متحف الزعيم فى منشية البكرى.. هنا عاش «موحِّد العرب»

كتب: رضوى هاشم

متحف الزعيم فى منشية البكرى.. هنا عاش «موحِّد العرب»

متحف الزعيم فى منشية البكرى.. هنا عاش «موحِّد العرب»

رحلة طويلة قطعتها سناء على من محافظة الأقصر، وكان هدفها متحف الزعيم جمال عبدالناصر، المقام بمنزله فى منطقة منشية البكرى بالقاهرة، جاءت «سناء» لتلقى نظرة على مقتنيات الزعيم لتعود بها إلى زمن مفقود، وما إن وطئت قدماها باب المتحف حتى بدأت فى بكاء لم ينقطع طوال رحلتها داخل المتحف وهى تراقب صورته الضخمة فى مدخل المتحف، والتى ذيلت بعبارته الخالدة «لا نقاتل لنغلب، ولكننا نقاتل لنتحرر، ونحن لا نقاتل لنتوسع، ولكننا نقاتل لنحيا».

وتمر أعين الزائرين على مشاهد لا تنسى.. غرفة المكتب، التى شهدت أهم القرارات الناصرية، حيث كتبه وأقلامه وهاتف شهد استدعاء مجلس قيادة الثورة لاتخاذ قرار التأميم.. أسطوانات أم كلثوم.. غرفة النوم التى تضم ملابسه.. ربطات العنق.. قبعة حمته من البرد فى شتاء روسيا أثناء رحلة العلاج من مرض عضال.

«عبدالناصر لم يرحل.. عبدالناصر يعيش فى قلوب كل مصرى.. فى أنشودة حب ورّثناها لأبنائنا وأحفادنا.. هو الزعيم والقائد وأبوخالد وحبيب الشعب».. قالت السيدة الستينية، واستطردت: «صورة ناصر محفورة فى الوجدان، وبالرغم من أن تلك زيارتى الأولى لمنزله، فإننى أعرفه بتفاصيله.. كانت الجريدة الناطقة نافذتنا التى نقلت الأحداث بحلوها ومرّها، فداخل غرفة الاستقبال كانت لقاءاته مع قادة أفريقيا ودول عدم الانحياز».

{long_qoute_1}

ومن أمام تمثال الزعيم، الذى يتوسط طوائف الشعب والذى صممه النحات الكبير جمال السجينى لوضعه فى ميدان التحرير والموجود فى قاعة الهدايا والأوسمة والنياشين، وقفت «سناء» وهى تبكى: «ما زلنا نبكيه وكأن رحيله كان امبارح، 47 عاماً مضت على غيابه وما زالت صورته تتوسط منزلى.. كان خبر وفاته فاجعة.. كيف؟ ومتى؟ كان يقف منذ قليل وسط الزعماء العرب يصافح كلاً منهم.. خرجنا جميعاً يومها رافضين تصديق خبر رحيله، سارع والدى إلى أقرب قطار وسط الآلاف، ومن محطة رمسيس سار إلى كوبرى القبة، حيث تمت مواراته الثرى، سيراً على الأقدام.. كان يروى لنا عن جنازة لم ير التاريخ مثلها.. كان كل مصرى يبكيه وكأنه أقرب قريب.. حشود غفيرة تسير من نساء ورجال وشباب وشيب.. ينتحبون ويصيحون فى صوت واحد (يا جمال يا حبيب الملايين)».

«ثمانية عشر عاماً هى كل سنوات حكمه، كانت كافية لإيقاظ أحلام القومية العربية».. قالها رائد خطاب، فلسطينى، وأضاف: «كان بطلنا القومى الذى استطاع نشر حلم الوحدة فى العالم العربى ورفض الاستعمار الغربى، وقف مع القضية الفلسطينية وحارب لأجلها، كانت كل آمالنا معلقة به لحل قضية ماتت برحيله».

وتابع: «كنت فى سنواتى الجامعية الأولى وكنت أعيش فى مصر.. كانت مشاعرنا كعرب متوحدة خلف حلم واحد يتزعمه جمال عبدالناصر.. كنا نستيقظ كل يوم على إنجاز جديد، فمن تأميم القناة إلى بناء السد.. توزيع الأراضى على أصحابها الفلاحين.. الإصلاح الزراعى.. كانت كل خطوة يخطوها بمثابة ميل.. ليس للمصريين فقط ولكن لكل العرب.. لا يوجد منزل فى البلاد العربية من الخليج إلى المحيط لا يوجد به اسم ناصر أو جمال.. سمينا أولادنا باسمه تيمناً به وأيضاً بأسماء أولاد الزعيم، هدى ومنى وعبدالحكيم وخالد، لتصبح ألقابنا مثله (أبوخالد)». {left_qoute_1}

محمد قاسم، كهل بحرينى، يتوكأ على عصاه، أخرج من طيات ملابسه صورة عفى عليها الزمن إلا أنها لا تغادر ذاكرته.. إنها صورة لجنازة شعبية خرجت من كل شبر فى العالم العربى لوداع «عبدالناصر»: «لم نكن نقول هذا مصرى وذاك بحرينى أو سورى أو فلسطينى.. كنا نقول هذا عربى من قومية جمال عبدالناصر».

«فى هذا المتحف أعيش حالة إنسانية.. المتحف تحول من مزار لرئيس مصرى إلى قبلة لمحبيه من كل الوطن العربى.. خمسة آلاف زائر من ليبيا وفلسطين وتونس ولبنان وسوريا والعراق واليمن.. يزورون المتحف يومياً.. بعضهم يأتى أكثر من مرة.. أعمار مختلفة أغلبهم كبار سن».. قالت نادية أحمد كمال، مديرة متحف الزعيم.

وتابعت: «لم أشهد عصر الزعيم جمال عبدالناصر ولم أكن أتوقع أن أمر بمثل تلك التجربة.. زرت عشرات المتاحف فى مصر وخارجها لشخصيات ملهمة إلا أن ما اختبرته منذ تولى إدارة المتحف لم أشهده فى أى مكان آخر.. وفود كاملة من كل بقاع الوطن العربى تنتحب وتبكى بمجرد دخولها المتحف.. حالة من الرهبة تنتابهم أمام قناع لوجه يحمل ابتسامة الزعيم ومجسم لليد اليمنى وهى منحوتة غير عادية حملت بطاقتها اسم (قناع الحياة)، وفى الحقيقة هو قناع الموت، ليس كباقى المنحوتات التى نفذت وهو على قيد الحياة، ولكنها منحوتة قيل إن جمال السجينى نفذها عقب وفاة «عبدالناصر» مباشرة ودون علم أسرته، حيث قام بصب الجص على وجه الزعيم للاحتفاظ بملامحه وعمل منحوتة أكبر.. تلك القطعة تحديداً يقف أمامها الزوار وقتاً طويلاً يتأملون وجه الزعيم.. يحاولون استنشاق عبيره داخل غرفة نومه.. ومن أمام خزانة ملابسه تسبقهم مشاعرهم.. وصمتت «نادية» قليلاً قبل أن تستكمل وهى تبكى: «من أكثر ما أثر فىّ كان هناك سيدة سبعينية ورجل سورى قاما بتقبيل رأسى وسط فيض من المشاعر لمجرد أننى أدير هذا المكان».

وعن قصة المتحف قالت مديرته: «قام الرئيس السيسى بافتتاح المتحف فى 28 سبتمبر 2016، وذلك بالتزامن مع الذكرى السادسة والأربعين لوفاة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ومنذ ذلك الحين يتوافد المئات يومياً عليه، وكان على رأسهم السيدة حرم الرئيس ومعها 17 زوجة وزير، وجمال وسامية نيكروما، ابنا الزعيم الغانى نيكروما».

وواصلت: «يبدأ عملنا بجولة الزوار بالمتحف بأن نشرح لهم فكرة المتحف، الذى بدأت أعمال إنشائه منتصف عام 2011 بعد الانتهاء من استيفاء كافة الدراسات والوقوف على التصور النهائى لهذا المشروع الثقافى المهم، بعد أن وافقت أسرة الرئيس الراحل على تقديم كل متعلقاته الشخصية، وبدأ العمل فى المنزل الذى يقع على مساحة 13.400 م2 تشمل مبانى من دورين على مساحة 1.300 م2 والباقى حديقة خاصة للبيت، وقد انقسمت خطة العمل بالموقع إلى ثلاث مراحل، الأولى لأعمال ترميمات المبنى الذى ظل مهجوراً منذ وفاة زوجة الزعيم، والثانية للتشطيبات النهائية، أما المرحلة الثالثة فقد شملت تجهيز البيت للعرض المتحفى».

وقالت: «تعتمد فكرة سيناريو العرض على تناول شخصية وسيرة وحياة الرئيس جمال عبدالناصر من خلال ثلاثة محاور تختلف باختلاف محتوى العرض، وبالتالى فإن طبيعة المعروضات هى أساس تقسيم السيناريو، بحيث تقسم الزيارة إلى ثلاث جولات متحفية تعرض كل منها جانباً من جوانب حياة الرئيس عبدالناصر، فى بيت يحدثنا عن ساكنه، أحداث تنسب لصانعها، ومقتنيات تؤرخ لصاحبها».

وتضيف مديرة متحف الزعيم: «الراوى فى المسار الأول هو المكان متمثلاً فى البيت، وهو فى الحقيقة يمثل جزءاً من البيت وليس البيت كله بطبيعة الحال، وقد تم الاحتفاظ بالقاعات الرئيسية التى يتوجب الحفاظ عليها دون أى تغيير والمتمثلة فى مكتب الرئيس بكل من الدورين الأرضى والأول والصالونات الملحقة بها، بالإضافة إلى غرفة نوم الرئيس وغرفة المعيشة وصالونين بالدور الأرضى، وذلك لإعطاء صورة كاملة للزائر عن الشكل الذى كان عليه البيت وطبيعة الحياة بداخله، وقد تم تخصيص عدد من الغرف بالدور الأول بالجزء المخصص للبيت لتجهيزها متحفياً لعرض متعلقات الرئيس الأقرب للوجود بالبيت، وهى المتعلقات الشخصية كالملابس والأدوات الشخصية».

وتابعت: «ينتقل مسار الزيارة بعد ذلك إلى الدور الأول، وهنا يكون التفاعل غير طبيعى، ومما رأيته بنفسى كان هناك وفد لبنانى يتفاعل مع العرض ويصفق مع خطاب التأميم ويبكى مع خطاب التنحى وينتحب مع الوفاة، حيث يحوى هذا المسار ذو الاتجاه الواحد تاريخ حياة الرئيس عبدالناصر من خلال الأحداث التى شهدها وصنعها».

ويبدأ المسار، بحسب «نادية»، بالدور الأرضى بتمهيد عن وضع مصر قبل ثورة 1952 والأحداث السياسية والاجتماعية التى عجلت بقيام الثورة، ثم ينتقل الزائر إلى الدور الأول، حيث يتابع سرد الأحداث بعرض الفترات الزمنية المتلاحقة والأحداث الرئيسية التى شهدتها مثل معركة السد العالى وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثى على مصر والوحدة بين سوريا ومصر ونكسة 67، وحرب الاستنزاف، وذلك من خلال عرض يعتمد فى الأساس على وسائط الفيديو والوسائط السمعية، بالإضافة إلى مجموعة من المعروضات المتعلقة بالأحداث المختلفة والمؤرخة لها، وينتهى المسار بمشهد الجنازة الذى يختتم فصلاً من فصول تاريخ مصر على مرثية (وداعاً يا حبيب الملايين).


مواضيع متعلقة