«تميم» ناظر مدرسة «الدعاة الحكواتية»

يذكر «الذهبى» فى كتابه «سير أعلام النبلاء» أن أول مَن قصَّ فى المساجد والأندية هو «تميم الدارى»، استأذن «عمر»، فأذن له، فقصَّ قائماً. وهو بطل حديث «الجسّاسة» أو «المسيخ الدجال». وينقل الحديث حواراً مثيراً بينه وبين النبى صلى الله عليه وسلم، يضم مجموعة من المشاهد المدهشة حول شكل «الدجال» وعلامات خروجه. وقد مكث سنين يستأذن «عمر» فى القصص، ويأبى عليه، فلما أكثر عليه، قال: ما تقول؟ قال: أقرأ عليهم القرآن، وآمرهم بالخير، وأنهاهم عن الشر. قال «عمر»: ذاك الربح. ثم قال: عِظ قبل أن أخرج للجمعة، فكان يفعل ذلك. فلما كان «عثمان»، استزاده، فزاده يوماً آخر.

كان من الطبيعى أن يتوسع الحكى -أيام «عثمان»- وينصرف الناس إلى الواعظين بالقصص التى تختلط فيها الحقائق بالأوهام، لكن الأمر المثير أن يحدث ذلك أيام «عمر» أيضاً، فى وقت يشير فيه بعض المؤرخين إلى أن «عمر» كان يرفض الممارسات الحكائية لتميم الدارى. فقد أورد ابن الجوزى وغيره أخباراً عن «عمر»، رضى الله عنه، تدل على أنه لم يكن يستريح إلى القصص. فمن ذلك خبره مع تميم الدارى وخبره مع الحارث بن معاوية الكندى، فقد خوّفه «عمر» من أن يكون القصص سبباً للعجب حتى يقوده ذلك إلى الهلاك. قال: «أخشى عليك أن تقص فترتفع عليهم فى نفسك، ثم تقص فترتفع، حتى يُخيّل إليك أنك فوقهم بمنزلة الثُّريا فيضعك الله عز وجل تحت أقدامهم يوم القيامة بقدر ذلك». ويتناقض هذا الكلام مع ما يرويه «ابن كثير» عن الحافظ البيهقى، من حديث عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن الجريرى، عن معاوية ابن حرمل، قال: خرجت نار بالحرة، فجاء «عمر» إلى تميم الدارى فقال: قُم إلى هذه النار، قال: يا أمير المؤمنين، ومَن أنا وما أنا؟. قال: فلم يزل به حتى قام معه، قال: وتبعتهما، فانطلقا إلى النار، فجعل «تميم» يحوشها بيديه حتى دخلت الشعب، ودخل «تميم» خلفها، قال: فجعل «عمر» يقول: ليس من رأى كمن لم يرَ، قالها ثلاثاً.

نحن أمام مشهد آخر موغل فى الخيال يظهر فيه الخليفة عمر وقد حيّرته نار خرجت بمنطقة الحرة بالمدينة المنورة، فلا يجد أمامه إلا الاستعانة بتميم الدارى -صاحب الكرامات- فيحوشها الأخير بيده ويروضها حتى تدخل من حيث أتت، فيردد «عمر»: «ليس من رأى كمن لم يرَ» أمام المشهد المدهش الذى عاينه. وحقيقة الأمر فإن مواقف عديدة أخرى لـ«عمر» تدل على عقلانيته وعدم استجابته للأساطير والخرافات بسهولة تجعلنا نتحفظ كثيراً على هذه الرواية، لكنها من ناحية أخرى تضعك من جديد أمام نمط أداء «تميم الدارى» الذى أورث الدعاة والوعّاظ عبر العصور سلسلة من السمات جعلت خطابهم قادراً على إطراب العوام، بقدر بُعده عن الحقيقة واختراع الحكايات التى ترتقى إلى مستوى الخرافات والأساطير.