عدد خاص| فى ذكرى مرور مائة عام على مولد الزعيم.. مكانك فى القلوب يا «جمال»

عدد خاص| فى ذكرى مرور مائة عام على مولد الزعيم.. مكانك فى القلوب يا «جمال»
- جمال عبدالناصر
- عبدالناصر
- مولد الزعيم
- ذكرى ميلاد عبدالناصر
- جمال عبدالناصر
- عبدالناصر
- مولد الزعيم
- ذكرى ميلاد عبدالناصر
كان هنا.. خطواته مطبوعة على هذه الأرض، وصوته مسموع فى فضائها، ورائحته تسرى كما النسيم فى ليلة حارة.. كان هنا.. فى بساطة وهدوء قرى وأحياء «بنى مر»، و«باكوس»، و«الجمالية»، و«منشية البكرى»، و«كوبرى القبة».. فى صخب وازدحام مدن ومحافظات «الإسكندرية»، و«القاهرة»، و«أسوان، و«أسيوط»، «والمنيا».. فى شيطنة وشقاوة تلاميذ مدارس «الخطاطبة»، و«النحاسين»، و«النهضة».. فى أناقة وانضباط طلبة «الكلية الحربية»، و«القادة والأركان».. فى عراقة وتفرد مبانى التليفزيون، و«مجلس قيادة الثورة»، ومجلس الوزراء، وقصور «عابدين»، و«القبة»، و«المنتزه» و«رأس التين».. فى شموخ السد العالى، واستكانة قناة السويس، وصهد «الحديد والصلب»، ونقاء «مجمع الألومنيوم»، ورشاقة برج القاهرة.. فى ضراوة معارك القتال على جبهات «الفالوجة»، و«غزة»، و«سيناء»، و«بورسعيد»، و«السويس».. فى ثورات ونضال شعوب فلسطين وسوريا والعراق واليمن والجزائر والسودان والمغرب وليبيا.. فى ضيافة وحفاوة رؤساء كوبا ويوغوسلافيا وإندونيسيا وباكستان والهند والاتحاد السوفييتى والصين الشعبية.. فى مواجهة صلف وغرور أمريكا وإسرائيل وإنجلترا وفرنسا.. فى قلب أفريقيا، وعقل أوروبا، ودائرة اهتمام آسيا.. فى صوت «أم كلثوم»، وأغانى «عبدالحليم»، ورنة عود «فريد الأطرش»، وألحان «محمد عبدالوهاب».. فى أشعار «صلاح جاهين»، و«فؤاد حداد»، و«عبدالرحمن الأبنودى»، و«أحمد فؤاد نجم»، و«نزار قبانى»، و«صلاح عبدالصبور».. فى صحافة «محمد حسنين هيكل»، و«مصطفى أمين»، و«أحمد بهاء الدين»، و«ناصر الدين النشاشيبى».. فى ثقافة «ثروت عكاشة»، وأدب «يوسف إدريس»، وسينما «صلاح أبوسيف»، وإبداعات فرقة «رضا».. فى تشخيص «أحمد زكى»، و«رياض الخولى»، و«خالد الصاوى»، و«جمال سليمان».. فى الزيّ «الكاكى»، والبدلة الصيفى، والبيجامة «الكستور».. فى الجبن القريش، و«شاى التموين»، و«سكر الجمعية».. فى وجدان كل باحث عن الكرامة، وكل حالم بالاستقلال، وكل مجاهد فى سبيل أمته ووطنه، كان هنا ولا يزال القائد والزعيم جمال عبدالناصر.
سيرة خالدة لزعيم خالد امتدت بطول مائة عام، بدأت فى اللحظة التى فتح فيها «جمال» ابن «عبدالناصر حسين»، موظف البريد أسيوطى الأصل، عينه على الدنيا للمرة الأولى فى شارع «قنوات» بحى «باكوس» بالإسكندرية يوم الثلاثاء 15 يناير عام 1918، كان «جمال» هو أول أبناء «عبدالناصر»، من زوجته «فهيمة» ابنة محافظة المنيا، جاء الاثنان إلى الإسكندرية لظروف عمل الزوج وسكنا فى منزل «باكوس» الذى استقبل الصرخة الأولى للابن البكرى. وقتها لم تكن مصر قد تعرفت على مصيرها، فى ظل الحماية التى أعلنتها بريطانيا عليها مع اشتعال الحرب العالمية الأولى فى عام 1914، وكانت أربعة أشهر تقريباً قد مرت على تنصيب البريطانيين للأمير «أحمد فؤاد»، الذى عرفه المصريون مقامراً وسكيراً، سلطاناً على مصر، وكان «جيمس بلفور» وزير الخارجية البريطانى قد منح وعده المشئوم قبل أكثر من شهرين لليهود بإقامة «وطن قومى» لهم على أرض فلسطين، وكان «سعد زغلول» لا يزال وكيل الجمعية التشريعية، و«محمد فريد» فى المنفى، و«مصطفى كامل» تحت التراب، ومصر كلها فى حالة مخاض مؤلم لن تفيق منه إلا مع اشتعال ثورة 1919، بعد ما يقرب من عام كامل.
فى غبار كل تلك الأحداث سطع نجم «جمال».. تفتح وعيه على الحركة القومية المطالبة بجلاء الإنجليز عن مصر، واستقلال السيادة الوطنية، وبناء جيش مصرى قوى، والقضاء على الظلم والجهل والفقر والمرض، الأمراض العضال التى تفشت وسط الفقراء، عرفها وخبرها جيداً لأنه كان واحداً منهم، عاصر بزوغ الحركات الوطنية، حاول الانضمام إلى إحداها، دخل المدرسة وتخرج فيها، شارك فى المظاهرات وأصيب برصاص الإنجليز، التحق بالكلية الحربية وأصبح ضابطاً، رحل إلى فلسطين ملبياً واجب الجهاد ضد الحركة الصهيونية، قاتل وحوصر وفاوض ثم عاد مرة أخرى للقاهرة، بعد أن مُنى العرب بهزيمتهم الأولى فى أول حروبهم ضد إسرائيل، أسس تنظيم «الضباط الأحرار»، وقاد وحدات الجيش فجر يوم 23 يوليو عام 1952، لخلع الملك فاروق عن الحكم، وتنصيب ابنه أحمد فؤاد الثانى ملكاً على البلاد.. أصدر قانون الإصلاح الزراعى الذى منح بمقتضاه الفلاحين صكوك عتقهم من عبودية الإقطاع.. أعلن نهاية الملكية، شحن الإنجليز فى أسطولهم إلى بلادهم، وانتُخب لرئاسة مصر، وأمّم قناة السويس، وتصدى للعدوان الثلاثى، وشيد السد العالى، ودخل فى وحدة مع سوريا، وأصدر القرارات الاشتراكية، وأقر مجانية التعليم والعلاج، وناصر ثورات الشعوب فى كل ربوع الدنيا، وتحدى كل القوى الظالمة، وشجع الفن والثقافة، وأذاب الفوارق بين الطبقات، وراح صوته يهدر من المحيط للخليج، فيما يرهف الوطن العربى كله الأسماع.
غير أن الحلم الجميل انتهى بكابوس مفزع استيقظ عليه العالم مع تباشير يوم 5 يونيو عام 1967، حين شنت إسرائيل، مدعومة من الولايات المتحدة، هجومها الخاطف على مصر وسوريا وما تبقى من فلسطين، محتلة من أراضيهم ما طالته أياديها.. انكسر الزعيم وأعلن تنحيه عن الحكم، وفاجأه طوفان من البشر يموج فى شوارع مصر، يرفض الهزيمة ويطالبه بالبقاء، انصاع لرغبة الجموع، وبقى فى الحكم يجهز لمعركة التحرير، لكنه كان بقاء الموجع، لم يعد الصوت يهدر كما كان من قبل، انخفضت النبرة، واختفى لمعان العيون، ووهن القلب، وتوالت الجلطات، وصار الأطباء ضيوفاً دائمين على حجرة نومه فى منزله بمنشية البكرى، وفى مساء يوم الاثنين الموافق 28 سبتمبر عام 1970 أسلم الجسد المنهك روحه المتعبة إلى بارئها.. سكن كل شىء، ورحل الزعيم الذى كان يملأ الدنيا صخباً وضجيجاً ومقاومة وتحدياً.
راح «جمال»، لكن أحلامه لمصر بقيت كخبيئة فرعونية مدفونة فى باطن الأرض، تنتظر من ينفض عنها التراب، ويفك طلاسمها، يلتقط الشفرة الخاصة التى كانت تربط القائد بالشعب، والبلد بزعيمها، يفسر الأسباب التى جعلت من عبدالناصر مثلاً ونموذجاً لما يجب أن يكون عليه أى حاكم أو رئيس جاء بعده، يفتش عن آثار خطواته المطبوعة على هذه الأرض، وصوته المسموع فى فضائها، ورائحته التى تسرى كما النسيم فى ليلة حارة.. فقط ليثبت أنه كان ولا يزال هنا.