استراتيجية ردع إيران.. من النجف

سيد حسين

سيد حسين

كاتب صحفي

غابت الرؤية العربية عن مواجهة التمدد الفارسي، في خضم المعارك الراهنة التي تقودها طهران في عدة بقاع عربية، وانحسرت المواجهات ما بين الأمنية والعسكرية، مع الاستعانة بالمجتمع الدولي، دون مواجهة فكرية حقيقية لرأب الصداع بين عامة المسلمين وعزل الدولة الفارسية عن محيطها الإقليمي، بغرض منعها من استغلال مواليها في إثارة النزاعات والقلاقل.استمر الوجود الإيراني في سوريا واليمن رغم المواجهات العسكرية، ولم تأبه طهران للتصعيد الدولي المقابل لتحركاتها، مصرة على توسيع دائرة النفوذ إلى أفريقيا وآسيا حتى تبتلع المنطقة، فالجمهورية الإسلامية لن تتوقف عن طموحاتها التوسعية مهما نالها من عقوبات اقتصادية - الوسيلة الوحيدة التي يمتلكها المجتمع الدولي- لنجاحها في تخطي تلك العقوبات بوسائل غير مشروعة عبر اقتصاد مواز، ومن ثم فإن المنهج الحالي في التعامل مع طموحات إيران قاصر ولن يؤتي ثماره إلا بوضع خطة ردع تشمل عدة محاور أهمها على الإطلاق الكشف عن نقاط الضعف الإيرانية فيما يخص سبل التجنيد واستقطاب مواطني الدول العربية بصفة عامة والجماعات الإرهابية بصفة خاصة، ليس لفضحها، فلم يعد الدور الإعلامي رادعا، وإنما للتصدي لتلك السبل بمنهجية محددة مضمونة العواقب دون مخاطرة.

استغلال الدين في السيطرة على المجموعات الإسلامية، كان أهم وسيلة إيرانية لتصدير ثورتها خلال السنوات الماضية، عبر نقاط اتفاق مشتركة تمثل منطقة لقاء بين المذاهب الإسلامية، أهمها مظلومية الإمام الحسين التي يتفق عليها الجميع، والتقارب الفكري مع الصوفية ودعم احتفالاتها بموالد الأئمة، فضلا عن تجنيد الشباب عن طريق استغلال القضية الفلسطينية التي لا يختلف عليها أي مسلم، ودعم الجماعات السياسية المناهضة لأي نظام حكم مرشح كعدو محتمل، وهو ما جعل طهران تنفق المليارات على نشاطات تبرز نقاط الاتفاق تلك، سواء بتشكيلها منظمات داعمة للقضية الفلسطينية أو بمراكز الدراسات والأبحاث الفكرية وحتى برامج تلفزيونية في دول عربية تؤصل لفكرة المظلومية وتظهر الجمهورية الإسلامية على أنها امتداد طبيعي للتاريخ الإسلامي، إلى جانب القدح في المناهج الفقهية للفرق الإسلامية، وللأسف الشديد اقتصرت سبل الدول العربية في التصدي للاختراقات على محاولات الرصد والتتبع الأمني، الذي لا يمثل سوى قطرة في غيث استراتيجية الردع، نظرا لأن العمل الأمني من الممكن ألا يؤتي ثماره، لعوامل تتعلق بمهنية وحرفية القائمين على تلك الأجهزة، إلى جانب خلق فزاعات داخلية قد يكون لها تداعيات على الصعيدين الشعبي والسياسي.الرهبة من التعاون مع رجال دين الشيعة المعتدلين، ليست خطوة صحيحة، فالشيعة موجودون في كل مكان ولا يمكن إلغاء هذا الوجود، وبالتالي يجب التعاطي مع مرجعية النجف فيما يعود بالنفع على استقرار المنطقة، خاصة وأن المرجعية تعي أن طهران امتطت المذهب ودست ما يحرض العوام على التطرف وهو ما تحاول بعض المراجع العربية دحضه عن طريق دعوة الشيعة إلى الاعتدال و البعد عن التشيع الصفوي الذي ابتدعته إيران، حديثة العهد بالدين، فطهران لم تعرف الإسلام إلا في أواخر السبعينيات بعد أن عاشت دولة علمانية محضة، إلا أن قيام الثورة الإسلامية، أسس لقيام الدولة الدينية، ومن وقتها يصاب الإيرانيون بالأرق، حيال ذكر النجف الأشرف الذي يمثل المرجعية الدينية لكل الشيعة، وهى بدورها مرجعية عربية، يجب أن تؤهل للسيطرة على العقل الجمعي الشيعي، إلا أن الغفلة عن مخططات طهران جعلت من النجف مرتعا للإيرانيين منذ سنوات، في محاولة منهم لكسر التاريخ الديني في العراق التي احتضنت آل بيت النبي، بغرض السيطرة في إدارة تفاعلات المرجعية مع الشارع العراقي والعربي على حد سواء.

الطريق الوحيد لردع إيران لن يبدأ إلا من النجف فإذا كان الأزهر هو السبيل الأوحد لنشر الفكر الإسلامي المعتدل للقضاء على فكر الجماعات الإرهابية، ودحض معتنقاتهم المتطرفة، فإن مرجعية النجف هي المنوطة بالتصدي للتطرف الفقهي وإعادة العوام إلى ثكنات التعايش السلمي والاقتداء بأخلاق آل البيت، بعد أن أشبعت طهران مواليها بفيض من العنصرية والتطرف عبر سنوات من الغفلة عن خطر التحركات الإيرانية، ورغم حساسية القضية، خاصة بعد تغلغل مرجعية قم الإيرانية في النجف بهدف إذابة الحدود بين المرجعيتين للسيطرة على المنصب الديني التاريخي الذي طالما كان حقا أصيلا من حقوق العراق، مرجعية كل شيعة العالم، إلا أن صحوة العراق السياسية سيتبعها بالتأكيد صحوة على صعيد المؤسسة الدينية، بدليل تفاعلات المرجع الديني العراقي على السيستاني مع مجريات الأحداث على الساحة العراقية خلال الآونة الأخيرة، بإعلانه مبادئ المواطنة ونصحه الساسة بعدم الانسياق وراء الطائفية المقيتة التي قتلت الحياة السياسية وتسببت في تفشي الكراهية بين العراقيين، اللذين لم يعرفوا معنى الطائفية إلا بعد دخول طهران إلى أراضيهم عقب الغزو الأمريكي.قبل عدة أسابيع رفضت المرجعية الدينية العليا في العراق، لقاء محمود الشاهرودي رئيس مصلحة تشخيص النظام في طهران، بالتزامن مع تردد أحاديث في الشارع العراقي عن محاولات إيرانية لفرض مرجعية دينية إيرانية على العراقيين بعد وفاة السيستاني، لاستمرار سيطرتها على الأوضاع في الداخل والتحكم في القرار السياسي، وسبق هذا الموقف زيارة مقتدى الصدر إلى السعودية والإمارات، فضلا عن زيارة عمار الحكيم لمصر، لتأتي تلك التحركات بمثابة ضربة مؤلمة أوجعت موالي إيران في الداخل العراقي، إلى جانب تأكيد صحوة العراقيين على الصعيدين السياسي والديني، وهو ما يوجب على الدول العربية استغلاله بمساندة العراق ودعمها على كل الصعد لدرء خطر إيران.. لأن حماية الأمن القومي العربي من خطر طهران لن يتأتى إلا بحضور عراقي عربي.