أجراس عيسى.. وأذان محمد..!

عندما دقت أجراس الكنائس فى منتصف ليل يوم السبت الماضى - فى نهاية «القداس الإلهى»- لم تكن إيذاناً باحتفال مصر بمسلميها ومسيحييها بعيد الميلاد المجيد فقط، بقدر ما حملت فى رناتها تجديداً للمحبة والسلام والتسامح بين أبناء وطن واحد اعتاد ألا يفرق بين من يسجد لله فى صلاته أو من يرسم صليب عيسى على صدره فى تعبده.

ساعات قليلة مرت وخيط أبيض رفيع يشق السماء ليعلن مولد فجر جديد‏.. ليرتفع الأذان من فوق المآذن ليدعو للصلاة ليؤكد مسلمو الوطن ومسيحيوه أنهم شعب واحد تربى وتعايش على أرض الوطن على فطرة الله وأوامره، سبحانه وتعالى، التى تدعو البشر جميعاً للتعايش السلمى بينهم إذ إن الجميع -عدا قلة حاقدة- يعلم أن الله هو الرب الواحد الذى بعث الأنبياء جميعهم برسالة واحدة تحمل نفس القيم الإنسانية.. فـ«دين الله واحد فى جميع الأمم»، هدوء يسود ذلك الموقع على خريطة الدنيا، الذى اصطلح على تعريف مناخه «حار جاف صيفاً دفىء ممطر شتاءً».. أصوات المساجد تتقاطع مع بعضها بـ«الأذان».. فهذا يبدأه.. فيما يختتمه الثانى.. أما الثالث فيدعو النائمين إلى الصلاة.. السكون يخيم على المكان.. وامرأة عجوز فى إحدى قرى دلتا مصر يعلو صوتها بالدعاء وهى تنحنى لتعدل سجادة الصلاة إلى القبلة كما اعتادت على ذلك فى كل فريضة لتتقاطع دعواتها مع صوت المؤذن وهو يدعو المصلين ليساووا صفوفهم.

قبل ذلك المشهد بأيام قليلة تجمع مصطفى وبيشوى وغيرهما من العمال والمهندسين «مسلمين ومسيحيين» ليرفعوا «الصليب المعدنى» الضخم لأول مرة فوق مبنى «كاتدرائية العاصمة الإدارية الجديدة» التى بدأ العمل فى بنائها منذ 6 أشهر ليتواكب مع مرور 50 عاماً على إقامة «كاتدرائية العباسية» لينجز الجميع المرحلة الأولى من هذا المشروع الضخم الذى وُضع حجر الأساس له فى مايو الماضى.

قبل هذه الأيام ومنذ عشرات السنين جدد الشاعر أحمد شوقى تبجيل الإسلام للسيد المسيح وأمه البتول مريم بقصيدة جاء مطلعها: وُلِدَ الرفقُ يَوْمَ مولدِ عيسى...... والمروءاتُ والهدى والحياء ليختمها، بقوله: إنما ينكرُ الدياناتِ قومٌ............... هم بما ينكرونه أشقياءُ.. هكذا كانت مصر وستظل رغم أنف الحاقدين.

وإذا كان يحلو للبعض إثارة فزع المجتمع من أن أحداثاً مرت قد نبعت من معين الطائفية وأن نيران تلك الآفة البغيضة «الفتنة» قد بدأت فى الاشتعال فإن أبلغ رد عليهم هو ما جرى قبل نحو 10 أيام عندما تدافع مسلمو حلوان ومسيحيوها باتجاه «الكنيسة» للدفاع عن هؤلاء المسالمين العابدين بداخلها من حقد وتآمر الإرهابيين من يدعون الإسلام..!

ما شهدته مصر وأشهدت عليه العالم أجمع منذ 25 يناير يؤكد وبحق أننا بعيدون تماماً عن تلك الفتنة.. فالكل قد توحد.. فلا أحد لفت انتباهه أن اليد التى ارتفعت بالعلم المصرى قد طبع عليها صليب عيسى عليه السلام.. أو أن الأخرى التى تجاوره قد أمسكت بالمسبحة.. ولم يجهد أحد نفسه لأن يكتشف أن «البلكونة» التى يرفرف عليها علم مصر هى جزء من شقة اعتاد ساكنوها على اللحاق بـ«صلاة الجمعة.. أو قداس الأحد».. ولم يشغل أحد باله بأن تلك الفتاة التى تصب له المياه ليتوضأ بها فى ميدان التحرير فتاة مسيحية أو أنها ترتدى خماراً أو نقاباً أو فتاة ترتدى «بودى».. ولم ينتبه أى ممن رسم على صدره صليباً بيديه فى بداية صلاته أن من يقفون حوله لحراسته من الشباب المسلم أو المسيحى..!!

وإذا كان البعض ممن يتاجرون بدين الله وإسلامه يحاولون إحداث تفرقة بين أبناء الوطن الواحد فإن أبلغ رد عليهم هو ما جاء فى كتاب الله العزيز الحكيم:

«قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِى مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِى النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» البقرة 136، قبل نحو عشرين عاماً أذكر أن الصحف خرجت ذات صباح وهى تحمل خبراً صغيراً فى ذيل صفحاتها الداخلية عن طفلين صغيرين غرقا فى مياه النيل فى شبرا المظلات، وكان هذان الطفلان هما «بيشوى وأحمد» طفلان لم يتجاوزا سن الرابعة عشرة من عمرهما..‏ ولم يعد فرزهما بعد من خلال البطاقة الشخصية بين «مسيحى ومسلم»‏ عاشا معاً فى شبرا المظلات دون أن يتوقفا أمام أن «أحمد» لا يلحق «بيشوى» فى قداس الكنيسة يوم الأحد‏.. ‏أو أن بيشوى لا يجاور أحمد فى صلاة الجمعة‏.. وعندما حانت لحظة الفراق لم يتردد بيشوى عن مد يده إلى أخيه أحمد لينقذه من الغرق فى مياه النيل‏.. ولم يتوقف عند أن اسمه أحمد وليس جرجس، ولم يبال بأن ساعده يخلو من وشم الصليب‏.. غير أنهما وللأسف الشديد غاصا معاً فى مياه النيل ورحلا‏!!‏

كان بيشوى وأحمد صورة لملايين المصريين عاشوا معاً عبر عشرات المئات من السنوات‏..‏ إخوة ربط بينهم أذان المسجد وأجراس الكنيسة.. تقاسموا الحلم‏..‏ تحملوا الانكسارات‏.. انتشوا بالانتصارات‏.. توحدوا فى مواجهة كل ما يهدد أمن الوطن واخترقت صدور مئات منهم رصاصات العدو فى ملحمة أكتوبر‏.. ولم تفرق بينهم دانات المدافع مثلما لم يفرق بينهم أذان المسجد أو أجراس الكنيسة‏!!‏ يبدو من الواضح أن حروف «لغة الضاد» قد هاجرت من قاموسها ولم يبق فى هذا القاموس سوى ثلاثة منها فقط، هى «م ص ر».. إذ لم نعتد طوال حياتنا أن يكشف أحد منا عن انتمائه الدينى «مسلم أم مسيحى» وسنظل على ما تربينا عليه: مجتمع متسامح يسوده المحبة والإخاء بين أبنائه جميعاً.. وكل عام ومصر بمسيحييها ومسلميها بكل الخير.. ولك يا مصر دوماً السلامة.