بين العلمانية والإسلام (7 - 7)

رجائى عطية

رجائى عطية

كاتب صحفي

الإسلام دين حياة لا يرتضى الجمود ولا يستسلم له

الإسلام بذاته دين حىّ، يفيض بالحياة، ويفيض على الحياة، ويحترم الحياة بكل معانيها ومقوماتها؛ ولا يرتضى التراجع عن الحياة، أو تجميد معانيها بالتحجر، فآيات الحياة نابضة حاضرة فى رياض الإسلام.. فى كتابه المجيد، وسنة نبيه، وفى أعمال النابهين الفاهمين الواعين لجوهر هذه الرسالة التى جاءت راعية للحياة، تحترمها وتحض عليها وتوفر لها مقوماتها وأسبابها، وترسم أدواراً للأحياء موصولة بهذه الحياة وبمعانى الجلال والكمال والجمال فيها.

فلا تبغى هذه السطور مقاومة التحديث، أو تقف ضد التجديد.

فهى تؤمن بالحداثة والتحديث، ومع مدنية الدولة، وضد الثيوقراطية والدولة الدينية، ومقصدها هو بيان أن آليات ذلك كله موجودة فى الإسلام، وأن الحداثة والتجديد ومدنية الدولة كلها فى بنية الإسلام، ومكفولة به.

لا مجال فى الإسلام للرجوع إلى الوراء

ذلك أن التجديد كما أسلفنا، وكما سنعود لاحقاً، لازمة من خواص الإسلام، نبه إليها رسوله (عليه الصلاة والسلام) فى أحاديثه، وحفل الإسلام إلى جوار هذه «الأدلة النقلية» على وجوب تجديد الدين بما دل عليه أيضاً «الدليل العقلى»، ليكون التجديد عصب الدين لمواكبة «الصيرورة» وملاحقتها بما يكفل الاهتداء إلى الصواب الموفق لما يستجد من ضرورات المكان والزمان والمستجدات فى كل عصر.

حياة الدين فى حياة مبادئه وقواعده

إن حياة الدين فى حياة مبادئه وقواعده وأحكامه، وقدرتها على ملاحقة وتغطية ما يعرض للناس غداً وبعد غدٍ، مثل قدرتها على تغطية ما عرض لهم بأمس وأمس الأول. ومن نفحات الإسلام أنه طُوِى على ما يكفل قدرة أهل الذكر من العالمين العارفين، أن يستخلصوا ويستنبطوا أحكامه، وأن يستخرجوا من كنوز قواعده ما يلاحق «الصيرورة» وحاجات الناس على امتداد الزمن. إن علم «أصول الفقه»، وهو علم المناهج التى انتهجها وينتهجها الأئمة المجتهدون فى استنباطهم وتعرف الأحكام الشرعية من النصوص القرآنية أو النبوية، والبناء عليها باستخراج العلل التى تبنى عليها الأحكام، وتلمس المصالح التى قصد إليها الشرع الحكيم.

وكان من وعى وعمق فهم الفقهاء المجتهدين أنهم ميزوا بين السنة والبدعة، ووضعوا لذلك الموازين، وميزوا فيما أُثِر عن النبى (عليه الصلاة والسلام)، بين ما قصد به التشريع، وبين ما لا يعد تشريعاً ولم يُقصد به التشريع، وميزوا فى التشريع بين ما يُعد تشريعاً عاماً، وبين ما يكون خاصاً أو وقتياً أو محدوداً بواقعة خاصة أو بزمن معين أو بظرف خاص. ولأستاذنا الجليل الشيخ عبدالوهاب خلاف بحث ضافٍ بعنوان «مصادر التشريع الإسلامى مرنة» (مجلة القانون والاقتصاد عدد أبريل/ مايو 1945) نبه فيه إلى أن السنة قد لا تكون فى كل الأحوال «تشريعاً عاماً» غير موقوت أو مخصوص وذا حجية ملزمة شرعاً للجميع وفى كل زمان ومكان وإلى يوم الدين، بيد أن من السنة ما كان تشريعاً «وقتياً أو زمنياً» ينتهى أثره بانتهاء أو زوال السبب الذى دعا إلى ما أمر به النبى (صلى الله عليه وسلم) أو نهى عنه. وضرب فضيلته أمثلة لذلك، منها قوله (عليه الصـلاة والسلام): «خالفوا المشركين: وفروا اللحى وحفوا الشوارب»، فصيغة نص الحديث ذاته تدل على أنه تشريع «زمنى» (أو ظرفى) روعى فيه زى المشركين وهيئتهم وقت التشريع والقصد إلى مخالفتهم فيه، وأزياء الناس متغيرة لا استقرار ولا ثبات لها.. ويلحق بهذا المقال بحث الشيخ عبدالجليل عيسى فى كتابه المعنون «ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين»، فضلاً عن الكتاب الضافى «دليل الأحكام» لفضيلة الشيخ الأستاذ محمد مصطفى شلبى الذى توسع فى بيان هذه الأحكام وضرب أمثلة لذلك، وأشار إلى ذلك فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت فى كتابه «الإسلام عقيدة وشريعة».

ولا يعنى ما تقدم أن المسلمين التزموا النظر الصحيح فى كل أوان، فإن الأديان تتعرض عبر الزمان لملصقات وزواحف ضارة بيد أن مناط قدرة الدين على تواصل تأثيره، مستمدة من البذور التى تحملها بنيته ومقدار ما فيها من قدرة على التعامل مع الأحوال المتغيرة. فالأديان ثابتة، وأحوال الناس فى الحياة المتعاقبة متغيرة متطورة. والدنيا بأسرها فى حالة «صيرورة» دائمة، وقدرة الدين على الاستمرار المتوهج، مرهونة بقدرته على حماية روحه وبنيته.. سواء من زحف الجمود، أم من زحف المصالح التى لا يفتأ الناس فى إلحاقها بالأديان فى كل العصور، لتتستر المصالح وراءها، وتستمد منها الشرعية والحماية.

ومن مطالب هذه الروح وتلك البنية، مواكبة مستجدات الحياة بما تستوجبه من إيجاد الحلول والإجابات، واستنباط القواعد التفصيلية من الأصول والقواعد الكلية لمواجهة مستحدثات العالم الذى لا يتوقف لحظة عن الاندفاع والجريان.

وفى رحلة الأديان، كل الأديان، عبر الزمان، تتعرض لملصقات وزواحف ضارة ليست من الدين، ومراجعة وتنقية هذه الملصقات التى لا تنتمى أصلاً إلى الدين، ضرورية ولازمة، وإن اصطدمت فى معظم الأحيان بالتحجر أو بسوء الظن الذى يتخيل أن التجديد فى الأديان تغيير لها، وأن تجديد خطابها ما هو إلا أحبولة لستر هذا التغيير فى الدين، ويدفع الناس إلى هذه الظنون تلال متراكمة من مصدقات لا تنتمى للدين ولكن استقر معظمها بتراكم السنين بلا نظر ولا بحث ولا تأمل!

ومن سلبيات ما تتعرض له الأديان، أن تتحول فى وجدان أتباعها إلى مجرد صيغ وقوالب ومقولات تردد دون فهم أو تفطن لمعناها ومقاصدها. وغالباً ما تنفصل هذه الصيغ عن روح الدين ومقاصده وغاياته.

فلا تقصد هذه السطور إلى براءة الممارسات من الخطأ فى كل الأحيان، بيد أن عدم الالتزام تقصير بشرى، وتداركه مكفول بذات مبادئ الإسلام، بلا حاجة إلى استعارة تنظير العلمانية.