عميانى»!

بإمكانك أن تجد ظلاً لهذا المشهد فى أحداث تاريخية عديدة عشناها ونعيشها. منهجية «إغماض العين عما يراه الجميع ثم اتخاذ القرار فى هدوء» عادة ما تؤدى إلى أخطاء تاريخية قد تأخذ الشكل «الكارثى». لدينا نموذجان من العهدين الناصرى والساداتى يمكن الاستدلال بهما على هذه المنهجية فى التفكير وصناعة القرار.

أيام جمال عبدالناصر -وتحديداً فى العام 1967- كانت هناك شواهد كثيرة فى الواقع تدلل على عدم قدرة مصر على خوض حرب ضد إسرائيل. جزء لا بأس به من القوات والآليات العسكرية تم شحنه إلى اليمن لخوض الحرب الشهيرة ضد نظام الأئمة المدعوم سعودياً، الأوضاع على الجبهة السورية لم تكن من التعقيد بحيث يمكن اتخاذها ذريعة لحشد القوات المصرية فى سيناء، حيث أكد كثير من القيادات كذب الحديث عن وجود حشود إسرائيلية على الحدود مع سوريا، لم تكن مؤسسات الدولة وقتها أيضاً بخير لتدعم حرباً ضد إسرائيل. هذه الشواهد كان يبصرها الجميع، لكن الرئيس عبدالناصر غض الطرف عنها، وأصر على عدم رؤيتها، واطمأن إلى حديث إنشائى سمعه من المشير عبدالحكيم عامر عن قدرة قواتنا على سحق إسرائيل وتحرير تل أبيب. فى الخامس من يونيو 1967 وقعت الواقعة، وحدثت النكسة، وخرج عبدالناصر يعلن للناس ما هو معلوم لديهم بالضرورة من أنه المسئول الأول عن النكسة.

أيام السادات عاين المصريون أحداثاً ومشاهد جساماً بدءاً من العام 1977. فى ذلك العام اتخذ السادات قرارات يناير الشهيرة وعلى أثرها اندلعت مظاهرات عارمة فى كل أنحاء البلاد أجبرت الرئيس على التراجع عنها. بعد هذه الواقعة كانت خميرة الغضب لدى المصريين تزيد. وهو ما لم يشأ السادات أن يبصره أو يتأمله. تولد لديه إحساس بأن السر فى إثارة الجماهير هو المثقفون اليساريون وفلول العهد الناصرى الذين يؤلبون الرأى العام عليه. وعندما اتخذ السادات قراره بزيارة إسرائيل وإبرام اتفاقية سلام معها كان لديه ثقة كاملة فى أن الشعب يبارك خطواته، وراضٍ عن إجراءاته، وأن بعض المعبرين عن غضبهم من الخطوة مدفوعين أيضاً بذلك النفر من اليساريين والناصريين. مؤكد أن من عاصر الأحداث التى شهدتها مصر بدءاً من عام 1979 وحتى 1981 كان يبصر العديد من الشواهد التى تدل على أن خطراً ما يتشكل فى الأفق، الوحيد الذى لم يكن يرى هذه المخاطر هو الرئيس السادات، أراد أن يغمض عينيه عما يراه الجميع ثم يتخذ ما يشاء من قرارات.. خسر بها كثيراً. يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِى الْأَلْبَابِ...} صدق الله العظيم.