«الربابة».. هدية الفراعنة تتعرض للانقراض
![عبدالمحسن إبراهيم](https://watanimg.elwatannews.com/image_archive/840x473/17859813571513965661.jpg)
عبدالمحسن إبراهيم
آلة وترية، عرفها الفراعنة قديماً، انتشرت فى شبه الجزيرة العربية واتخذت أشكالاً تعبر عن كل دولة، تحدثت بلغتهم، وامتزج صوتها بحنجرة الرحالة ورعاة الأغنام، حتى نشأ بينهم إيقاع من نوع خاص، أصبحت تؤنس الراعى وحدته فى الصحراء، وتخفف عنه حرارة الشمس ومشقة الحياة، آلة الربابة التى تعتبر أشهر الآلات الشعبية التراثية فى مصر بعد المزمار البلدى، تغنى بها كبار الفنانين أمثال «متقال»، وجابر أبوحسين وغيرهما، عشقها المصريون خاصة أهل الصعيد، كانت بطلة حفلات سمرهم وأفراحهم وكذلك الموالد والأعياد، يدندنون السيرة الهلالية والمواويل، تغير حالها وقلّ عدد مريديها وأصبحت مهددة بالانقراض بسبب ندرة توريثها للأجيال الجديدة، اقتصرت على العازفين القدامى الذين تقدم بهم العمر. «الربابة».. تعنى فى اللغة العربية السحابة البيضاء، وهى آلة موسيقية وترية، اتخذت أشكالاً كثيرة من التطوير ونتج عنها آلات أخرى حديثة، مثل الكمنجة والفيولا والكونترباص والتشيللو، اقتصرت على الرجال نظراً لانتشارها فى البيئة الشعبية، خاصة صعيد مصر، لكنها لم تأخذ حقها الكافى فى الاهتمام والحفاظ عليها من الاندثار، يحكى عدد من المتخصصين أنها اقتصرت على الهواة ولم يفكر أحد فى تدريسها، مطالبين المسئولين بشهرها فى كل مكان من خلال قصور الثقافة.
امتزج صوتها بحنجرة الرحالة.. واقتصرت على الهواة ولم يفكر أحد فى تدريسها
يجلسون فى صفوف العازفين الأولى، يحملون بين أيديهم آلتهم الوترية، التى ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، يحركون عصاها يميناً ويساراً لتخرج صوتاً مميزاً أصيلاً، لا يخرج إلا من آلة الربابة، تلك الآلة التراثية التى عرفها قدماء المصريين، وتطورت مع مرور الزمن حتى أصبحت مهددة بالانقراض، تمثل لهم المتعة والملاذ الوحيد فى الحياة، يعشقونها ويخافون عليها من الاندثار، يذهبون للأفراح والموالد مقابل القليل من المال، لعزف مقطوعات لم تعد معروفة للجيل الحالى مثل «سيرة أبوزيد الهلالى»، و«أم كلثوم» ومواويل الجنوب.
صلاح لبيب شاهين، عازف ربابة منذ 30 عاماً، تعلمها على يد والده حين كان يذهب معه للأفراح وهو طفل صغير يراقب طريقة عزفها ويحفظ ألحانها، حتى أدمنها وطلب من والده تعلمها بعد إصرار شديد، يحكى أنها آلة صعبة التعلم ولها خصوصية شديدة تميزها عن غيرها من الآلات الشعبية معتبرها الأفضل، لكن الدولة غير منتبهة لأهميتها: «لازم يكون فيه مدارس لتعليمها عشان نحافظ على وجودها»، يتذكر أول مقابل مادى أخذه نظير مشاركته فى إحدى الحفلات كان جنيهين ونصف جنيه، برفقة العازفين محمد طه وأبوالحسن عبدالغفار: «فرحت جداً بالمبلغ ده وهو بيعادل النهارده 250 جنيه، جبت عيش وغموس وبسطت نفسى وإديت لأبويا الباقى كمان».
من إحدى قرى محافظة المنوفية خرج «شاهين» بآلته للأفراح والموالد يعزف للناس فى الشوارع والميادين: «كان ليها قيمة زمان غير دلوقتى، الشباب بقى بيستعر منها»، حُرم من التعليم بسبب ظروف والده المادية، اتخذ من الربابة مصدر دخل ثابتاً للإنفاق على أشقائه وأولاده بعد ذلك: «كان نفسى أتعلم القراية والكتابة عشان أحفظ المقامات»، يرى الرجل الخمسينى أن الوضع الحالى اختلف كثيراً عن السابق وشكل الاحتفالات تغير، فلم يعد مناسباً لعازفى الربابة: «قليل أوى لما حد بيطلبنا فى فرح، غير زمان ماكناش بنلاحق على الشغل»، يصنعها بيده من شعر الحصان وسلك وخشب: «باعملها لنفسى ولو حد من زمايلى طلب باعمل له»، يطلب منه الناس سماع موسيقى «الضوء الشارد»، و«أم كلثوم»، وغيرهما، مؤكداً أنها أصبحت آلة متخصصة، وانتقلت من الأفراح والشوارع لخشبة المسرح والحفلات الكبرى: «اشتغلت مع مشاهير زى كاظم الساهر، واشتغلت ورا سيد الشاعر وناس تانية كتير»، رفض أبناؤه تعلمها باعتبارها «دقة قديمة» لا تتناسب مع عصرهم: «ماحدش فيهم غاويها، رغم أنى جوّزتهم كلهم منها».
عبدالمحسن على إبراهيم، كان أحد أصدقاء «الريس متقال»، وعضو فرقته، رافقه ما يقرب من 5 سنوات فى حفلات حول العالم بإيطاليا وهولندا والسعودية ودبى وفرنسا وغيرها، يعزفون أنغام الربابة لمدة 25 عاماً: «كل أسبوع كان عندى فرح، عكس دلوقتى، السوق نايم»، خرج من قلب الصعيد بعد أن علمه والده أسرار الآلة، بدأ يعزف على المصاطب وفى الشوارع وداخل البيوت، وفى الأفراح: «زمان ماكانش فيه ميكروفونات، كان صوتها بيرن للبلاد اللى جنبنا»، يشيد بجمهور الصعيد واصفاً إياه بـ«السميعة»، يحكى عن المدرسة التى أسسها شوقى قناوى لتعلم الأطفال فنون العزف على الربابة، واختفت عقب وفاته: «مابقاش فيه فنانين ربابة، انقرضوا، اللى باقى كبر وهيموت»، 450 جنيهاً يتقاضاها الرجل السبعينى شهرياً من فرقته، معتبراً إياه مبلغاً هزيلاً لا يتناسب مع طبيعة عمله: «مش معترفين بينا كفنانين كبار»، يتنقل بين المحافظات لإحياء الأفراح فى طنطا والمنوفية وأسوان والدقهلية: «لسه فيه جمهور قليل للربابة بيسمعنا».
عازفو الآلة الوترية: «الأجيال الجديدة رافضة تتعلمها»
إبراهيم القط، شاب فى العقد الثالث من عمره قرر أن يتعلم العزف على آلة الربابة، حباً فيها وحفاظاً عليها من الانقراض: «كنت باصنعها على إيدى قبل ما أتعلمها»، ترك التعليم فى المرحلة الابتدائية، لاحترافها: «كنت باجيب علب التونة وأغسلها كويس وأشدها وأجيب خشبة وأعملها على إيدى وألعب بيها من حبى فيها»، حاول والده أن يعلمه مهنته كطبال لكنه رفض، وفضل أن يتعلم العزف على آلة الربابة، جاءت له الفرصة من الفنان شوقى إسماعيل فوافق على الفور وبدأ رحلة الاحتراف الحقيقية والانضمام للفرق الشعبية والمشاركة فى الفعاليات: «طول عمرى باحب الربابة، رغم أن كل جيلى بيعزف الآلات الغربية»، يعيش فى إحدى ضواحى الجيزة، يصنع أشكالاً مختلفة من الربابة للمبتدئين والمحترفين يبيعها بأسعار تبدأ من 150 جنيهاً حتى 1000 جنيه: «باصدَّر منها بره مصر وفيه دكاترة كبار بياخدوا منى»، 8 سنوات وهو يبيعها، يحلم بأن تصل لكل مكان ويتوارثها الأجيال، يحضر حالياً لأول معرض خارج مصر لآلة الربابة: «عايزين نحافظ عليها من الانقراض، ونعلّمها للأطفال الصغيرين».
«شاهين»: «أول مبلغ أخدته 2 جنيه ونص».. «إبراهيم»: «مابقاش فيه سمِّيعة» .. و«القط»: «اتعلمتها عشان أحافظ على وجودها»
الريس محسن الشيمى، ورث العزف على آلة الربابة عن والده ومن قبله جده، رافق الموسيقار منير وسيمى لسنوات، الذى شجعه على العمل بالمسرح والانضمام لفرقة الموسيقى الشعبية التابعة لمسرح البالون بوزارة الثقافة: «اتعلمت على إيده كتير واستفدت أكتر»، بدأ يحفظ النغمات الموسيقية الخاصة بالآلة رغم حرمانه من التعليم، إلا أن شغفه وعشقه لها دفعه لبذل قصارى جهده للتميز بها، فبدأ يشارك فى فعاليات خارج مصر، وحفلات بدار الأوبرا وساقية الصاوى: «مابروحش أفراح نهائى، شغلى مقتصر على مسارح الدولة»، ينتمى الرجل الأربعينى لمدينة العياط التابعة لمحافظة الجيزة، يحاول إنقاذ مهنته من الانقراض، بالتطوع لإعطاء ورش عمل ودورات تعليمية لهذه الآلة لكنه يفتقد الدعم من وزارة الثقافة: «محتاج دعم مادى وتوفير مكان ودعاية عشان نحافظ على تراثنا»، يشتكى من قلة عازفى الربابة مما يهددها بالاختفاء قريباً: «لو فضلنا على الحال ده هنفقد جزء كبير من تراثنا لأن الشباب كله اتجه للآلات الغربية ونسى أصلنا».
محسن الشيمى
صلاح لبيب