"الغُلو" بين الدين والسياسة.. دين أمريكا ودين داعش
- أرض الواقع
- الإدارة الأمريكية
- الاتحاد السوفيتي
- البنك الدولي
- الحياة اليومية
- الدول النامية
- جلسة عرفية
- صعيد مصر
- صندوق النقد
- آليات
- أرض الواقع
- الإدارة الأمريكية
- الاتحاد السوفيتي
- البنك الدولي
- الحياة اليومية
- الدول النامية
- جلسة عرفية
- صعيد مصر
- صندوق النقد
- آليات
في غرفة كبيرة بمنزل على أطراف محافظة بابل العراقية، جمعت كبار العشائر بمحافظ الإقليم في جلسة عرفية، اخترت لنفسي زاوية بعيدة كي أراقب المشهد الذي رُسمت تفاصيله في دهاليز عقلي دون أن تبارحه حتى اللحظة، كنت محملا بأفكار مشوشة خلال رحلتي من القاهرة للعراق، معتمدا على وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، استعمرت مخيلتي صور العنف بلون الدم العراقي، وحينما وطأت أرض الواقع رأيت تناقضا رهيبا بين الشمال والجنوب، بين ما يعيشه الساسة وبين الحياة الطبيعية في مدن وقرى توازي صعيد مصر.
قادة الجلسة كانوا مكلفين، تقليديا، بمهمة احتواء أزمة ناشئة بين قبيلتين، ورغم مساحات الغضب التي فرضت نفسها على بعض الوجوه من الطرفين، إلا أن القانون العرفي والتقاليد فرضا النظام على الجميع بلا استثناء، الحديث بنظام، والمقاطعة بنظام، حتى إبداء الغضب يجب التعبير عنه وفق آلية محددة، وأثناء الجدل الثائر، دون أن يعلو صوت على الآخر، لم ألحظ عداءً بين الحضور رغم خصومتهم، اختلفت مذاهبهم ووحدتهم الأرض وتفاصيل الحياة اليومية، فملئت شغفا بالتحدث إلى أحد كبار العشائر، لأستلهم منه رجاحة العقل وأكشف عن مضامين ثقافته فيما يخص إشكالية الطائفية التي كانت مثارا للجدل في كل الوسائل الإعلامية بلا استثناء، وجدت في كلماته فكرا فلسفيا مغلفا ببساطة العوام، تفسيره للطائفية كان واقعيا وبسيطا، وصّف الحالة بأنها نتاج صراع الأفكار وحروب الساسة، فالصراع الفكري شطر المسلمون إلى فرق كل منها يدافع عن أفكاره التي يؤمن بها، وفي الغالب خطها بشر غير معصومين، ثم تلقف الأذكياء تلك الأفكار لتكون مرجعا ودستورا تضمن طاعة العوام وسيطرة الحكام، كما أن صراع الحضارات هو في الأصل صراعا فكريا تطور إلى حروب اقتصادية ودينية ومذهبية وسياسية هدفها النهائي، الدفاع عن البقاء، والبقاء هنا لا يكمن في الجغرافية والحدود وحدها وإنما يتجسد أيضا في النظريات والأفكار على اختلاف تنوعها التي يمثل هدمها نهاية لسيطرة المنتفعين منها سواء السياسية أو الاقتصادية أو الدينية.
استخلصت من حديث الرجل أن إنتاج الأفكار وإعمال العقل يتزامن مع احتمالية ظهور الغلو والتطرف الفكري، ولا يقتصر الأمر على الاجتهاد الديني الفقهي، وهو المنتج البشري المفسر للتعاليم، وإنما يمتد الأمر إلى النظريات المادية، فالاشتراكية والرأسمالية نظريات حملت غلوا في بعض جوانبها، وحفل تاريخها بصراع البقاء، وبالتالي فإن الغلو والتطرف آفة قد يقع فيها الإنسان سواء كان عالم دين أو سياسة أو أيا ما يكون.
وكما يدافع علماء الدين عن مذاهبهم وعناوينها العريضة المعبرة عن المنتوج البشري المفسر للأحكام على اختلاف تنوعها، يدافع أيضا أنصار النظريات المادية عن قناعاتهم الفكرية، عبر أسلوب يكاد يكون واحدا، حيث يعتقد أتباع المذهب أو أنصار النظرية السياسية أو الفلسفية أنهم الأصوب وما عادى قناعاتهم من أفكار ونظريات لا ترقى إلى مستوى الحقيقة التي تسكن رؤوسهم، وعادة ما يترتب على الصراع الفكري إقصاء وتشويه، فالفرق الإسلامية تتناحر فيما بينها منقسمة على ذاتها رغم نقاط الاتفاق، يتناوبون على بعضهم سبا وقذفا ثم يحملون السلاح في مواجهات ظاهر أسبابها ممنطق، وباطنها دفاع عن معتقدات لا ترقى إلى أن تكون تعاليم ربانية، لتكون المحصلة في النهاية شهداء بالألاف وأرامل تبحث عن من يعول أيتماها.
وفيما يخص الأفكار المادية، لا يختلف الوضع كثيرا، فالاشتراكية أطاحت بالإقطاع، وبعد شيوعها كان صراعها مع الرأسمالية، التي نجحت في وأد الفكر الإشتراكي إثر حروب فكرية وصراعات مسلحة دامية انتهت بتفتيت الاتحاد السوفيتي لتنتصر الرأسمالية على الاشتراكية وتسود تعاليمها كل العالم، وتتحول آليات تطبيقها إلى شرط للبقاء بين مجتمعات الاقتصاد الحديث، فما يفرضه البنك الدولي وصندوق النقد على الدول النامية من شروط، يصب في إطار نشر الرأسمالية وزيادة رقعة سيطرتها على اقتصادات العالم، وكأنها دين جديد يبشر به من يؤمنون بقداستها، ليتساوى سلوك قهر الشعوب بالفقر وتمزيق المجتمعات إلى أقلية ثرية وأكثرية فقيرة، وفق آليات الرأسمالية، مع الداعشي الذي يصوب فوهة بندقيته إلى صدر إنسان بترخيص أجازته فتوى دينية.. تتساوى البلطجة الأمريكية الراهنة لإجبار العالم على الانخراط في الاقتصاد المفتوح، تنفيذا لفتاوى الرأسمالية، مع محاولة الدواعش فرض دولتهم الدينية الجديدة، فلا زالت الإدارة الأمريكية متمسكة بالتبشير الأمريكي للسيطرة على مقدرات الدول لتكون القطب الأوحد الذي يحكم العالم ويبقى الدولار سيدا على الجميع.