القدس لهم؟!

أمينة خيرى

أمينة خيرى

كاتب صحفي

يكاد المواطن يسمع الصوت الهادر وهو قابع على كنبته. الأجواء جداً محمومة. والأعصاب جداً مشدودة. والعواطف جداً مشحونة. تتوالى المكالمات الهاتفية، حيث سماعة الهاتف تقف صامدة صائبة أبية بين الزعيمين اللذين تلقى أحدهما مكالمة الأول. وتتواتر التحركات الصنديدة المنيعة دون هوادة. أما الإجراءات فحاسمة صارمة لازمة، لا مجال للهزهزة فيها، ولا موضع للهبهبة حولها.

وحول الشاشات تجلس الملايين. أجواء الحرب تلف الأماكن والمقاهى. ومشاعر الاحتقان فى أوجها. وأغلب الظن أن ميادين إسلامية تستعد لمليونيات هادرة. والمؤكد أن هتاف «على القدس رايحين شهداء بالملايين» سيصم آذان العدو القابع على مرمى حجر.

لكن مرمى الحجر يبدو فى منطقتنا الغرّاء بعييييييييداً جداً. يفصلنا عنه مجاهدون ومسلحون وإسلاميون أخذوا على عاقتهم «تطهير» الداخل أولاً (وربما أخيراً). فبين دواعش هنا، ومنتمين إلى «القاعدة» هناك، وجماعات «أنصار الشريعة» و«جند الشام» و«ولاية سيناء» و«حراس الشريعة» و«جماعة الشريعة» و«أنصار الإسلام» و«أمة الإسلام» و«جند الإسلام» و«نصرة الإسلام والمسلمين» هنا وهناك، رغبة محمومة فى تطهير الأراضى الإسلامية أولاً مما علق بها من شوائب مسلمين عاديين لا يؤمنون بأن الإسلام دين قتل وسفك دماء، وبالطبع المسيحيون وغيرهم من المنتمين إلى عقائد أخرى أولاً. وأغلب الظن أن الوقت الذى سيكون متاحاً فى نهاية عملية التطهير الإسلامية الداخلية لا يتيح لهذه الجماعات أن تتوجّه إلى حيث مرمى الحجر المشار إليه لإلقاء إسرائيل فى البحر واسترداد القدس.. إلخ.

وقد أبيت إلا أن أبحث وأُنقح فى الأجواء التى اشتعلت منذ تردّدت أنباء قبل أيام عن نية الرئيس ترامب فى أن يعلن نقل القدس عاصمة لإسرائيل، وذلك للتنبؤ بما نحن مقبلون عليه. ودون غضب -أو بالأحرى ادعاء الغضب- أقول وبكل ثقة إن التنبؤات لم ولن تخرج عن إطار إثارة المزيد من الفوضى فى العالم العربى -الذى هو إسلامى- واستثارة المزيد من الصخب والصياح، الذى هو عربى أيضاً، وفى هذا الصدد سنضم إلينا كلاً من تركيا وإيران (وإن كانت الأخيرة ليست حنجورية كما ينبغى).

وينبغى علينا كذلك أن نعرف أننا كعرب ذوى أغلبية مسلمة معروفون عالمياً بإننا ذوو أحبال صوتية بالغة القوة، وأن لدينا مخزوناً يكفى العالم لقرون مقبلة من الكلمات والجمل التى لا تنضب أو تفتر أو تجد مشكلة فى الشجب والتنديد بأغلظ العبارات والمفردات التى من شأنها تبسط الشعوب وتسعدهم وتشفى غليلهم. ليس هذا فقط، بل إننا نشهد هذه الساعات فعاليات «بطولة العالم الإسلامى للشجب والتنديد والتهديد»، وهى بطولة حقيقية تصل فيها المنافسة إلى حد بالغ السخونة وتتصاعد من جنباتها الوطنية الدينية تصاعداً محموماً قادراً على حرق من يقترب منه. وليس أدل على ذلك من آلاف الأعلام الأمريكية والإسرائيلية التى سنتسابق على حرقها ثم قذفها بالأحذية والشباشب، ثم نلتقط الصور لنا ونحن نقفز على رمادها غضباً وحنقاً. وعلينا ألا نُقلل من شأننا أو نشكك فى قدراتنا أبداً. فسنهتف بأعلى صوت «الموت لإسرائيل والسحق لأمريكا».

الهتاف والصراخ لن يكونا نهاية لنضالنا أو تعطيلاً لمسارنا البطولى. وعلينا أن نعد العدة من الآن لمرحلة التناحر الداخلى والاقتتال الداخلى. وعلينا أن نحسب أمرنا حول من سنُشجع من حكام ما يسمى بالعالم الإسلامى ليكون له ألتراس من المشجعين الأوفياء. وقد ظهرت بوادر التنافس بالفعل، حيث يزدحم الأثير العنكبوتى بمن يتشبث بتلابيب الرئيس التركى أردوغان. فهو أول من شجب وكان له السبق فى التنديد والتهديد بقطع العلاقات مع الدولة الصديقة إسرائيل التى تأكل الكثير من البقلاوة التركى.

ومن البقلاوة التركى إلى الشأن العربى الغارق حتى أذنيه فى رحى رسم خارطة الشرق الأوسط الجديد لدرجة أنه لم يلتفت كثيراً إلى ما يجرى فى بريطانيا هذه الأيام من تحقيقات حول أموال دافعى الضرائب البريطانيين التى استقرت فى أيادى «الجهاديين» الذين مروا إليها عبر «غازى عنتاب» التركية، من الذين حاولوا خلال سنوات الربيع السورى تطبيق شرع الله وتحرير سوريا.

وما دمنا نحيا على خيوط العنكبوت، فعلينا أن نحاول الربط بين هذه الخيوط وغيرها، فى محاولة للفهم، ومنها كذلك درء الملل الذى نحن مقبلون عليه، انتظاراً لتحرير القدس وإعلانها عاصمة لدولة فلسطين (اللى هى مش موجودة أصلاً فعلياً)، ومن ثم إلقاء إسرائيل فى البحر. ويمكننا كذلك التنويع فى سُبل شغل وقت الفراغ. فعندنا مثلاً الحسبنة وكتابة التدوينات الفيسبوكية التى تحمل أدعية على الإسرائيليين والأمريكان بأن يرينا الله فيهم عجائب قدرته، ثم نُحسبن عليهم. كما يمكننا شحذ طاقة بعضنا البعض الإيجابية، وذلك عبر تأكيد أن القدس ستظل عربية ولو كره الكارهون، ولو نقلت دول العالم أجمع سفاراتها إليها. وتظل لدينا إمكانية تصويب سهام المعايرة إلى بعضنا البعض، طالما أن لغتنا العربية لن يفهمها الإخوة فى أمريكا والجيران فى إسرائيل. فيمكن مثلاً تحميل مصر مغبة ما جرى وأنها باعت القضية، أو نفرش الملاءة ونذكّر الفلسطينيين بأنهم أول من باعها، أو نكتب العرائض ونُجهز المرافعات لنؤكد أن الإخوان كانوا على وشك تحرير القدس لولا العلمانيين الكفرة الذين خلعوهم من الحكم وأوقفوا زحفهم من ميدان رمسيس وأول فيصل نحو الأقصى. سنظل نطرب ونغمض عيوننا ونحن نستحضر صورة الأقصى ونُردد مع العظيمة فيروز «الغضب الساطع آت وأنا كلى إيمان، الغضب الساطع آت، بجياد الرهبة آت، وسنهزم وجه القوة». وسترتعد أوصالنا وتدمع عيوننا، بينما نتمايل مع الكوبليه الأخير: «البيت لنا والقدس لنا»، رغم أننا عرفنا أنها أصبحت لهم، ولو لحين إشعار آخر!