مكتبة الإسكندرية: بين «الثقافة» و«السياسة»

لم ينس الدكتور مصطفى الفقى أنه رجل سياسى بامتياز، فلا تكاد تمر بمصر تظاهرة سياسية لعل آخرها منتدى شباب العالم إلا وتجد له مكاناً ولا يحرمنا من فتاواه السياسية التى لم تغب عنا لحظة واحدة، لكن للإنصاف إذا بحثنا عن مكتبة الإسكندرية التى يترأسها منذ فترة لما وجدناها على الإطلاق حتى لا يبدو أنه ينتسب إليها وليس رئيساً لها، والحق أنه ترك أمر المكتبة وأنشطتها إلى بعض الموظفين يفعلون بها ما يشاءون، ولا بد أن نعترف بأن مكتبة الإسكندرية فى زمن الدكتور إسماعيل سراج الدين (فرج الله كربه) كانت أشبه بالجامعة التى يتردد عليها كل مثقفى مصر والدول العربية من المحيط إلى الخليج، فكل القضايا تجد لها مكاناً فى قاعاتها وفى عقول زوّارها الذين يأتون إليها من كل فج عميق! والحق إن هذه المكتبة العريقة كانت ملء السمع والبصر عندما كانت ملتقى الأدباء وأهل الثقافة من كل البلاد العربية، حتى إن المقاهى المحيطة بها أصبحت امتداداً لها، فالنقاش والحوار هو الأسلوب الذى ينتهجه الرواد، ولم يكن يغيب إسماعيل سراج الدين عن القاعات، فكنت تجده مشاركاً وفى أغلب الأحيان محاضراً ومناقشاً، وتحولت الفنادق المحيطة إلى دوائر للحوار الذى لم يكن ينقطع للحظة واحدة، ثم قُدّر لهذه المكتبة العالمية أن تنكمش على ذاتها ثم جاء على رأسها المفكر القومى مصطفى الفقى، فتفاءلنا جميعاً وانتظرنا أن المكتبة سوف تشهد طوراً جديداً لإدارة الحوار فى كل شىء دون تابوهات، ليس فقط لأن مهمتها الأساسية عندما تم بعثها من جديد هو هذا الأمر، ولكن لأن رئيسها الجديد (مصطفى الفقى) رجل عقلانى يعيش حالة حوار مستمرة فى حياته، وأقول الحق لقد أُسقط فى يدينا، فبعد العرس الذى أقامه البعض للرجل عندما تولى مسئولية مكتبة الإسكندرية انطفأت جذوة الفرحة، ورويداً رويداً لم يعد يسمع أحد عن المكتبة وحاولنا البحث عن رئيسها فلم نجده إلا بتصريح سياسى هنا وآخر هناك، وأصبحت الثقافة نسياً منسياً على لسانه لم يعد يشير لها لا من قريب ولا من بعيد!

ونحن نحترم فى الدكتور مصطفى الفقى ذكاءه وألمعيته، لكن يبدو أنها صفات قد هربت أو بالأصح انطفأت، ولم ينس الرجل أنه محلل سياسى من الطراز الأول، وللإنصاف لقد ظلم الرجل نفسه وظلم المكتبة، لأنه صاحب كتاب تجديد الفكر القومى وكل دردشاته سياسة فى سياسة، وهذا ليس عيباً ناهيك عن أنه حكاء بامتياز، فلقد حققت برامجه التليفزيونية التى كان يروى فيها ذكرياته وبعض صفحات من حياته مشاهدة عالية، لكنه لم يفكر فى إبراز مكتبة الإسكندرية ورسالتها التنويرية، وترك أمرها لبعض الهواة فتقلص عدد ضيوفها المحليين والعرب والدوليين وتاهت برامجها فى الأدراج وأصبح رئيسها مجرد اسم يقال أو يُكتب على بعض البرامج الباهتة واختفى بريق المكتبة وظلمها الرجل ظلماً بيناً، وبعد أن كانت المكتبة مقصداً ثقافياً وسياحياً يأتيه الزائرون من أقاصى الدنيا وأدناها أصبحت مجرد مكان لعدد من صغار الموظفين الذين يترددون عليها فى الثامنة صباحاً ثم يعودون منها فى الثانية بعد الظهر، وأقفرت القاعات التى كانت ملأى يوماً بالرواد من كل جنس ولون، لقد جف الدعم الأجنبى الذى كان يأتى فى زمن الدكتور إسماعيل سراج الدين، الذى وظّف معارفه الدولية وثقة الهيئات العالمية فيه لصالح مكتبة الإسكندرية، التى حوّلت مدينة الإسكندرية إلى شعلة تجذب كل صاحب ثقافة وفكر وأدب وشعر، فجاء زمان على المكتبة تحولت فيها بل وحولت عروس البحر (الإسكندرية) إلى فنار ثقافى عالمى يقصده العالم بشبابه وشيوخه وطلاب العلم والمعارف من كل جنس وسن ولون، أخشى أن أقول إن الدكتور مصطفى الفقى قد تآمر على مكتبة الإسكندرية عندما قَبل أن يكون رئيسها، لأنه أصبح رئيساً على الورق وفى السجلات، لكن ظل اهتمامه سياسياً بالدرجة الأولى، ونسى المكتبة مع ما نسى من أمور ثقافية وقضايا فكرية كنا نصادفها فى طرقات المكتبة وبين رفوفها وداخل قاعاتها!!

لقد جنى مصطفى الفقى جناية لا تُغتفر على مكتبة الإسكندرية وإذا ظل على حاله فلا شك أن المكتبة سوف تُقبَر وتلقى حتفها قريباً، والحق أننا نريد للمكتبة أن تستعيد بريقها الذى كان، ونحن لا ننكر أن الدكتور مصطفى الفقى قادر على إدارة مكتبة الإسكندرية ليس فقط لكى تستعيد بريقها الذى كان فى زمن رئيسها السابق وحسب، وإنما قادر أيضاً على أن تستعيد المكتبة دورها الرائد فى تاريخ مصر وليس فقط فى عهد الإسكندر الأول، فقط ما نريده ونرجوه أن يعرف مصطفى الفقى أنه جلس على مقعد رئاسة مكتبة الإسكندرية لكى يقوم بهذه المهمة الثقافية والتنويرية، أما السياسة فعليه أن يتركها لأصحابها ولا ينغمس فيها ويقدم تصريحات هنا وهناك، لقد ظلم الرجل مكتبة الإسكندرية ظلماً شديداً وحولها من بوتقة لثقافات العالم إلى مجرد مكتبة عادية، ونسى أنها مثلما تختلف فى منشآتها وهى تغفو على شط بحر الهوى فى الإسكندرية لا بد أن تختلف فى أنشطتها أيضاً وتهتم بأشعار القارة السمراء وأدب أمريكا اللاتينية ومدونات أهل شمال أفريقيا، إن مصطفى الفقى -سامحه الله- جعلنا نذرف الدمع مدراراً على مكتبة الإسكندرية وحطم طموحاتنا التى كانت فى زمن إسماعيل سراج الدين فى أعلى عليين، وجعلنا ننسى الثقافة لتحل محلها السياسة بوجهها الكالح، التى تغير وجهتها كل صباح وفقاً لقاعدتها الذهبية «لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة وإنما المصالح هى الدائمة».. الثقافة فى أزمة ورئيس مكتبة الإسكندرية يتآمر عليها!