تسريبات «صفقة القرن» والوقاحة الإسرائيلية

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

الوقاحة هى عنوان إسرائيلى بامتياز، ولكن علينا أن نعترف أنهم يجيدون استخدامها من حيث الزمان والمكان. وفى كل تصرف وقح هناك رسائل مهمة يجب ألا تغيب عن الأذهان. نعرف جميعاً أن إسرائيل فعلت المستحيل وما زالت تفعل للتخلص من العبء الفلسطينى دون أن تقدم أى تنازل عن معتقداتها الأيديولوجية أو عن سيطرتها الكاملة على الضفة الغربية المحتلة، وهى تحلم باليوم الذى تصحو فيه ولا تجد أى أثر لفلسطينى واحد على أرض الضفة المحتلة، التى تطلق عليها يهودا والسامرة، تأكيداً لما تراه أرضاً يهودية تاريخية توراتية لا يجوز التنازل عنها، بل يجب أن تكون تحت سيطرة اليهود بعد إخلائها من الدخلاء الفلسطينيين، بيد أن هذا الحلم يصطدم بحقيقة أن هناك أربعة ملايين فلسطينى يعيشون فى تلك الأرض، إضافة إلى 1.8 مليون آخرين فى قطاع غزة، ويؤمنون أيضاً بأنها أرض عربية إسلامية لا يجوز التنازل عنها، وهى جزء أصيل من تاريخهم وحاضرهم ولن يخرجوا منها مهما كانت الضغوط والقيود أو الإغراءات بالخروج إلى المجهول.

كل ذلك يجب أن نضعه أمام أعيننا حين نقرأ تلك التصريحات الوقحة التى أطلقتها وزيرة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية جيلا جملئيل على هامش مشاركتها فى مؤتمر دولى برعاية الأمم المتحدة فى القاهرة، حيث اعتبرت أن الحل الواقعى هو أن يقيم الفلسطينيون دولتهم فى أجزاء من سيناء، وأن تُضم الضفة الغربية إلى إسرائيل، وألا تقوم دولة فلسطينية أبداً، وكانت الوزيرة ذاتها قد أطلقت تصريحات مفصلة قبل عدة أيام لإحدى المجلات الإسرائيلية ذكرت فيها تفاصيل أكثر عن تلك الرؤية العقيمة، وربطت بين تنازل مصر عن جزء من سيناء وبين حصولها على دعم اقتصادى وسط ما قالت إنه تفاقم أزمة تنظيم داعش فى سيناء بما يهدد استقرار مصر، ومعتبرة هذا الأمر بمثابة مصلحة مشتركة بين إسرائيل ومصر.

جزء كبير من وقاحة الوزيرة الإسرائيلية راجع ليس لأنها ذكرت ما ذكرت أثناء وجودها فى مصر، ولكن أيضاً لأنها أعطت الحق لنفسها لكى تفكر نيابة عن الدولة المصرية وتحدد لنا حاكمين ومحكومين ما هو فى صالحنا، وما الذى سوف يساعدنا على التخلص من خطر داعش الذى يهددنا. ومن حيث المضمون فإن طرح غزة أولاً وأخيراً واعتبارها الدولة الفلسطينية الموعودة بدون أى صلة مع الضفة الغربية المحتلة، هو طرح إسرائيلى قديم يتم إعلانه والتركيز عليه حين يبدو فى الأفق ملامح خطة دولية أو أمريكية تسعى إلى إيجاد حل تاريخى يستند إلى منح الفلسطينيين جزءاً من حقوقهم القومية المشروعة تحت مسمى دولة فى الضفة الغربية وغزة، مقابل ضمانات أمنية وتطبيع عربى لاحق يوفر شرعية لوجود إسرائيل فى جزء آخر من أرض فلسطين التاريخية.

الإسرائيليون نجحوا من قبل فى الإطاحة بكل الأفكار المتوازنة، وتمسكوا دائماً بمطالبهم القصوى فى كل شىء، واستغلوا أفضل استغلال الواقع العربى المرير منذ 2011، بما فى ذلك الانقسام الفلسطينى الذى قدم للإسرائيليين هدية تاريخية، تم توظيفها بامتياز فى نزع الشرعية عن المفاوض الفلسطينى وفى تنفيذ سياسات استيطانية مكثفة ونشطة فى الضفة الغربية المحتلة، ما أدى إلى زيادة عدد المستوطنين إلى أكثر من 120 ألف مستوطن فى أكثر من 100 بؤرة استيطانية، وهناك تقديرات ترفع العدد إلى 320 ألف مستوطن فى عمق الأراضى الفلسطينية لاسيما المنطقة «ج» التى ما زالت تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية.

وكما هو حالنا نحن العرب نترقب ما الذى سيجود به السيد ترامب على المنطقة وعلى شعوبها، فهم أيضاً يترقبون اليوم ملامح الخطة الأمريكية التى يقترب موعد إعلانها مطلع العام المقبل، رغم أننا نعرف جميعاً أن الفريق المكلف بوضع هذه الخطة يتكون من أربعة مسئولين، منهم ثلاثة يهود يؤمنون بالأفكار الصهيونية وبحقوق غير محددة لإسرائيل على حساب الفلسطينيين خاصة وعلى العرب عامة، ومع ذلك فمن المرجح أن يكون هناك قدر من القلق ولو محدوداً لدى اليمين الإسرائيلى كله من أن تنطوى هذه الخطة الأمريكية المرتقبة على نقاط يرونها بمثابة تنازلات لا يتحملون نتيجتها، وبالتالى يتم إطلاق التصريحات من قبل مسئولين يمينيين شديدى التطرف لتكون أيضاً رسائل لمن يضعون الخطة المرتقبة بأن يراعوا المطالب والتصورات الإسرائيلية، ولا يحملونها أكثر مما تحتمل.

وإذا وضعنا فى الاعتبار التسريبات شبه المؤكدة التى نشرتها صحيفة النيويورك تايمز منتصف نوفمبر الماضى حول بعض الأفكار المتداولة للخطة الأمريكية المنتظرة، والتى تضمنت خطوات إسرائيلية لبناء الثقة من قبيل الانسحاب من المنطقة «ج» لصالح السلطة الوطنية، وخطوات أخرى لتحسين الوضع الاقتصادى والمعيشى فى قطاع غزة، وإقامة دولة فلسطينية لاحقاً وفق صيغة تبادل الأراضى بطريقة تختلف عما سبق أن التزم به الرؤساء الأمريكيون السابقون، حيث كان تبادل الأراضى يخص الفلسطينيين والإسرائيليين فقط ما بين الضفة الغربية والأراضى التى تعرف بدولة إسرائيل، أما الجديد فهو أن تبادل الأراضى سوف يشمل دولاً أخرى، ولعل تصريحات الوزيرة الإسرائيلية تعد كمؤشر ولو محدوداً حول ما الذى تنطوى عليه خطة الرئيس ترامب التى لم تعلن بعد رسمياً، ويُذكر هنا أن المتحدث باسم البيت الأبيض ذكر فى تعليق على ما أوردته صحيفة النيويورك تايمز، أن هناك نهجاً جديداً يتم اتباعه يختلف عما طُبق سابقاً، وأنه سيتم الاستفادة من كل التصورات التى طرحت بشأن حل الصراع، ومعروف أن هناك تصورات عديدة بعضها يكرس الاحتلال الاستيطانى الإسرائيلى وبعضها الآخر يسعى لحل متوازن نسبياً، وثالثها يلقى بعبء الحل على العرب دون غيرهم بما فى ذلك تطبيق حق العودة للفلسطينيين إلى الدول العربية وليس لبلدهم المحتل، ويعطى الامتيازات كلها لإسرائيل.

ليس فى نية إدارة ترامب أن تفرض شيئاً على الأطراف المعنية، هكذا صرح جيسون جرينبلات، المبعوث الخاص للرئيس ترامب، ومؤكداً أنه لا يوجد مدى زمنى معين للتفاوض، وستكون هناك إجراءات لبناء الثقة، ويُترك للأطراف المعنية أن تتفاعل مع تلك الأفكار كما تريد، والمعنى أن الأمريكيين لن يكونوا معنيين بالصدام مع أحد إذا لم يقبل خطتهم، ولن يهتموا ببذل جهد أكبر لتطبيق ما يرونه صفقة القرن، وترجمة ذلك عملياً أن هذه الصفقة لن تكون سوى فرصة أخرى تستغلها إسرائيل لمزيد من الاستيطان، ومزيد من التضييق على الفلسطينيين فى الضفة وغزة، أما الدولة الفلسطينية فلم يحن أوانها بعد.