الرؤية الاستراتيجية لحلقات الحصار التركى (1/2)

جمال طه

جمال طه

كاتب صحفي

تأسيس أردوغان «قصر السلطان» على مساحة 200.000 م2، بتكلفة 600 مليون دولار، كمقر للحكم، جاء تعبيراً عن رمزية تاريخية، تحاول تركيا فيها استعادة تمدد الدولة العثمانية.. سقوط إخوان مصر، وتواريهم بتونس والأردن، ونكساتهم بالمشرق والجزيرة العربية، فرض التعامل مع المنطقة كمجال حيوى للنفوذ، تتم السيطرة عليه بسلسلة حلقات حاكمة تحاصرها من كافة الاتجاهات، بدءاً بقبرص، مروراً بسوريا، العراق، قطر، إثيوبيا، الصومال، وانتهاءً بالسودان، حلقات الحصار التركى تحتاج لإطلالة، من خلال رؤية استراتيجية متعمقة، لأن مخاطرها ربما تفوق إسرائيل.

تركيا عقدت اتفاقاً عسكرياً مع قطر ديسمبر 2014، لـ«التدريب، والتصنيع الحربى، والمناورات المشتركة»، وذلك بعد إسقاط إخوان مصر، وسحب دول الخليج سفراءهم من الدوحة.. إنشاء قاعدة «الريان» التركية بدأ نوفمبر 2015، والاتفاق تم تحديثه لمواجهة «التهديدات المشتركة» أبريل 2016.. فى 7 يونيو 2017، وبعد يومين من فرض الحصار العربى وافق البرلمان التركى على نشر المزيد من القوات لتصل لـ5000 جندى، مدعومين بالقوات الجوية والبحرية.. خطورة التعاون العسكرى التركى القطرى ترجع لضخامة القدرات المالية للأخيرة، ما يمكنها من شراء أسلحة متطورة لاستخدامات القوات التركية، الأمر الذى يهدد التوازن بالخليج، ويحول قطر لمخلب قط بدول المنطقة.. والأخطر، أن «الريان» ستحل محل «العيديد» بعد الانسحاب الأمريكى من المنطقة.. كما حلت القوات البريطانية محل الأمريكية فى البحرين.

تفكك الدولة الصومالية وسقوطها كان مدعاة لتجاهل دول العالم لها.. لكن تركيا على العكس، وجدتها فرصة، فالتعامل مع الدولة الفاشلة أيسر من الرشيدة، رغم مخاطره.. اجتذبتها أهمية الموقع، تابعت عن قرب، خططت، وأحسنت المبادرة.. وهو ما يفتقده العرب، رغم أنهم الأحوج.. يا أبانا الذى فى المخابرات، انتبه، فتلك مسئولية تاريخية.

أردوغان زار مقديشيو مرتين، الأولى 2011، ضخ مساعدات إنسانية واقتصادية وتنموية تتجاوز مليار دولار، ووجه أجهزته لتلبية حاجة الصومال لبناء مؤسساتها، وعلى رأسها الجيش.. الاتفاقية العسكرية وقعت ديسمبر 2012، لإعادة تأهيل وتدريب قوات النخبة، ومكافحة الإرهاب، وأمن الحدود.. الزيارة الثانية 2015، وقع تسع اتفاقات للتعاون الاقتصادى والتجارى.. قاعدة مقديشيو افتتحت أكتوبر 2017، على مساحة 400 كم2، بتكلفة 50 مليون دولار، تضم ثلاث مدارس تعليمية، وثلاثة مجمَّعات سكنية، قوتها 200 عسكرى تركى، يمكن زيادتهم لـ1000، تتسع لتدريب نحو 1500 جندى فى الدفعة الواحدة.. الوجود التركى لم يحظ بالقبول؛ حركة الشباب الإرهابية هاجمت السفارة التركية بعد توقيع الاتفاق العسكرى، ثم اعتبرت القاعدة هدفاً.. وبعض حكام الولايات، ورؤساء القبائل والعشائر رفضوا وجودها.. وتلك مرتكزات للحركة العربية!!.

التفاهمات التركية السودانية لإنشاء قاعدة «سواكن» بدأت منتصف 2016، مع الهزائم النهائية لـ«داعش» بالعراق وسوريا، وتكفُل تركيا بمسئولية إعادة نشر فلولها، كما جمعتهم من قبل، ما أكد أن مصر هى الهدف، خاصة بعد أن بدأت السيطرة على عمليات التسلل عبر حدودها الغربية.. الجزيرة كانت مركزاً للبحرية العثمانية، ومقراً لحاكم جنوب البحر الأحمر «1821/1885»، تبعد قرابة 350 كم عن كل من ميناء جدة، ومثلث حلايب، وبالتالى تهدد السعودية ومصر، وتسيطر على الطريق المؤدى للقناة.. أردوغان وقع 22 اتفاقاً، بعضها يتعلق بأمن البحر الأحمر!!، نفى بناء قاعدة عسكرية، لتجنب إحراج السودان على نحو ما تم من قبل مع الصومال، لكن سوء تبريراته فضحته «سواكن ستكون محطة لحجاجنا قبل توجههم لمكة!!»، رغم أن المسافة من تركيا للجزيرة أطول كثيراً من نظيرتها لمكة، قبل إضافة المسافة منها إلى جدة.. وعنجهيته كشفت المستور «هناك ملحق سرى للاتفاق».. إخلاء «سواكن» بدأ بالفعل، بمعرفة لجنة حكومية، تتولى تعويض الأهالى، ما يؤكد الطبيعة السرية للأنشطة التى ستتم عليها.. قبل شهر من إعلان الاتفاق عرض البشير على بوتين إنشاء قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر، إلا أن الأخير اعتذر.. هى إذن عملية بحث سودانية عن شراكة استراتيجية موجهة للسعودية ومصر.. فهل راجعت المملكة موقف القوات السودانية المشاركة فى حرب اليمن؟!.. أم ستكرر مأساة الاختراق القطرى، الذى دعَّم الحوثيين، أكثر مما استهدفهم؟!.

عملية صياغة الإطار العسكرى لحلقات الطوق التركى جسَّدها اجتماع رئيس الأركان التركى بنظيريه القطرى والسودانى بالخرطوم، فى وجود أردوغان، وزيارتاه لتشاد وتونس بحدودهما المشتركة مع ليبيا، رغم أن تركيا لم تكن تهتم بهما عندما كانت قادرة على التواصل المباشر مع التنظيمات الإرهابية فى ليبيا، قبل تدخل الطيران المصرى، والتنسيق مع البحرية اليونانية والقبرصية والأوروبية فى الرقابة على السواحل الليبية، زيارة أردوغان لنجامينا كانت محاولة لرأب الصدع فى علاقتها بقطر، نتيجة طرد تشاد طاقم السفارة القطرية بنجامينا يونيو 2017، بعد اكتشاف تمويلها للمعارضة التشادية، التى شاركت فى الهجوم على الهلال النفطى مارس الماضى، وزيارته لتونس استهدفت دعم المعارضة الإسلامية، ومحاولة استنساخ أحداث الربيع العربى، وهو ما فجر الأوضاع بحجة ارتفاع الأسعار، تركيا تبحث عن منافذ برية لاستمرار دعمها للإرهاب فى ليبيا، حفاظاً عليها كمنفذ لإرهابيى مصر.

تركيا تدرك أهمية المياه لمصر، لذلك تحرص على امتلاك قدرة التأثير على دول المنابع، الاستثمارات التركية هى الأكبر فى إثيوبيا، متفوقة على الصين والهند، حجمها 3 مليارات دولار، 350 شركة، يعمل بها قرابة 500.000 إثيوبى، استثمرت مشكلة سد النهضة، وسارعت بتوقيع اتفاق للتعاون الدفاعى مع أديس أبابا مايو 2013، يتضمن تقديم الدعم الفنى واللوجيستى، لزيادة القدرات العسكرية لإثيوبيا، والتعاون فى مجال الصناعات الدفاعية، وشاركت فى بناء شبكة الدفاع الجوى التى تؤمن «سد النهضة».

حلقات الحصار العسكرى التركى تحظى بموافقة أمريكية، وإلا ما سمحت لها بالتمركز بجوار القواعد الأمريكية، فى العيديد بقطر، وكيسمايو بالصومال، واشنطن تدرك أن تركيا تعتمد على الجماعات المحلية كمرتكزات لاستراتيجيتها، لكنها تتغافل عن حقيقة أن بعض أطقم القراصنة الذين هددوا الملاحة الدولية فى بحر العرب وخليج عدن، وكادوا يتحولون لأدوات منظمة للتأثير على الملاحة فى البحر الأحمر والقناة، تخرجوا من مراكز التدريب التركية، مصر ينبغى أن تتحسب لمخاطر الوجود التركى، بقرارات جريئة، تحفظ أمنها، وتعبر عن قوتها الضاربة، على النحو الذى يدخلها فى حسابات التوازن بالمنطقة، فالسلاح مهما تم اقتناؤه، لا يدخل ضمن معايير القياس ومعادلات التأثير، إلا عندما يعبر عن وجوده فى صورة قرارات رادعة، تفرض سياجاً من الحماية حول مصالح الأمن القومى للدولة، وتردع الآخرين عن الاقتراب منها.. تفاصيل ذلك، واستكمال رصد باقى الحلقات «سوريا، العراق، وغزة»، وتحليل أبعاد دائرة الحصار، ومواجهتنا له.. الأسبوع المقبل إن شاء الله.